ذلك الكاتب .. وتلك الأيام!!

ذلك الكاتب .. وتلك الأيام!!

من واقع رسائل متبادلة بين الدويري والأنصاري

أما الكاتب, فهو الراحل الكبير فهد الدويري, وأما الأيام, فهي تلك الأيام التي شهدت بدايات النهضة المدنية في الكويت, ولعلها شهدت بدايات فهد الدويري كاتباً صحفياً, وقاصّاً رائداً في مجال القصة القصيرة بالذات في الكويت.

(ذلك الكاتب.. وتلك الأيام)?!!... أعلم أن في تضاعيف ذلك العنوان الموحي ما يشي, وإن بطرف خفي ربما, بما يمكن أن يكون لمن يختاره عنواناً لما يكتب من ادّعاء بمعرفة وثيقة بذلك الكاتب وتلك الأيام, ولا يبدو بحال أن هذا صحيح بالطبع, فما الذي يمكن أن تعرفه كاتبة تنتمي لما اصطلح على تسميته بالجيل التسعيني عن كاتب بدأ الخطوة الأولى في درب الكتابة منذ بدايات الأربعينيات في هذا القرن, غير ما قرأته له من نثارات صحفية صغيرة طوتها بطون الصحف والمجلات التي كانت تصدر في ذلك الزمن القديم نسبياً, ولم يبق منها الآن غير ذكريات الريادة ومحفوظات الأرشيف الصفراء, وغير ما قرأته له من قصص قصيرة تفاوتت في مستواها الفني تفاوتاً هائلاً, وهي على أي حال كسابقتها من المقالات, مازالت منتشرة هنا وهناك, دون أن يضمّها كتاب يمكن أن نطلق عليه مجموعة قصصية تحمل عنواناً مختاراً من قبل كاتبها أو حتى توقيعه?! بل ما الذي تعرفه كاتبة تسعينية عن كاتب انكفأ على ذاته المتعبة, ونفض يده من بلل الكتابة وهو الغريق فيها فعلاً منذ زمن مبكّر جداً حتى وهو يعود إليها منذ سنوات قليلة جداً بكامل لياقته الكتابية وحيويته الإبداعية التي لا يبدو أنه غادرها أو أنه هجرها فعلاً إلا في سبيل المزيد من التعاطي, وبما يليق مع ما وصل إليه من مستوى, وبأدواتها التي تناسب روح العصر ونكهته الجديدة?

لقد عاد الدويري إلى الكتابة فعلاً بعد طول غياب عام 1992 برواية بعنوان (ريح الشمال), وقد صادف فعلاً أنني كنت على تماس وشيك معه عبر أجواء نشره لتلك الرواية عندما اختار الكاتب الراحل نشرها في الصحيفة التي كنت أعمل محررتها الثقافية, والمسئولة فيها بحكم وظيفتي تلك عن نشر تلك الرواية بعد إعدادها الصحفي للنشر على حلقات خاصة, وأن الكاتب الراحل, على ما أذكره قد سلّمها للنشر كاملة مما لا يناسب فكرة النشر في صحيفة يومية, لكن هل يكفي ذلك الظرف العابر لمعرفة الرجل? هل تكفي لتكوين معرفة حقيقية تلك الكتابات والترجمات التي تناولته وتناولت دوره في إرساء قواعد المقالة الصحفية والقصة القصيرة في الكويت, بما فيها ذلك الكتاب الوحيد الذي ألفه عنه الأستاذ خالد سعود الزيد وتوّجه فيه شيخاً للقصّاصين الكويتيين? ستكون الإجابة على تلك التساؤلات المباشرة بـ(لا) مباشرة أيضاً, لكن يبدو أن بين سؤال مباشر وإجابة مباشرة الكثير من إمكانات البحث عن طرق ودروب غير مباشرة يمكن أن يسلكها من يريد البحث عن معرفة ما, ولعل فيما يمكن أن يعثر عليه المرء من أدوات بحثية تأتي بها الصدفة في كثير من الأحيان خير معين على بلوغ الهدف النهائي.

مكاتبات لم تر النور

(ذلك الكاتب.. وتلك الأيام)... سبيلي الإضافي الجديد إليه وإليها الآن مجموعة صغيرة من الأوراق الصفراء ظل صديق الكاتب الراحل فهد الدويري الأستاذ عبدالله زكريا الأنصاري محتفظاً بها طوال أكثر من نصف قرن, ويبدو أنه كان محتفظاً بما هو أكثر منها بكثير مما تساقط من بين تضاعيف الأيام بحوادثها المفاجئة, وتصاريفها غير المتوقعة, أما لماذا تحمّل الأنصاري عناء الاحتفاظ بتلك الأوراق طوال تلك السنوات الماضية, فلأنها رسائل.. مجرد رسائل شخصية من صديق إلى صديقه, ولا ينبغي لصديق أن يفرط في رسائل صديق حتى وإن تجاوزت تلك الرسائل (الشخصية) كل ما هو شخصي في أمر تلك الصداقة إلى ما هو عام بالقدر الذي يتعلق باهتمامات فكرية وأدبية مبكّرة لدى كلا الصديقين الشابّين في ذلك الوقت.

والرسائل التي بين يدي الآن مما تبقى من تلك الرسائل التي يذكرها ويتذكرها عبدالله زكريا الأنصاري هي ثلاث رسائل مكتوبة وفقاً للطريقة التقليدية المعتادة في كتابة الرسائل وموجهة كلها من فهد الدويري إلى صديقه عبدالله زكريا الأنصاري بهذه الصيغة: (حضرة الأخ الأجل والصديق الأوحد عبدالله زكريا الأنصاري الموقر تحية وتبجيلا), أو: (صديقي وأخي قديماً وحديثاً وإلى الأبد عبدالله زكريا الأنصاري الموقر.. تحية طيبة) أو: (عزيزي الأخ عبدالله زكريا الأنصاري المحترم.. بعد التحية وتقديم مزيد الأشواق لمشاهدتكم), وبالإضافة إلى تلك الرسائل الثلاث هناك بين أوراق الأنصاري الصفراء مما يسميها بالرسائل دراسة للدويري بعنوان (العرب والإسلام والتجديد) يلخص الكاتب مضمونها بعبارة تعريفية ترد في بدايتها يقول فيها إنها (بحث مجمل عن العرب والإسلام وتجديدهم الذي يدعون, وكيف يجب أن يكون), وبعد أن يوقع الدويري تلك العبارة التعريفية بالحرفين الأولين من اسمه العائلي الحقيقي (ف.م) يعود لينوّه بأن هذا البحث (هديتي إلى الصديق ع.ز), وبالإضافة إلى هذا البحث تضم مجموعة الأوراق بحثاً آخر يبدو أنه ملحق برسالة تعريفية به, ولكن هذه الرسالة غير موجودة بين الأوراق التي بين أيدينا, ومما يدل عليها أن البحث المشار إليه غير معنون رغم أن صفحاته مرقمة من الصفحة (1) وحتى الصفحة (17), و, وهو يختم هذه الدراسة بتوقيعه الشخصي ثم بسطر أخير يقول فيه (بعد هذه الدراسة تعليق عليها ثم دراسة فلسفة نيتشه), وبالفعل هناك ورقتان ملحقتان بها بعنوان (التعليق على فلسفة ديكارت), وقراءة ذلك البحث مجهول العنوان يدل بالفعل على أنه يعنى بالبحث في فلسفة ديكارت.

ولعل أول ملاحظة يمكن أن يلحظها قارئ تلك الرسائل أنها مكتوبة كلها بخط يد فهد الدويري الدقيق الجميل, والذي لم يكن يخلو من بعض الأخطاء الإملائية البسيطة وخاصة ما يتعلق منها بمكان رسم الهمزة أو إبدال حرف الظاء بحرف الضاد وفقاً لطريقة نطق الحرف الأول في اللهجة الكويتية, ولعل مما يغفر له وقوعه في تلك الأخطاء تلك الفترة المبكّرة من عمره والتي كتب فيها جلّ تلك الرسائل, خاصة وأنه كما يذكر الأنصاري مجرد طالب في المدرسة لم يكمل تعليمه بعد. لكن لغته كانت قد بدأت بالتميّز بالفعل وإن شابها بعض التكلف الذي قلّما ينجو منه كاتب من كتّاب ذلك العصر المنبثق من رحم جو ثقافي وأدبي راكد إلى حد ما, ومستكين إلى ما ورثه من أسماء وأصوات ثقافية وأدبية تقليدية, كويتية أو عربية, ومن اللافت أن الدويري قد استخدم التواريخ الهجرية في تأريخه لبعض رسائله, في حين يستخدم التاريخ الميلادي في بعضها الآخر, وقد جاءت إحداها مغفلة التاريخ.

وقد تنوّعت موضوعات الرسائل المنبسطة أمامنا, لكنها رغم تنوّعها لا تكاد تخرج عن موضوعات الفكر والأدب والفلسفة وأحوال المجتمع والدين أيضاً.

وربما تخرج الرسائل المفقودة عن هذا الإطار العام الذي ينظم داخله ما هو موجود منها. ففي الرسالة المؤرخة بـ 26/9/1380هـ (وهو ما يوافق 16/10/1941م) مثلاً يكتب الدويري لصديقه الأنصاري عن رأيه في (... هؤلاء الشبّان المتغطرسين الضالين) ويقول له: (.. ثق أنك ستفشل في ردع بعض من أصدقائك الذين يجرون مجرا (كذا) هذه الشبيبة النسوية, وستتحطم جميع آمالك, وستضرب جميع أمانيك. فإنهم أغنام لا يفهمون الكلام) ويكمل الدويري رسالته المبكّرة تلك, والتي استغرقت صفحتين, بأبيات شعرية ركيكة قبل أن يوقعها باسم مستعار هو (أبو العتاهية الصغير) ثم باسمه الحقيقي.

ناقد ودارس للفلسفة

وفي الرسالة المؤرخة بـ 20 فبراير 1944 شرح فلسفي محض لفلسفة ديكارت يستغرق أكثر بقليل من 61 صفحة, ثم تعليق عليها في صفحة ونصف يقول في بعضه: (كلما قلت لنفسي إنني استطعت أن أتصوّر خطة لفلسفة ديكارت على خط مستقيم رجعت فرأيت أني لم أبلغ ما تصوّرت استطاعته, فكانت هذه الفلسفة تسير على خطة الوقت, فيما أنها لا تستطيع أن تسيّره وحدها دون المؤثرات العديدة ومن بين هذه المؤثرات الكثيرة تأثيران يجبرانها على السير معهما دائما..), ولعل من يقرأ تفاصيل شرح فلسفة ديكارت كما كتبها الدويري وتعليقه عليها بتلك الدقة والوعي يستغرب أن يكتب مثل هذا في إطار الأربعينيات الكويتية حيث مازال التعليم في بداياته الأولى, ومصادر المعرفة لا تتجاوز بعض الكتب التقليدية عن الأدب العربي والدراسات الدينية والتاريخية وبعض المجلات العربية التي كانت تصل إلى الكويت من الخارج بشكل غير منتظم.

لكن يبدو أن شغف الدويري بالقراءة دفعه للبحث عن مصادر المعرفة والكتب الحديثة في مظانها في البلاد المجاورة التي كان يتردد عليها. ويبدو أن الدويري لم يكتف بفلسفة ديكارت, فهو يختتم رسالته السابقة بسطر يشير فيه إلى دراسة أخرى كتبها عن فلسفة نيتشه.

وفي الرسالة المؤرخة بـ 27 ج2 63 (وهو ما يوافق 18 يوليو 1944م) يحاول الدويري البحث عن السبب الذي جعل من الشعر الإسلامي, أي الذي ينتمي تاريخياً لعصر صدر الإسلام, أقل شأناً وقيمة من الشعر الجاهلي, وبعد أن يستعرض الأسباب الكثيرة التي قال بها آخرون يعود فيرفضها ويقترح ما يراه سبباً حقيقياً وهو ما يسميه بموانع الدين, ويقول (.. ما فائدة الشعر إن لم يكن حرّاً طليقاً, لا تأسره قوة, ولا يردّه أحد, إذا قلنا للشعراء اقتصروا على الذود عن حمى الدين موقفين أنفسكم على شهره كسلاح في وجه أعدائه, ارتبكوا وقلّ نتاجهم كما كان في صدر الإسلام تماماً, وإذا زدنا وطالبناهم إلى جانب ذلك أن لا يقول أحدهم بيتاً في الشعر إلا وهو حق واقع داخل ضمن نطاق المعقول المفعول الذي لا يتطرّقه شيء من التهويل والمبالغة زادت كسافة شمس الشعر, ومحق بدره ومات..).

وفي رسالته المؤرخة بـ 14 نوفمبر 1945 والتي استغرقت ثماني صفحات ونصف الصفحة يبدو الدويري مضطرباً نفسياً تجاه أهمية الكتابة بالنسبة إليه, وهو يقسم رسالته إلى قسمين يعلق في القسم الثاني منها على تلخيص الأنصاري لقصة علي الجارم (فارس بني حمدان) والذي سبق وأن أرسله إليه, وفي الأول يبلغ اضطراب الدويري مداه, فرغم أنه يعيب على الأدباء الكويتيين آنذاك إحجامهم عن النشر, ويرجع ذلك إلى عدة أسباب يضع على رأسها إحساسهم بما يسمّيه مركب نقص, إلا أن هذا الانتقاد لم يمنعه من التمهيد له بإعلان توقفه عن الكتابة, فيذكر الدويري أنه لم يعد يكتب شيئاً منذ فترة طويلـة, وأنه (.. مادام ما أكتبه هذر, جعجعة ولا طحن, كلاماً لا يصح أن يقوله إلا من حرم نعمة الذوق, فسلام ولن أكتب شيئاً بعد الآن..) ويضيف في فقرة أخرى (.. فوداعاً أيها الأدب, ووداعاً أيها التفكير العام الذي لم نخلق له. أما أنت أيتها النفس الملعونة فحذار أن تغلبيني على نفسي, وكفاك أن تقرئي وتسمعي فتستمتعي بالقول الذي ليس كهراء صاحبك وهذيانه اشربي مما يسقيك الساقون, ولكن إياك والمزاحمة على ورد العباقرة أرباب النضج وذوي القرائح المنتجة, فما أنت إلا نفس تسقى ولا تسقي..), وواضح أن الدويري ظل طوال حياته بعد ذلك في صراعه المرير مع نفسه الأمّارة بالكتابة, ورغبته غير النهائية بالتوقف عنها, ولعل في هذا ما يفسّر فترات التوقف التي اعتورت مسيرته الكتابية أكثر من مرة.

وفي رسالته غير المؤرخة والتي يعنونها بـ (العرب والإسلام والتجديد) ويعرفها بأنها (بحث مجمل عن العرب والإسلام وتجديدهم الذي يدعون وكيف يجب أن يكون..), فيبدو فيه الدويري ذا عاطفة إسلامية قوية تدفعه لإنكار فكرة القومية العربية متأثراً, كما يبدو, بقراءته لكتاب (اتحاد المسلمين) لمؤلف تركي يدعى جلال نوري بك الذي يعلق على كتابه بين تضاعيف الرسالة مثنياً على محتواه!!

وواضح من كلام الأنصاري في مقاله عن (أبي العتاهية الصغير) المنشور في مكان آخر من هذا العدد من العربي, أن عدد تلك الرسائل كان كبيراً جداً خاصة وأن الصديقين الشابّين كانا يتبادلانها بشكل يكاد يكون يومياً تقريباً, ورغم أن الأنصاري لا يذكر على وجه التحديد التأريخي متى بدأ تبادل الرسائل بينهما, فإننا نستنتج من تواريخ ما بين أيدينا من رسائل أنهما بدآ في كتابتها منذ الثلاثينيات, وأنهما استمرا في تبادلها حتى منتصف الأربعينيات أو أواخرها, فهناك رسالتان مما هو موجود بين أيدينا مؤرختان بتاريخ يقع في سنة 1944م, ورسالة ثالثة مؤرخة بتاريخ يقع في سنة 1945م, ورابعة مؤرخة بتاريخ يقع في سنة 1941م, أما الخامسة فهي غير مؤرخة أصلاً رغم أنني أتوقع أنها مكتوبة في فترة مبكّرة قد تكون في سنة 1941 أيضاً أو ما يقرب منها, خاصة وأنه يوقعها باسمه العائلي الحقيقي (فهد اليوسف المنيس) هو نفس توقيعه على رسالته المؤرخة بتاريخ يقع في سنة 1941, في حين نكتشف أنه تخلى عن هذا الاسم بعد ذلك, وصار يوقع رسائل, وبعد ذلك مقالاته وقصصه باسمه المنتمي لعائلة أخواله وهو (فهد الدويري) بالإضافة إلى عادة استخدامه للأسماء المستعارة, وهي عادة لازمها كثيراً حيث لجأ لتلك الأسماء في توقيعه الكثير من مقالاته وقصصه, وربما رسائله أيضاً فهو على الأقل يوقع إحدى رسائله الموجودة بين أيدينا باسم مستعار, بالإضافة إلى اسمه الحقيقي, هو (أبو العتاهية الصغير), ولعل مما يرجح رأينا أن الصديقين الدويري والأنصاري قد بدآ بكتابة رسائلهما المتبادلة منذ منتصف الثلاثينيات, إن عبدالله زكريا الأنصاري يذكر في مقاله المشار إليه قبل قليل أنهما كانا يكتبان تلك الرسائل ويتبادلانها رغم أنهما يلتقيان كل يوم بعد المدرسة, أي أنهما كانا طالبين في المدرسة المباركية, وبما أن الدويري مولود, على أرجح الآراء, في سنة 1921, فهذا يعني أنه كان في بداية الأربعينيات يبلغ الواحد والعشرين من العمر ويعني أنه كان في سنة 1945, وهي السنة التي يقع فيها تاريخ آخر الرسائل التي بين أيدينا زمنياً, في الرابعة والعشرين من عمره, ومن غير المعقول أن يكون الدويري وهو في هذه السنة طالباً في المدرسة المباركية التي تلقى فيها تعليمه هو وصديقه الأنصاري, بل من غير المعقول أيضاً أن يكون طالباً في المدرسة وهو في الحادية والعشرين من عمره أيضاً خاصة وأننا نتحدث في أجواء كويت الثلاثينيات والأربعينيات حيث تلقى المسئوليات على الشباب ويطالبونه بالعمل منذ سن مبكّرة مقارنة مع الوضع الآن, وخاصة وأن الدويري الذي كان قد توفي والده في سنة مولده وهو مفلس تقريباً, ولابد أنه قد تحمّل من مسئوليات الأسرة الكثير مما حتمته عليه تلك الظروف ومما يتناقض مع فكرة بقائه في المدرسة حتى تلك السن المتقدمة جداً. لكن الأنصاري يصر على أنهما تبادلا تلك الرسائل حيث كانا طالبين في المدرسة, ويبدو هذا صحيحاً في حال أنهما كانا قد بدآ بتبادلها منذ أن كانا في المدرسة وبعد أن بلغا من الشغف بالقراءة للكتب ومن الوعي مبلغاً دفعهما لفكرة تبادلها, وهذا يعني أنهما بدآ بتبادلها منذ منتصف الثلاثينيات تقريباً, أي عندما كان الدويري على الأقل في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمره. أما لماذا نرجح أنهما توقفا عن ممارسة تلك العادة المتبادلة, فليس لأن الأنصاري يشير إلى أنه بعد أن تجمع لكل واحد منهما الكثير من تلك الرسائل انتقل مع أهله إلى حيّ آخر وحسب, بل لأن في أسباب البدء في ممارسة تلك العادة ما يشي بأسباب الانقطاع عنها بعد ذلك كما سيبدو لنا بعد قليل.

الرسائل.. وقراءة أخرى

وواضح أن رسائل الدويري هي جناح واحد من جناحي طائر المراسلات المتبادلة, أما الآخر فهي رسائل الأنصاري والتي من الطبيعي أنها كانت في حوزة الدويري, ولكنني أشك أنها بقيت كذلك طويلاً, ولعل الدويري فقدها, مثلما فقد الأنصاري الجزء الأكبر من رسائل الدويري إليه, أو لعله تخلص منها تحت وطأة الإحباط العام الذي أصابه بعد سنوات قليلة من ممارسته للكتابة الصحفية والإبداعية كما هو معروف لأسباب لا مجال لذكرها في هذه المساحة المحدودة أمامنا, أو لعله نسيها بالفعل تحت ركام الذكريات والسنوات المشحونة بالوقائع والأحداث البعيدة كل البعد عن الرسائل المذكورة والأيام التي كتبت فيها, ولعل مما يعضد ما نذهب إليه, أن الأنصاري فاجأ صديقه منذ عدة سنوات, كما يروي في مقاله المشار إليه والمنشور في هذا العدد من العربي, بأمر ما يحتفظ به من رسائل, وأن الدويري قام بزيارة صديق طفولته في المنزل فقط ليطلع على ما يسمّيها الأنصاري بالمفاجأة وهي تلك الرسائل التي بين أيدينا الآن حيث تصفّحها وتصفّح الشعر الذي كان قد كتبه في إحداها, ثم علق قائلاً: (استر علينا, فهذه فضيحة تدل على تقدّمنا بالسن), ولم يأت على ذكر ما يمكن أن يكون لديه من رسائل للأنصاري بالمقابل.فهل أحسّ الدويري أن هذه الرسائل قد فقدت قيمتها العلمية بالفعل لأنهما تجاوزا الأسباب التي دعتهما إلى تبادلها ذات وقت?!, ربما, خاصة وأن هذا السبب الجديد لعدم الاهتمام الذي أبداه الدويري بأمر تلك الرسائل رغم شوقه للاطلاع عليها استذكاراً لأمر مضى لا يتناقض مع تلك الأسباب المقترحة آنفاً من إحباط أو نسيان أو فقدان غير مقصود بشكل مباشر.ولعل في الأسباب التي دعت الصديقين الشابّين إلى كتابة تلك الرسائل وتبادلها ما يشير بطريقة غير مباشرة إلى الأسباب التي دعتهما بعد ذلك للتوقف عن أمر كتابتها, وبالتالي تبادلها كما يبدو من سياق ما نقرأ ونرصد. فقد تم الاتفاق بينهما على أمر تلك الرسائل, رغم أنهما كانا يعيشان في حيّ واحد ويدرسان في مدرسة واحدة كما يروي الأنصاري, ولعل في هذا ما يفسّر خلو أجواء الرسائل من أي أخبار شخصية أو عامة- مثلاً- واقتصارها على تبادل الآراء حول قضايا أدبية وفكرية واجتماعية ودينية وفلسفية وسياسية أيضاً, ولعل ما دفعهما إلى ذلك حبّهما الشديد للأدب وللقرا ءة بشكل عام, وحاجتهما الطبيعية للتعبير عن رأيهما في قضايا كثيرة مما يقرؤون فيها وعنها فيما يتوافر لهم من كتب ومجلات في ظل عدم وجود صحافة منتظمة الصدور في الكويت في ذلك الوقت خاصة وأنهما كما يستفاد من سياق الرسائل لم ينجحا في نشر بعض مقالاتهما في بعض المجلات المحلية والعربية التي كانت تصدر آنذاك إلا بعد سنوات من بداية تبادلهما لتلك الرسائل. ويبدو أن الصديقين كانا يدركان ذلك الهدف من كتابتهما للرسائل, ففي إحدى الرسائل- مثلا- نجد أن الدويري يصر إصراراً شديداً على قصر مناقشاتهما الفكرية على الرسائل وحدها والامتناع عن البحث الشفهي في ذلك, (ففي الكتابة نستطيع سواء في ذلك أنا أم أنت, أن نتكلم بحرية وصراحة, بل وأمن من تدخل مواضيع شتى مبعثرة تجرّها تلك الملاحظات الكلامية..).ولعل في نجاحهما في النشر في الصحافة مع تطوّرها وصدور المزيد من المجلات في الكويت آنذاك ما جعلهما يهملان أمر تلك الرسائل شيئاً فشيئاً حتى توقفا عنها مع نهاية الأربعينيات بعد أن أدت الغرض منها, وساهمت في التكوين الفكري والأدبي لكل منهما, وبعد أن صار بإمكانهما مخاطبة الكثيرين من القرّاء بدلاً من مخاطبة بعضهما البعض, وبعد أن صار لكل منهما اسم مهم ودور رائد من تلك الأدوار التي ساهمت في تكوين بدايات الحركة الأدبية والفكرية الحديثة والمعاصرة في الكويت, وبعد أن بدأت اهتماماتهما الكتابية تتخلص من عموميتها وموسوعيتها التقليدية لصالح شيء من التخصص الأدبي حيث توجه الأنصاري لكتابة المقالة الصحفية الأدبية, واختار الدويري أن يكتب المقالة الاجتماعية, ثم تخصص في كتابة القصة القصيرة متدرّجاً بأسلوبه التقليدي في كتابة القصة حتى تحققت له شروطها الفنية المعاصرة كما يبدو جلياً في نتاجه القصصي, وخصوصاً في تلك الفترة التي تلت فترة انقطاعه الأولي حيث نشر في السنوات الأولى من الثمانينيات مجموعة من القصص القصيرة هي الأفضل فنياً مقارنة بكل ما كتبه قبل ذلك, وربما بالرواية التي كتبها بعد ذلك ونشرها في بداية التسعينيات.

 

سعدية مفرح

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات