قراءة نقدية لكتاب "سِدرة المنتَهى"

مجموعة قصصية من تأليف سعيد الكفراوي

"من أجمل ما تهديه تلك المجموعة القصصية لقارئها، ذلك الفيض من المشاعر البكر  المفاجئة والمتدفقة، النابعة من أزمنة سحيقة وأرض ربما لم تطأها قدماك من قبل في الواقع أو في الخيال، ومراحل من العمر ربما لا تفكر في العودة إليها، أو مراحل قادمة قد لا ترغب في مجرد التفكير في أنك ذاهب إليها لا محالة..!.."

تضم هذه المجموعة ثلاث عشرة قصة قصيرة، تنتظم هذه القصص - بترتيب الورود في المجموعة - في أربعة أقسام، القسم الأول تحت عنوان عام "في البدء كان الصبي" ويضم ثلاث قصص هي "تلة الملائكة"، "الطين"، "المتاهة" والقسم الثاني تحت عنوان "شمس حَرّه" ويضم: "عشب مبتل"، "الأرض البعيدة"، "العروس" والقسم الثالث بعنوان "وسَعاية العم دهر" ويضم: "قَصَّاص الأثر"، "الأمهري"، "زاد من رمال" والقسم الرابع بعنوان  "يالله حسن الختام" ويضم: "ضربة قمر"، "كل تلك الفصول"، مأوى للطيبين" "للبحر... لآخر المدى"، "مبرر للموت"، ولم أعمد إلى هذا العرض المفصل لمحتويات المجموعة لمجرد تعريف القارئ بالفهرس، بل لأننى أزعم أن ترتيب قصص هذه المجموعة بهذا النسق هو جزء من تأليف الكتاب، وبالتالي فهو جزء من قراءته، صحيح أن كل قصة من هذه القصص كتبت وحدها، في زمنها الخاص، ونمت من بذرتها الخاصة، وصنعت وجودها المستقل، إلا أن الكاتب حين أراد أن يقدم لنا كتابه، رأى - فيما أتصور - أن هذه القصص حين توضع في هذا الترتيب، قد تحمل إلى القارئ دلالات جديدة تتجاوز ما تحمله كل قصة على حدة، على الأقل هذا ما افترضه في هذا المقال.

في البدء كان الصبي

تحت هذا العنوان العام، نقرأ القصص الثلاث الأولى في المجموعة، ونلاحظ أن بطل هذه لقصص هو صبي واحد اسمه عبدالمولى وأن الكاتب لا يعنى بتقديم سمات فردية مميزة لعبد المولى سوى أنه طفل يضج بالحيوية، وبالرغبة في أن يعرف ويكتشف، فيغامر بقيادة مجموعة من الأطفال إلى "تلة الغَجَر" التي يُحَذِّره أهل القرية من الذهاب إليها، [قصة تلة الملائكة] وحين يتسلل رفاقه عائدين إلى القرية لأن الفانوس الذي كان يحمله "عبد المولى" قد انطفأ، ولأنهم يخافون من العفاريت التي تظهر في الظلام عند "تلة الغجَر"، يمضي عبد المولى وحده، فهو يعرف أن العفاريت لا تظهر في رمضان وأن هذا الظلام سوف يزول حين تضيء السماء بليلة القدر وأنه سوف يرى الملائكة وهي تنزل من السماء، وقد يرى "جليلة" الغَجَريَّة الجميلة التي تأتي أحياناً إلى بيتهم في النهار وتضمه إلى صدرها..! إن حلم "عبد المولى" يختلط فيه الأرضي بالسماوي، وما يحدث له في تلك الليلة يقع في المنطقة التي يختلط فيها الحلم بالواقع، فأنوار "خِيام الغَجَر" تضيء السماء وأغانيهم ورقصاتهم تفتح عينيه على حدائق مزهرة تطوف بها الملائكة، ويبقى المهم أننا في هذه القصة نلتقي بصبي قادر على تجاوز حدود القرية، وعلى أن يتحدى مخاوفه جرياً وراء أحلامه يبحث عنها في الواقع، فإذا لم يجدها كاملة راح يصنعها في حلم نصفه على الأقل حقيقة في قصة "الطين"، نجد عبدالمولى نفسه يتقدم خطوة جديدة في تحقيق أحلامه ورؤاه، لم يعد يكتفي بأن يراها في الحلم بل إنه معنا يصنعها بيديه، يأخذ قطعة من طين الترعة، ويصنع منها تماثيل تُجَسد هذه الرؤى والأحلام، فيصنع بقرة بضرعين، ومهرة مجنحة وطائراً برأسين، ثم يحرق هذه التماثيل في النار حتي تستوى تماثيل حقيقية، يقول له جده الذي أعطاه فانوساً في القصة الأولى لينير له طريقه لمغامرته الأولى:

- والله "براوة" عليك يا ولد، ناقصها الروح وتنطق!

وكأن هذا الجد هو الذي يغذي روح الإبداع والخلق في هذا الطفل في كل خطوة يخطوها، ويتساءل الصبي في شبه إنكار:

- هي من طين يا جدي!

- كلنا من طين، ونفخ فينا ربك الروح!

وهكذا يفتح الجد أمام الصبي آفاقاً أوسع للسؤال والبحث والحلم!

فيمضي عبدالمولى في خطوات أبعد، بحثاً عن أحلام ورؤى جديدة خارج القرية ذاتها، إنه هذه المرة يصر على أن يذهب وراء عمه "أحمد" متخفياً ليرى السينما في المدينة المجاورة، إن عمه يقول له سوف آخذك معي بعد أن تكبر، ولكنه لم يعد يطيق الانتظار وتسجل قصة "المتاهة" تجربة رؤيته للمدينة ولفيلم "لص بغداد" في سينما المركز، حيث يرى بعينيه هذه المرة الحصان الطائر والبساط السحري، ويضع قدميه لأول مرة على عتبات المتاهة الكبرى التي اسمها الحياة!

سيرة ذاتية للكاتب أم لقريته؟

قد تشكل لنا القصص الثلاث الأولى إغراء بالظن بأننا أمام نوع من السيرة الذاتية للمؤلف، وأننا نرى لمحات من طفولته من وراء قناع عبد المولى، وقد يكون هذا صحيحاً بالنسبة للقسم الأول من الكتاب، ولكن بقية الأقسام تسحب هذا الإغراء، وتجعلنا نميل إلى الاعتقاد بأننا أمام نوع من السيرة لدورة الحياة في قرية مصرية، وأن الفصل الأول كان عن حياة الطفل في هذه القرية، وهذا يفسر لنا أن عبد المولى لم يقدم لنا من خلال سمات شديدة الخصوصية، فالأطفال في القرية في جملتهم ينمون ذلك النمو الطبيعي الذي يضج بالحيوية، والرغبة في المعرفة والمغامرة، ويحصلون على إرثهم المشروع من الخيال والأحلام وروح الإبداع والخلق، لكن ما الذي يحدث لهذا كله حين تمضي دورة الحياة في طريقها المرسوم في قرية مصرية؟

شمس حَرَّة

تحت هذا العنوان نقرأ القصص الثلاث التالية في المجموعة، وهي "عشب مبتل"، "الأرض البعيدة"، "العروس"... وفي هذه القصص، يقترب الكاتب من تجربة الجنس والحب في حياة القرية بطريقة تشي بأن البطل الحقيقي في هذه التجربة ليس هو شخصيات بعينها في هذه القصص، بل هو الزمان مرة والمكان مرة ثانية، وتفاعل الزمان والمكان مرة ثالثة!

ففي قصة "عشب مبتل" لا نكاد نعرف عن شخصية الرجل سوى أنه شاب وقع في حالة افتتان بجسد امرأة جميلة ظل يترصدها وقتاً طويلاً نما خلاله عشقه لها، بينما كل ما يعرفه ونعرفه عن شخصية المرأة أنها وحيدة تعيش حالة حرمان أنضجه غياب زوجها المسافر... تجسد القصة لحظة الاغتصاب، ثورة المرأة لانتهاك الرجل لبيتها وحريتها، وتمزقها بين ضعفها النابع من عمق احتياجها وحرمانها، وخوفها من جنون الرجل الذي يبدو في لحظة وكأنه الاعتذار الوحيد الممكن عما لحق بها من عار!

وحين تجيء لحظة يلوح فيها أن المرأة يمكن أن تقتل الرجل الذي يغتصبها، يكون الوقت قد فات وأنها أصبحت تؤثر بقاءه حياً على الأقل في تلك اللحظة!

البطل هنا هو الزمن بفعله في اتجاهين مختلفين، بحيث لا يصلح الفعل الجنسي وحده لبناء علاقة أو عاطفة!

في قصة "الأرض البعيدة" يلعب المكان دوراً في تحقيق الفعل الجنسي الذي يبدو وكأنه يحدث دون سبق إصرار أو ترصد من الرجل أو من المرأة فكلاهما بالنسبة للآخر عابر سبيل...!

فالمشوار الذي قطعه بائع الغرابيل حتى وصل إلى هذا البيت النائي في أرض مستصلحة كان شاقاً، والدنيا كانت حارقة، وحين وجد مكاناً فيه ظل وماء وامرأة وحيدة لم تتردد في إطعام حماره بدا الأمر وكأن الأقدار هي التي بثت الإغراء في طريقه، ومع أن المرأة كانت قد أخبرته أن زوجها في السوق، فقد فعلت ذلك بطريقة تنم عن شعورها الحقيقي بالوحدة، وربما كان احتياجها إلى من تتحدث إليه أعمق من احتياجها للجنس، ولكن المكان الغادر المقفر من كل أحد، جعل من لقائهما الجنسي نوعاً من القدر، ويستكمل القدر دورته بعودة الزوج الذي يفاجأ بما يجري في بيته، فيمد يده إلى البندقية التي اشتراها يوماً ليحمي بها حياته في هذا المكان النائي، ولكن يد بائع الغرابيل تكون أقرب وأسرع إلى منجل معلق على الحائط، وبضربة خائفة ويائسة يقتل الزوج، ويخرج وهو يردد في لهجة اعتذارية:

- يا روح ما بعدك روح!

ويبدو المكان هنا وكأنه الفاعل الحقيقي للحظة الحب ولحظة القتل معاً!! وتأتي لحظة القتل التي لم تسبقها كراهية وكأنها المعادل الصحيح والعبثي في الوقت ذاته للحظة الجنس الذي لم تسبقه عاطفة!!

في قصة "العروس" يتآمر الزمان والمكان على البنت "مضاوي" العروس التي تنتظر زفافها بعد أيام، ففي صباح يوم من أيام الربيع الذي تقول عنه الخالة هانم الماشطة "في الربيع تعم الخطايا وتزكم الفضائح الأنوف" فوجئت "مضاوي" بأن "حنوره" - أهبل القرية - يستحم عارياً في البئر المحفورة أمام منزلهم الخالي ويبدو الأمر وكأن الظروف أتاحت لها فرصة أن تتفرج على جسد كامل وعقل ناقص لن يحاسبها على ما تفعل، ولكنها وهي تمعن في لعبتها التي جاءت وليدة المصادفة تقع في أسر جسدها وجسده في لحظة واحدة ينتظرها بعدها العار أو الموت، ولكن الخالة هانم الماشطة التي تعرف عن أسرار القرية، أكثر مما تعرف "مضاوي" تمارس دورها لكي يتم الزواج في موعده دون عارٍ أو قتل هذه المرة!

هنا نلاحظ أن اختيار الكاتب لهذه النوعية من تجارب الحب والجنس، وهي التجارب التي تأتي في المرحلة التالية لمرحلة الطفولة يعزز الاستنتاج بأن الكاتب يؤرخ لدورة الحياة في قرية مصرية وليس لشخصيات بعينها، حيث يغيب دور الشخصية في هذه القصص كما تختفي ملامحها الخاصة ويْبقَىَ الدور المؤثر للبيئة والزمان والمكان.

وهنا أيضاً يأتي السؤال: هل يقصد الكاتب - باختياره لهذه النوعية من تجارب الحب والجنس التي يكاد يشجب فيها دور الجنس كقوة مانحة للحياة، ومفجرة للإبداع والعمل - إلقاء نوع من الضوء أو التفسير لما سوف يعوق روح المغامرة والإبداع والركبة في المعرفة التي رأينا بداياتها في طفولة عبد المولى؟ لعله من الأنسب أن نواصل الرحلة مع بقية قصص المجموعة!

يولدون ويشيخون

في تقديمه لقصص القسم الثالث من المجموعة وهى: "قصاص الأثر"، "الأمهري"، "زاد من رمال" يقول المؤلف: "في وسعاية العم دهر رأيتهم هناك يولدون ثم يشيخون"، مع أن هذا التعليق لا يدخل صلب أية قصة من هذه القصص الثلاث، إلا أن القارئ لا يمكن أن يتجاهل العلاقة بينه وبين دلالات هذه القصص ففي هذه القصص الثلاث تكاد تختفي تجربة الحياة في هذه القرية، وهي التجربة الخصبة الثرية التي نتوقع أن تأتي بعد الطفولة ومع تفجر الجنس وتوازيه حتى لحظة النهاية، في هذه القصص الثلاث تفقد تجربة الحياة حضورها المتفجر في مرحلة الطفولة ومرحلة الحب والجنس، ونراها من خلال تذكر الماضي واستدعائه، فالبطل في قصة "قصاص الأثر" يقول: "من سنين عديدة والمسرات قليلة في هذه الأنحاء، فمنذ ارتفع نجم اللوطي والجزار ومالك العقار، وراقصة الملهى والمؤرخ الكذاب في سماء الوطن السعيد تأكدت من تغير الأحوال، وقلت لنفسي انتبه، عليك بالبحث عن الشيء المغاير!"

ويدفعه الحاضر المرير والخالي من المعنى إلى تأمل الماضي وتذكره والجري وراء رموزه في المتاحف والمساجد والكنائس، و "لما تحولت معارض التحف إلى بنك ومطعم وجراج ومعارض لبيع السيارات ماركة "فورد"، و "شركات سياحية" قال له أحد التجار "عليك بالمزادات"، وفيها كان يرى رموز الماضي الجميل تباع مثل كل شيء وكان يقول لنفسه (غايتي أن أستحوذ على زمن يضيع)!

ويتساءل: هل يظل قلبي مشغولاً بما فات، أسيراً لظني الثابت. وفي قصة "الأمهري" وهي واحدة من أروع قصص المجموعة نلتقي من خلال الراوي بشخصية كهل يتذكر ماضيه، ويكشف في بساطة مذهلة عن حقائق أليمة ولكنه من طول ما ألفها فإنه ينطق بها في بساطة تفجر أعمق المشاعر.. في نفس الراوي وفي نفس القارئ، وتلك هي المفارقة البديعة في هذه القصة، فالصدام العفوي بين زمن الكهل وزمن الراوي واختلاف الرؤى والتقدير والمعلومات يمنحان هذه القصة قدرتها الفائقة على أن تكون في غاية البساطة والعمق والتأثير في وقت واحد!

وفي قصة "زاد من رمال" يعود الراوي إلى قريته بعد غيبة طويلة، ونكاد نلمح في شخصية الراوي ملامح عبد المولى وقد كبر، إن الطريق إلى القرية شاق وطويل وبخاصة في ليلة مظلمة، وهو يسمح للعائد بأن يستعيد طرفاً من ذكرياته القديمة عن القرية، ونكاد نتوقع أن نرى لأول مرة شيئاً عن تجربة الحاضر في القرية في ضوء هذه المقارنة بين ما يتذكره الراوي من ذلك الماضي وبين ما سيراه بعينيه بعد قليل، وطبعاً كانت صورة الجنية والعفاريت التي تحداها في طفولته المتوثبة بفانوس جده، وبمأثوراته الدينية التي كانت تسجن العفاريت في رمضان، ضمن ذكرياته، وتكمن السخرية المريرة من فكرة التغير التي نتوقع أن تكون قد حدثت للقرية وناسها بعد هذه الغيبة، حين نجد الراوي نفسه يؤكد لنا أنه رأى بعينيه وليس في خياله أو أحلامه الجنية التي كان يسخر منها في طفولته، وهي تجلس تحت السدرة العتيقة على مدخل القرية في انتظاره! فهل نبقى بعد ذلك راغبين فى أن نواصل معه الرحلة إلى الزمن الحاضر داخل القرية؟؟

الموت الجميل

حين يكون الحاضر بهذه القساوة، فلا غرابة أن تتحول طاقة الحياة المحبطة في داخل الناس في القرية لتجعل من الموت تجربة جميلة، ومحطة أخيرة مؤنسة، ومن الموتى مخلوقات سعيدة راضية في قبورها!!

تقترب القصص الأخيرة في المجموعة كلها من تجربة الموت، وهي تؤرخ لنهاية دورة الحياة في قرية مصرية في قصة "ضربة قمر" ترى أم هاشم حلماً غريباً تشاهد فيه زوجها الذي مضت سنوات بعيدة على موته... يعاتبها لأنها نسيته، ولم تعد تزور مقبرته، ومع أنها تزوجت مرة أخرى بعد وفاته، وأنجبت أطفالاً أصبحوا رجالاً، فإن هذا الحلم يذكرها بتلك الأيام القليلة الجميلة التي عاشتها مع عبدالمنعم زوجها الأول الذي انخطف منها في عز شبابه، وتقرر أن تزور مقبرته، لكن كيف تفعل ذلك الآن؟ وكيف تبرره لزوجها؟

تقول لها جارتها أم سيد

- لا تخبري زوجك

- أكدب..على آخر الزمن أكدب!

وتصمم على أن تخبر زوجها لأنها لم تكذب عليه أو علي نفسها يوماً، وحين يبدي زوجها ذهولاً وعجبا، فإن ذلك لا يثنيها لحظة عن عزمها الأكيد... وأمام هذا التصميم الذي لم يفهمه الزوج، وربما لا تفهمه الزوجة نفسها، يقول لها أبو هشام:

- "يا ولية" ما تنسيش تاخدي معك برتقال وقرص رحمة ونور على أرواحنا وأرواح المسلمين!

أما القارئ فمن المؤكد أن الرسالة التي يبعث بها الكاتب من وراء هذا التصميم قد وصلته!

في قصة "مأوى للطيبين" نلتقي بشخصية "الحاج أبو رية" الذي أصبحت مشكلة حياته أن يبني لنفسه مقبرة لائقة بموته، فهو لا يريد أن يدفن في مقبرة بالية، وكانت حياته البسيطة الطيبة ترجمة لدعائه المأثور: "اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً، وتوفني إن كانت الوفاة خيراً" ونتابع في القصة الجميلة التي تجيء على لسان الراوي الذي يحمل ملامح عبد المولى نفسه، صوراً من حياة ذلك العم الطيب الذي يتحقق حلمه بمقبرة لائقة، لكن ماذا يقول لَّحاد القرية للناس وللراوي بعد سنين من وفاة العم، وقد دخل المقبرة ذاتها ليدفن فيها ميتاً جديداً.

"يا بني ما رأيته لا يصدقه الخيال ولا خطر على قلب بشر، كان عمك كاملاً كمن دفن البارحة، لم يبل منه الكفن ووجهه كان مكشوفاً ينام في وقاره، أخذتني الدهشة عندما رأيت في سقف المقبرة، في فجوة ليست عميقة قرصاً من عسل، يطن النحل ويدور في دورات، رأيت الخلية تطفح عن آخرها عسلاً، وكان العسل ينساب في خطوط حلوة، ويتساقط من سقف المقبرة إلى فم عمك المفتوح، لحظتها روعت وأدركت بفطرتي: أن الطيبين في الدنيا هم الطيبون في الآخرة!".