حسّ اجتماعي مبكّر

حسّ اجتماعي مبكّر

لئن فقدت الكويت القاصّ المرحوم فهد الدويري, وفقد فيه أحباؤه الصديق المخلص, والإنسان الممتلئ عاطفة ورقة, فإنه قد ترك لنا تراثاً قيّماً من القصص الجميل, تناوله الكثيرون بالبحث, وعثروا فيه على مادة طيبة, تدل على نظرة إلى الحياة صوّرها أسلوبه القصصي الذي لم يكتف بالخيال, بل مزجه بالواقع حتى لقد قال عنه الدكتور سليمان الشطي: (إن الركيزة التي يعتمدها وينطلق منها ويلح عليها هي أنه يريد أن يجعل الإحساس بالواقع إحساساً قصصياً, أن يحطم الوهم من أن القصة شيء منفصل عنه).

وفي اعتقادي أن فهد الدويري قد فتح الباب أمام القصة الكويتية منذ شهر يوليو سنة 1948م حين نشر قصته الأولى المعنونة (من الواقع) فنال بذلك لقب أول قاص كويتي, ومع ذلك, فقد كان لهذا الرجل إسهامه في النشاط الثقافي والاجتماعي في الكويت حتى صار معروفاً بمشاركاته التي كان آخرها عضوية المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب منذ سنة 1973م.ولد فهد الدويري في سنة 1924م, وتعلم كما تعلم زملاؤه أمثال المرحومين أحمد البشر الرومي, وعبدالرزاق البصير, وأكبّ على القراءة يسابق فيما يقرأ أقرانه الذين كانوا يبادلونه هذا الاهتمام بحيث يصبح الكتاب متداولاً بينهم, والنقاش حول محتواه من أكبر اهتماماتهم.لم أكن أعرف شيئاً عن صاحبنا قبل أن تصدر مجلة الرائد الكويتية التي كانت نفحة من نفحات نادي المعلمين في سنة 1952م, وكانت مجلة رصينة مليئة بالمعلومات القيّمة والأبحاث المهمة, وقد صدرت شهرياً منذ مارس 1952م وحتى يناير 1954م, وكان فهد الدويري أحد ثلاثة يتولون الإشراف على تحريرها, وكان زميلاه في ذلك الأستاذين حمد الرجيب وأحمد العدواني.

ثم زاملته فترة من الزمن في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب, وتوطدت معرفتي به عن طريق المرحوم أحمد البشر, الذي تربطه به صلة قوية وقديمة, وكانت بينهما مراسلات كثيرة حتى أن البشر كان كثيراً ما يردد ذكره ويتحدث عنه, وفي أوراقه الخاصة ذكر الدويري خمس عشرة مرة في مواقف مختلفة.

ومع شهرة هذا الرجل في مجال القصة إلا أنني أجد له مجالاً مهماً كان قد طرقه في وقت مبكر في الكويت, ولو أنه استمر في البحث في هذا المجال, وتابع نشاطه فيه لوصل إلى نتائج مرموقة تفيد البلاد وترفع من شأن أبنائها, ولكن الوقت- فيما يبدو لي- لم يكن ملائماً لمثل هذه المشروعات الطموح, فعاد صاحبنا إلى ملاذه الآمن وهو كتابة القصة.

كانت الظروف في أوائل سنة 1952م تدعو الكويتيين إلى البحث في أمر الضمان الاجتماعي, وهذا الأمر بات ملحّاً إثر الظروف الاقتصادية التي كانت سائدة في أعقاب انتهاء دور الغوص, وقبل بروز النفط بصفته قوة اقتصادية دافعة تفتح مجالات الرزق أمام عدد كبير من أبناء البلاد, ففي هذه الفترة التي ذكرناها تطلع عدد من المثقفين إلى ما يدور في عدد من الدول, فوجدوا أن أسلوب الضمان الاجتماعي من الأساليب المعمول بها لحماية أفراد المجتمع من الوقوع في براثن الحاجة, ولرفع المعاناة عن كواهل المحتاجين, ولذا فقد سعوا إلى التعريف بهذا الأسلوب من أجل لفت الأنظار إلى أهميته, واستقطاب المؤيدين له بغية الوصول إلى تنفيذ ما يلائم الكويت منه, فكان دور مجلة الرائد بارزاً في هذا المجال, وكان فهد الدويري هو المتقدم إلى هذا الميدان الجديد, وهو المجال الذي ذكرت قبل قليل أنه طرقه, وأبدع فيه, ولكنه سرعان ما توقف عنه, ولو سار فيه إلى نهايته لكنا وجدنا لذلك الجهد نتائجه الباهرة, في ذلك الوقت.

في العدد الأول من مجلة الرائد الصادر في شهر مارس من سنة 1952, تناول فهد الدويري هذا الموضوع المهم, فكتب عدة مقالات تحت عنوان (الضمان الاجتماعي في الكويت) قدمت مجلة الرائد للمقال الأول منها بقولها: (كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن فكرة تطبيق قانون الضمان الاجتماعي في الكويت, ويسر الرائد أن تقدم هذا البحث, متوخية أن تفتح المجال لدراسة هذا المشروع الجليل, وعرض مختلف الآراء ووجهات النظر).

المشروع الذي تحقق

وكان المقال الأول بحثاً متكامل العناصر بدأه بالحديث عن الضمان الاجتماعي لدى البلدان الأخرى مؤكداً أن الأمم تتسابق إلى تنفيذ المشروعات الضمانية لخير شعوبها, وتسن القوانين الخاصة بذلك متوخية فيها تلبية حاجاتها وظروفها وأحوالها الخاصة.

وقد أكد في هذه البداية أن الكويت أجدر من أي بلد آخر بأن يطبق فيها مشروع الضمان الاجتماعي, وذلك لأسباب عدة, منها أن الكويتيين يكونون عائلة واحدة, مهما تشعبت بهم البطون والأفخاذ القبلية, ومن تلك الأسباب صغر مساحة البلد مما يتيح ضبط أموره بدقة تامة, وتوافر الأسباب المادية التي أنعم الله بها على البلاد أخيراً بظهور النفط, الذي حمل إلينا تباشير الوفرة المالية.

ونتيجة لما تقدم, فقد وجد أن الكويت لها وضع خاص بحيث يصعب نقل التجربة الأجنبية إليها بحذافيرها, ولذا, فإن من المهم دراسة هذه الحالة الخاصة للبلاد, واقتراح الوسائل المناسبة التي يمكن تطبيقها في ظروف مثل ظروف هذا الوطن.

ومن هنا, دخل في مجال الاقتراح العملي الذي يمكن عن طريقه الوصول إلى النتائج المرجوة, وهو الاقتراح المتمثل في التشريع الذي ارتآه ملائماً للتطبيق من حيث تلبيته للحاجة من ناحية, وتوافر الإمكانات من ناحية أخرى, وهكذا بدأ في تفصيل مشروعه.

تحدث أولاً عن موارد المشروع المالية, ولم ينس في هذا المجال المشاركة الشعبية إضافة إلى المشاركة الحكومية.

ثم تحدث عن الهيكل الإداري للمشروع.

كما تحدث عن الدوائر التي يتكون منها المشروع, ونظام العمل فيه. وفي مقال لاحق, حاول الدويري أن يقدم نموذجاً لتطبيق الضمان الاجتماعي, فكان أن استعرض النموذج المصري الذي اعتمد في سنة 1950م, وذكر كل جزئياته, وآلية العمل فيه, وقد حاول في الوقت نفسه أن يقارن بين النظامين المصري والبريطاني, وأن يتحدث عن الفرق بين ما يطمح إلى تحقيقه في الكويت وهذين النظامين.

وفي مقال آخر تحت عنوان (مسئولية الشعب) تحدث الدويري عن الجانب المقابل للضمان الاجتماعي الذي كان مشروعه مرتبطاً بالبذل الحكومي قبل كل شيء وهو هنا يؤكد أن الشعب ينبغي له أن يقوم بدوره في شتى المجالات الاجتماعية والثقافية من أجل النهوض بالمجتمع, وفي ذلك يقول: (إن العمران والحضارة التي نبنيها الآن تحتاج إلى مفاهيم للحياة تختلف كل الاختلاف عن مفاهيمنا الشعبية الآن, وهذه لن تكون دون تجنيد للتثقيف العام, وهذا بالطبع مجهود يسأل عنه المتعلمون منا).

سمو الهدف وصلابة الموقف

واستمر في حديثه هذا مطالباً الأغنياء بدفع جزء مما رزقهم الله للإسهام في دفع العمل الشعبي إلى الأمام, والمثقفين بالتآزر والعمل المشترك حتى يحققوا ما يصبون إلى تحقيقه من أجل وطنهم.

ويبدو أنه وجد بعض المشككين في جدوى الضمان الاجتماعي, وحاجة البلد إليه, فكتب مقالته الرابعة كي يرد على هذه الأصوات التي بدأت تثير الغبار في وجه هذه الفكرة, فقد وجد من يقول: إن الحكومة غنية, وهي في غير حاجة إلى من يساعدها من أغنياء البلد على تحمل مثل هذه المسئولية, ووجد من يقول كذلك: إننا نقدم زكاة أموالنا للأقربين, وهذا يكفي, ووجد آخرين يقولون: إن وضع نسبة معينة على أموال الأغنياء تستدعي الكشف عن دفاترهم وتدقيق حساباتهم مما يشكل خطراً على السوق نتيجة إفشاء أسرار الناس التجارية, وقد رد الدويري على كل تلك الحجج, وختم ردوده بقوله: (وأخيراً فإن مشروع الضمان الاجتماعي سيتحقق بكل تأكيد في عهد أميرنا الجليل, بيد أننا نأمل أن يكون لتجارنا فضل المبادرة في تنفيذه, وإننا لعلى ثقة من أن فيهم من يصبو إلى رفع الراية والتقدم في ميدان العمل), وسوف نرى أن هذه الكلمة المفعمة بالثقة قد آتت ثمارها فيما بعد, ولكن التنفيذ كان بأسلوب مختلف عمّا قرأناه لفهد الدويري, ففي تاريخ 1/10/1976م أنشئت الهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية التي تضم شريحة كبيرة من المواطنين عن طريق المعاشات التقاعدية والخدمات المتنوعة التي تقدمها لهم, كما أنشئ بيت الزكاة في سنة 1982م ليغطي احتياجات المواطنين الذين لم يتمكنوا- لسبب ما- من الاستفادة من مظلة التأمينات الاجتماعية. بالإضافة إلى أن وزارة الشئون الاجتماعية والعمل تقدم للمحتاجين منذ سنة 1954 مبالغ وصلت قيمتها إلى واحد وأربعين مليونا ومائة وأحد عشر ألف دينار في سنة 1998م, بالإضافة إلى ما تقوم به هذه الوزارة من إنشاء دور الرعاية للأيتام, وكبار السن, وعنايتها بالجانحين من الأطفال, وما تقوم به المؤسسة العامة للرعاية السكنية من رعاية سكنية لأبناء البلاد سدّت حاجات الآلاف منهم إلى المساكن الخاصة, وهي كلها مشروعات تغطي- فيما نرى- الآمال التي كانت تراود فهد الدويري, ويبقى له فضل السبق في بحث هذا الأمر وتوجيه الأنظار إليه حتى تحقق على وجه فيه كل ما يطمح إليه الطامحون.وهكذا نرى أن صاحبنا لم يكن كاتباً عادياً, ولم يكن قاصّاً فقط, ولكنه كان مرشداً اجتماعياً له نظرته إلى حاجات مجتمعه, وله اهتمامه بشئون أبناء هذا المجتمع.

رحم الله فهد الدويري, فقد كان رائداً من جيل الرواد في الكويت, وكان عطاؤه مستمراً, وحرصه على البذل من أجل وطنه لا ينقطع.

 

يعقوب يوسف الغنيم

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات