أحوال عربية.. إطلالة على العالم العربي في نصف قرن

أحوال عربية.. إطلالة على العالم العربي في نصف قرن
        

          ما الذي فعله الزمن بعالمنا العربي على مدى هذه السنوات الطوال، أي أحلامه تحققت  وأيها تبددت؟ وأي الأفكار سادت وتركت أثرًا؟ وأيها ماتت حتى قبل أن نفهم غاياتها؟ وكم انتصارًا ذقنا ثماره، وكم هزيمة اكتوينا بنارها؟ الصورة ليست جيدة، وإن لم تكن بالغة السواد، ففيها كثير من الإضاءات المشرقة،  وحصاد التجارب السابقة كانت مريرة، وإن كانت فيها بعض من الأفراح القليلة. وقد حاولت «العربي» خلال نصف قرن من عمرها أن تكون شاهدًا حيًا على ما في عالمنا هذا من طموحات وانتكاسات،  وأن ترصد كل تحولاته الفكرية والاجتماعية، وأن تقوم بدورها التنويري بعيدًا عن أهواء السياسة، التي لا يوجد في عالمنا العربي من لم  يصبه بعض من شررها.  وهاهي تجْمِل هذه التحولات من خلال هذا الملف الجديد الذي يقدم خمس دراسات عن أهم ما شهده العالم العربي على مدى هذه الأعوام الخمسين، أهم عشرة أحداث مرت به، وأهم عشرة كتب أثرت في تفكيره ووجدانه، وأهم عشر روايات لاقت صدى عند الناقد والمتلقي، وأهم عشرة أفلام عربية أخذت عن نصوص أدبية، وأهم العلماء العرب الذين بزغ نجمهم في تلك السنوات، وهي تأمل أن يكون هذا الملف بداية لنقاش ثري بشأن التغيرات التي ألمت بنا كأمة عربية خلال هذه الفترة.

«العربي»

نصف قرن  مضطرب من الأحداث

كم تبدّل مفهوم العربي خلال العقود الخمسة المنصرمة. آه.. كم قاسى.. كم هوجم.. كم انكمش.. كم ذبل.. حتى بات في غير ذهن وعقل وقلب، كأنه اندثر تمامًا.

          خمسون عامًا مضت و«العربي» بين أيدي قرّائها، وهم اليوم من جيل ثالث يلتحق بجيل الطفولة الأول وبالثاني، وكان جيل شباب المجلة. ويريدني رئيسها أن أذكر أحداثًا عشرة كبرى رصّعت ببريقها نصف قرن مضى، فأكاد أعاجله الجواب: إنما الحدث - الأساس - هو في مغزى اسم المطبوعة، التي يدير. تبدّل مفهوم «العربي» وحلت مكانه هويات عدة، قديمة أو جديدة، مبتكرة أو معاد إنتاجها، قبلية ومذهبية وطائفية، وعشائرية ومحلية ودينية أو محض جغرافية، كما في تعبير «الشرق الأوسط» المقيت بل المقزز!

          إني مدرك تمامًا بأن الهوية، معطى بالضرورة مركّب، تتجاوز فيه عناصر تكوينية متعددة، ومدرك أيضًا بأن الحرية، في زمننا هذا، بات تعريفها الأفضل، إنها القدرة على إعادة صياغة هويتك الفردية أو الجماعية كما تشاء. ويقيني أيضًا أننا جميعًا، مع بزوغ شمس كل يوم، نقدم على إعادة تركيب مفردات هويتنا، فنميل تارة لتغليب الرجولة مقابل الأنوثة أو المهنة مقابل الثقافة، أو الانتماء بالولادة على التطبّع بالثقافة، أو الدين على اللغة، أو المذهب على الدين، والهوية معطى يتسّم بقدر هائل من الليونة، بمعنى أن تغليب أي مكوّن على آخر ممكن في كل حين، وبمعنى أن وحدهم أصحاب الأيديولوجيات المتسلّطة يريدون تجميد عناصر الهوية وفق نسق واحد جامد يحتكرون طبعًا الحق في تحديد هرميّته.

          ومَن أبصر النور مثلي، سنوات قليلة، قبل ولادة «العربي» درج على إعطاء الانتماء العربي موقعًا مميزًا في بنية الهوية. ومن معاصريّ، ومعاصري المجلة، من ذهب إلى الهوس بالانتماء القومي إلى حد تحويل هذا الانتماء من معطى بارز أو مفضل إلى مكوّن طاغ، مسيطر، شبه أحادي للهوية، هؤلاء هم قوميو الخمسينيات والستينيات الذين أفرزوا زعامات تفاوتت كاريزماها، وأحزابًا مالت للتسلط والهيمنة، وفرض الأفكار فرضًا على الناس. ولقد توصل هؤلاء، بوسائل كانت دائمًا عنيفة، للسلطة في غير بلد عربي، فأقدموا على بعض الأمور البنّاءة، وعلى كثير من الممارسات المنفِّرة، فانفك الناس عنهم في العقود المتأخرة من نصف القرن الذي نسترجعه اليوم هنا، وابتعدوا لا عن أشخاصهم وأحزابهم وشعاراتهم فحسب، بل عن الأرومة الثقافية التي انطلقت منها «العروبة السياسية» قبل أن تنحرف من فكرة الجماعة الثقافية إلى دهاليز المؤامرات والانقلابات، أو إلى بلاطات التسلط والتحكم.

الأمة العابرة للتاريخ

          وبقدر ما كان الانحراف عن مفهوم العروة الثقافية العربية الوثقى نحو استعمال ركيك له لتبرير التسلط الشعبوي المقزز، أمرًا يصعب القبول به، بل تحق مقاومته، بقدر ما كان التخلي عن المفهوم نفسه، أي عن حقيقة وحدة الثقافة العربية، قرارًا سياسيًا جائرًا، ظالمًا، بل نوعًا من الانتحار الجماعي. ففي العقود الأولى من القرن المنصرم، القرن العشرين، كنا قد أخذنا عن فيخته ورينان، كما عن ساطع الحصري وزكي الأرسوزي، صورة عن الأمة العابرة للتاريخ، الجامدة في كينونتها، القادرة على فرض نفسها على أبنائها وعلى الأمم الأخرى على السواء. لكن العقود المتأخرة من القرن الذي مضى، عقود عمر «العربي» دعتنا، على العكس، لتعديل هذا المفهوم المبسّط، شبه اللاهوتي، للأمة إذ تمكن بنديكت أندرسون وآرنست غلنر وأريك هوبسباوم من إقناعنا بأن الأمة ليست سابقة في حقيقة الأمر لأبنائها، بل هي نتاج لمخيالهم في تعبير صاحبنا محمد أركون الأنيق. وعلّمنا هؤلاء أن القوميين هم الذين يخترعون الأمة وليس العكس، فيتصوّرونها، ويصنِّفونها، ويكتبون تاريخها المتصوّر، ويدفعون الناس لتقبّل وجودها لا كفرضية بل كواقع محقق.

          و«الأمة» التي تصوّرها القوميون من أبناء جلدتنا، ألهبت فعلاً المشاعر وسكنت الأفئدة قبل أن تشيخ قبل عمرها، وقبل أن تظهر على محياها بثور منفّرة. لقد اختطف هواه التسلط الفكرة العربية، وهي بعد في ربيع عمرها، وفي الغض من شبابها وحوّلوها مطيّة لشهواتهم بالحكم وبالتحكّم. وترى شباب اليوم من أبنائنا يتأففون من مجرد ذكر الفكرة العربية مسارعين للجزم بأن لا علاقة لهم ممكنة مع نسق فكري تم استعماله شعارًا لتبرير كوارث كبرى كهزيمة 67 أو احتلال الكويت أو حرب اليمن أو استتباع لبنان. وأقرّ بأني أتفهّم هذا النبذ العصبي، وبأني أستسيغ محفزاته. ولكني أدعوهم أيضًا للتمهّل، وللكف عن رمي الصبي مع الماء الذي اغتسل به، وللتوقف عن رفض الفكرة العربية بحجة أن التاريخ العربي المعاصر قد سمح للبعض بأن يجعل منها شعارًا خاويًا لنزواته السياسية. فالفكرة العربية هي في الأساس مطمح العرب المعاصرين بالحداثة السياسية والاجتماعية وإطار مفهومي يقرّ من جانب بوحدة الثقافة العربية، ويفتح الباب من جانب آخر لتطلعات سياسية ليست الأشكال التي رأينا منها خلال عمر «العربي» هي بالضرورة الأشكال والتجسيدات الوحيدة الممكنة. ويقيني أن الفكرة العربية قابلة للتوأمة مع الفكرة الديمقراطية بقدر ما تمت توأمتها سابقًا مع الممارسات الديكتاتورية، وبأنها حاضنة للحداثة المنفتحة بقدر ما استعملت كماكينة إعادة إنتاج للتراث الذابل، وبأنها مفتاح لانخراطنا، نحن عموم العرب، في عولمة تبدو كأنها تسير دوننا، بقدر ما كانت حتى اليوم سور حماية هشًا نختبئ وراءه، بل نخبّئ خلفه خوفنا من العالم المتحرك الرحب.

صدور «العربي»

          فهل من حدث أول استوقفني ومازال؟ نعم إنه صدور «العربي» واستمرار صدورها حتى اليوم رمزا لمتانة الثقافة العربية في وجه تحوّلات السياسة، ومعلما يشير إلى إمكان تخليص إبريز الفكرة العربية من دهاليز الممارسات البشعة، التي حصلت تحت شعارها.

          لقد صدرت «العربي» في أزمنة كان اسمها طبيعيًا، بل عاديًا، بالنظر لمناخ تلك الحقبة، واستمرارها اليوم، لا أريد أن أرى فيه مجرّد روتين، ولا مجرّد تكرار لاسم تمكن من الفوز بموقع في ساحة النشر العربية. إني أرى فيه، على العكس، فرادة باتت محببة في زمن رحنا نبرّز فيه كل عناصر هويتنا، إلا الجانب العربي منها بالذات. ويؤلمني حقًا أن ما كان عاديًا منذ نصف قرن، بات فريدًا اليوم، ولكن ذاك الشعور بالألم بات يختلط بالفرح لأن كوّة مازالت مفتوحة أمام بقاء الفكرة الثقافية الأولى، خصوصًا أن تطور وسائل النشر والتوزيع  خلال العقدين المنصرمين قد أدى إلى تحصين وحدة السوق الثقافية العربية وتمتينها. فالصحف العربية العابرة للحدود، والكتب المقروءة في الآن معًا من بغداد لتطوان كما قال النشيد القديم، والأغنية التي تتردد في بيروت والجزائر، والفيلم، وطبعًا عشرات الفضائيات الناطقة بالضاد، والتي توحّد الجسم المشاهد في الأرض العربية، وحتى مع أبناء تلك الثقافة خارج الحدود، كلها عناصر تشي بأن السوق الثقافية العربية في مخاض توحدي يناقض تنافر العرب السياسي تنافرًا بيّنًا، وهي تشي أيضًا بأن من فكّر بإصدار «العربي» منذ نحو نصف قرن ما كان مخطئًا بل كان في الواقع، من حيث يدري أو لا يدري، طليعيًا.

هزيمة يونيو

          أما الحدث الجلل والأول في السياسة، وفيما هو أبعد من السياسة، في الكيان وفي الوجدان، فهو - برأيي المتواضع - هزيمة 67. كتبت سابقًا، ولم أغيّر رأيي منذ ذلك الحين، أننا مازلنا نعيش في ظل الهزيمة الحزيرانية الوارف. والدليل الملموس الواضح الثابت على هذا القول هو أن أرضًا تم سنة 67 احتلالها مازالت محتلة، في الجولان وفي فلسطين، وأن حقوقًا ضاعت يومها مازالت في مهب الريح، وأن قوة إقليمية معادية ولدت من رحم حرب 67، مازالت في موقعها الطاغي منذ ذلك اليوم. إنه الحدث الأساس، الحدث الذي ليس كمثله حدث عربي آخر في نفق القرن المنصرم.

          سيناقشني كثيرون في قولي هذا، وإني أعرف حججهم وأقدّرها، ففي عروبة الأنظمة والجيوش والترسانات من سيقول إن حرب 73 قد مسحت سابقتها، وأن «معجزة العبور» تبزّ تلك «الأيام الستة» أثرًا وفعلاً.

          وسيشير آخرون إلى انسحاب إسرائيل من سيناء أو إلى اتفاق وادي عربة، بينما يتوقف البعض عند المقاومة الحثيثة للاحتلال في جنوب لبنان، وهي تكلّلت بالنجاح سنة 2000 ومنعت الفشل سنة 2006. وسيدافع البعض عن أوسلو ويذكّرني آخرون بمدريد. كل هذا صحيح، لكني لا أرى بعد دولة فلسطينية ولم أشهد على خروج جيش إسرائيل من شوارع القدس العتيقة، بل مازلت أرى تحكّمًا، وسيطرة، واستيطانًا، وتهجيرًا ونفيًا وتقليعًا للأسر الأصيلة ولشجر الزيتون المعمّر.

          لكن هزيمة 67 هي الحدث الجلل بامتياز لأسباب تتجاوز هذه المعطيات الواقعة إلى ما هو أعمق في الوجدان. لم يأت نصر، بشري، أو «إلهي» منذ حزيران (يونيو) يعيد عقارب الهزيمة إلى الوراء فعلاً. حصلت تنازلات من وحي الهزيمة، جرت تصحيحات بطولية على واقع الهزيمة، ولكن الهزيمة أدخلت مرارتها في النفوس، لأن ميزان القوى الذي فضحته بمجرد حصولها لم يتغيّر في جوهره، ولأنها فرّقت كلمة العرب السياسية حول سبل معالجتها تفريقًا عميقًا بين مذعن ومهادن وممانع ومقاوم، بل لأنها نصّبت هؤلاء جميعًا، كل  واحد منهم في مواجهة الآخر. وأصيبت هيبة العرب في العالم في حزيران (يونيو) بصفعة لاتزال خدودنا تشعر بقوتها، كما اهتزت صدقية القادة، وتزعزع اقتناع الناس بما هو حق وعدل، ولو أن النتاج الأدبي والشعري الذي أفرزته الهزيمة كان أحيانًا بلسمًا يساعد على فهمها.

          ولو كان حظنا بالسياسة أفضل، لكانت الهزيمة أنتجت أيضًا إعادة نظر جوهرية في جوهر الحكم، وفي أساليب السياسة، لكنها لم تفعل. كان من الممكن أن تحملنا الهزيمة إلى تساؤل أكثر  عمقًا حول معنى القيادة، وحول حرية الفكر والقول، وحول موقع الجيوش في مجتمعاتنا، وحول أسباب انتصار الخصوم علينا، وحول علاقتنا بالواقع، ولكننا لفّقنا أجوبة سطحية عن كل تساؤلاتنا الوجودية، التي كان من المفترض أن تفجّرها الهزيمة، فرتبنا لها أسبابًا سطحية واهية، وتساهلنا مع المسئولين عن حصولها، وتغاضينا عن النسق الفكري الذي سمح بوقوعها علينا كالصاعقة. وكان تكاسلنا هذا جزءًا تكوينيًا من حدث الهزيمة نفسه، بل بات ذاك التكاسل وهذا الاستسهال أخطر على مستقبلنا من الهزيمة ذاتها. وراح بعضنا يبحث في الدين والماورائيات، أو في الانعزال أو التقوقع، أو في استلهام الماضي السحيق عن بدائل، فيتحكم به الشطط تدريجيًا، وانزلق أحيانًا في متاهات التطرف والتشدد، بقدر ما استسهل آخرون فكرة التخلي عن الحقوق، فاستساغوا كسر رابطتنا العميقة بفلسطين وبأهلها، حتى جاء مَن يعيد تأكيد وجود تلك الرابطة، وإنما على أساس آخر، ديني في الغالب، يحمل في طياته شعار صراع الحضارات وتصادم الأديان والمعتقدات، وهذا منزلق يفضي إلى مأزق لا إلى حل.

          كان الأولى بنا، بعد حزيران (يونيو)، أن ننظر إلى أنفسنا، لنستكشف الداء، ونستشرف الدواء. لكننا ارتأينا البحث عن الدواء في الخارج، راح بعضنا يسارًا يبحث في صراع الطبقات عن بديل لأنظمة هزمت حتى جاء انفجار الكتلة الاشتراكية من داخلها يضع حدًا لذاك البحث. واستلهم آخرون تجربة أفغانستان ضد الاحتلال الروسي، ثم تجربة الثورة الإسلامية في إيران بوصلة، وحصلت استعارات في الممارسات من هاتين الحالتين كان لها وقع وصدى، لكنها أدت فيما أدت إليه، إلى جنوح متكرر نحو العنف المؤدلج دينيًا وإلى فرز مذهبي ندفع ثمنه كل يوم. وكنا، منذ حزيران (يونيو)، نؤكد أننا تجاوزنا الهزيمة مع كل نقطة موضعية نسجّلها في عملية مفتوحة «لمحو آثار الهزيمة». لكننا تعجّلنا كثيرًا في إعلاننا النجاح في عملية «المحو» تلك. فالهزيمة لم تكن يومًا أثرًا ليندثر بذاته أو لنقوم بمحوه. إنها مازالت واقعًا مرجعيًا، نقيس عليه، منذ حزيران (يونيو) نجاحاتنا القليلة، وإخفاقاتنا المتكررة.

وحدة قصيرة الأجل

          خارج الحدثين اللذين ذكرت، أي التبدّل الطارئ على الفكرة العربية وهزيمة حزيران (يونيو)، أوليست من أحداث كبرى منذ نهاية 1958، تاريخ صدور «العربي» تستوقف من يراجع نصف القرن وحياته في الآن معًا؟ بلى، ولو كان باب الاختيار أوسع بعدهما، وتبرير الاختيار أسهل مجادلة. ولو ترك لي أمر الخيار لعدت الآن لتسلسل الزمن ولتوقفت أولاً أمام انهيار الوحدة المصرية - السورية سنة 1961 الذي سمّي آنذاك «بالانفصال»، لأن ذاك الحدث حمل في طياته تفجّرًا لمفهوم الوحدة القائمة على استتباع طرف عربي لآخر. بعد «الانفصال» اتضحت الصورة، لأن ما سمّي بـ«الأقطار»  أو «بشظايا الأمة» بدت أكثر ثباتًا مما كان يعتقد. بعد 1961، بات من الصعب أن يدعى للوحدة دون التثبت من شروطها، ففي «الانفصال» مات كل بسمارك عربي، وأمسى من الصعب أن تفكّر في الاندماج على أساس انعدام التوازن، أو أن تعتبر الدول العربية القائمة مشاريع راهنة لاستتباع ممكن. فالناس ما عادوا يتقبّلون الأمر، ولا القوى العظمى، وهذا ما سيشهد عليه إنهاء احتلال الكويت لاحقًا، وانسحاب الجيش السوري من لبنان أيضًا، وكون وحدات ليبيا المتكررة مع غيرها كانت تولد ميتة. من مرارة «الانفصال» تولدت أفكار أخرى حول «التضامن» و«التنسيق» و«التلازم» وكلها دون «الاندماج» الذي تهاوى ذات يوم على مدرجات مطار اللاذقية العسكري.

حرب اليمن

          ومَن يستذكر الستينيات، لا يمكنه تناسي حرب اليمن، لا لذاتها، بل لكلفتها الخيالية على السعودية وعلى مصر، وعلى أبناء اليمن أولاً. كانت تلك الحرب متعددة الأبعاد طبعًا، شخصية، ومحلية، وإقليمية اصطدم من خلالها ناصر بفيصل  والجمهورية بالقبلية، والتيار «التقدمي» بالآخر «المحافظ» ولم يكن ذاك الصدام حصريًا في اليمن بل امتد خلال الستينيات ليشمل عموم أرض العرب. غير أن التقادم الزمني يدفعنا للابتعاد عن الحدث نفسه، فنركّز على بعد آخر دفع العرب ثمنه غاليًا، وهو انخراطهم في الاستقطاب الدولي الواسع الذي كانت الحرب الباردة بين قطبي ذلك الرهان إطاره الأيديولوجي والاستراتيجي. هل كان بالإمكان تجنيب منطقتنا مزالق الانخراط في ذلك الاستقطاب وهل كان بالإمكان تجنيب مصر والسعودية دفع ثمن ذلك الانخراط وتجنيب اليمن آثاره الدامية؟ ليس تصور التاريخ الذي لم يحصل بالأمر السهل ولكن لا مطلق في السياسة ويقيني أن مزيدًا من الحذر كان ممكنًا، وقدرًا أعلى من المناعة الذاتية لدى الأطراف العربية الكبرى كان ليكون أفضل. لكن تورط العرب في لعبة الكبار حصل فعلاً، وكان ثمنه باهظًا علينا جميعًا، وكان اليمن مسرحه لسنوات عدة، كما كانت «حرب الرمال» التي ما لبثت أن انفجرت في المرحلة نفسها بين المغرب والجزائر مسرحًا كبيرًا آخر له، إلى الغرب من بقعة العرب. ولقد أدت هاتان الحربان ومثيلاتهما الأصغر إلى توسع رقعة نفوذ الجبارين في الشئون العربية، وإلى تزايد الإنفاق العسكري على حساب التنمية وإلى تبعية متزايدة للأطراف العربية إزاء الدول الكبرى التي قدمت لها الدعم المالي والعسكري أو الديبلوماسي. ولكن تشارلز تيلي وغيره قد علّمونا أن الحروب تسهم أيضًا في إنشاء الدول وتمتينها كما في انشطارها وزوالها. ورأينا مثالاً على التشطير في اليمن واستمرارًا للتوتر في الصحراء الغربية بينما تعزز وضع الدول القائمة التي تمكنت من تحويل هذه الحروب إلى مدد لاستمرارها.

جماهيرية عظمى

          وقد يتوقف المرء أيضًا، أواخر الستينيات، أمام الحدث الليبي، وبالذات أمام انهيار الملكية السنوسية في غرة سبتمبر 1969. لم يكن الحدث مجلجلاً ولا كان نتاجه صعب المنال في ظروف ليبيا المتواضعة، والتي لم يغيّر من جوهرها إعلان لاحق عن قيام «جماهيرية عظمى». والواقع أننا لم نلحظ معنى ذاك الحدث المحلي بامتياز حتى هذه السنوات الأخيرة. ذلك أن الخمسينيات والستينيات كانت تنظر إجمالاً للأنظمة الملكية وكأنها مقبلة بالضرورة على الاندثار باعتبارها إرثًا باليًا من الماضي. ألم يرحل فاروق في 1952، أو لم يقض على هاشميي بغداد سنة 1958 بينما كانت الثورات تهدد العروش القائمة في عُمان وفي الأردن، في المغرب بل في السعودية؟ بل جاء الحدث الليبي استلحاقًا بهذا النسق الجمهوري الذي بدا آنذاك من طبيعة الأمور. لكننا رأينا بعد انقلاب ليبيا أن المسار توقف عند هذا الحد، بل إن الأنظمة الملكية استمرت بل انتعشت مع مرور السنين حتى جاء اليوم الذي صرنا نشهد فيه أن مبدأ التوريث، الذي كنا نعتقد مخطئين أنه حكر على الأنظمة الملكية، قابل لأن يصبح المبدأ المفضل في الأنظمة الجمهورية أيضًا، بل أن يتحقق فعلاً في غير بلد عربي أو يصبح إمكانية جدية في بلدان عدة، بينها، بالذات، ليبيا. وإن يشِ هذا الشيوع في مبدأ التوريث بشيء، فهو بالتماثل الضمني في أنظمة الحكم العربية، وهو تماثل عميق في نظرة الحكام لطبيعة السلطة ولمفهوم الدولة ولنوع العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين العام والخاص، على الرغم من تنوع الأبنية المؤسسية والدستورية الظاهر وربما السطحي.

أيلول الأسود

          وشكل أيلول (سبتمبر) 1970 محطة ضرورية لمسترجع التاريخ الحديث، فهو شهر وفاة أبرز الحكام العرب وأعظمهم تأثيرًا في زمانه. وأيلول (سبتمبر) 1970 هو أيضًا شهر اصطدام «منطق الثورة» بـ «منطق الدولة» في شوارع عمّان وفي مخيم الوحدات وفي عجلون وغيرها. إنه شهر الدم الفاصل بين ضفتي نهر الأردن وهو شهر التدخل السوري الذي سيحمل بعدها بأسابيع إلى انقلاب سوري داخل الحزب الواحد ستمتد آثاره لعقود، وشهر التدخل الإسرائيلي الفاضح في نزاع عربي - عربي بالأصل، وشهر انكسار البندقية الفلسطينية في الأردن مما سيدفعها لنقل ثقلها إلى لبنان وبالتالي لتسريع انفجار ذلك الكيان الهش في حرب دامية لفترة عقد ونصف العقد. وبقدر من التصرّف، يمكن اعتبار ذاك الشهر من أكثر شهور العرب كثافة. فعلى الرغم من مسارات سابقة أدت إليه، ومن تحولات لاحقة صححت بعض الشيء مسارات بدأت معه، فمن رحمه بالذات ولد تحوّل القيادة المصرية نحو سياسات داخلية وإقليمية ونحو ارتباطات دولية مختلفة بالعمق عن تلك التي كانت قائمة أيام فقيد أيلول الأكبر، جمال عبدالناصر. ومن رحمه وُلدت قيادة سورية جديدة مختلفة تمامًا عن تلك التي حكمت دمشق في الستينيات. ومن رحمه أيضًا خرج توجه المملكة الأردنية اللاحق في شتى المجالات. ومن رحمه أيضًا وأيضًا تفجّرت تناقضات عربية وخيارات فلسطينية أشعلت لبنان فورًا وحولته إلى ساحة دامية، ومنه أيضًا أثَرٌ على العراق أكيد.

          لذا، يفتح أيلول (سبتمبر) باب السبعينيات ويفسّر أحداث ذلك العقد، من حرب تشرين (أكتوبر) التي بدأت بأمل وانتهت إلى حد كبير بفرصة مهدورة لعب في ضياعها اجتماع حاسم في أسوان (على ذمة محمد حسنين هيكل) في التاسع عشر من أكتوبر، إلى حرب لبنان التي بدأت واستمرت بأبعادها المعقدة وأهمها تلك الحرب بالواسطة التي كانت تجري في بيروت بين قوى إقليمة متخاصمة برضى أطراف لبنانية بل باستدعاء هذه لتلك، إلى اتفاق كامب ديفيد الخارج من رحم أيلول الفيّاض كما من حرب 73 المبتورة. وفي كل ذلك كان النفط حاضرًا في خلفية كل حدث، في استعماله السياسي اليتيم سنة 1973، وربما في اغتيال فيصل بن عبدالعزيز بعدها بسنتين، وفي تمويل القوى اللبنانية المتناحرة من فضلاته كما في تلك الظاهرة العظيمة وغير المسبوقة، ظاهرة تدفق العمالة العربية من بلدان المهارات إلى بلدان الثروات مشكلين دونما تدخل حقيقي من الحكومات - بل أحيانًا بالرغم عنها - سوقًا عربية للعمل، أثرت العديدين وسمحت للكثيرين بالخروج من العوز، وأسهمت ببناء دول النفط، وبقيام روابط جديدة بين المجتمعات والاقتصادات العربية جلّها ممتاز وبعضها منحرف قبل أن تأتي أزمنة الردة فيهجّر الوافدون من مختلف الدول عقابًا على أعمال اقترفوها أحيانًا وعلى أخرى كثيرة كانوا في الواقع منها براء.

ظهور «الجهاد»

          أما الثمانينيات فقد بدأت سنة قبل بداية العقد بحدثين كبيرين على تخوم العرب، فغزو الروس لأفغانستان، وسقوط شاه إيران. لم يكن العرب طرفًا في أي من الحدثين لكنهم كانوا شديدي التأثر بكل منهما. وفي هذين الحدثين بداية لأحوال عربية جديدة تتميز بتفاقم التأثير الخارجي على رقعتهم، ذلك أن أحداث كابول ستدفع بحكوماتهم للخروج من الصداقة مع موسكو، وللتقارب مع واشنطن وبالتالي لتسريع انتهاء الحرب الباردة لمصلحة الثانية، كما ستدفع بشبابهم للانخراط في «الجهاد» ضد «الإلحاد الشيوعي» مما سيترك آثارًا مديدة على مجتمعاتها (يضيق المجال عن تفصيلها هنا) بعد انسحاب الروس من أفغانستان.

          أما الثورة الإسلامية في إيران فستؤدي إلى نتائج أعظم أثرًا من تماثل منشود لدى بعض العرب معها، إلى تواصل مشهود لعرب مع قيادتها، إلى توتر مشدود لدى آخرين معها، فوقف العراق في وجه تمددها غربًا وتحالفت سورية على العكس معها ونشأت تيارات تستلهم ثورة الخميني وتنعم بدعمها. لكن الحدثين دفعا أيضًا الدولة العظمى المتبقية إلى مضاعفة اهتمامها بالمنطقة حيث كنت ترى بعد 1979 وإعلان «مبدأ كارتر» تآكلا للوجود العسكري في غير منطقة من العالم وتعاظمًا له في منطقة الخليج، قبل أن تقوم واشنطن بإنشاء قيادة عسكرية خاصة تمتد من أواسط آسيا حتى شرق إفريقيا يشكل الخليج فيها القلب والمقصد والجوهرة.

احتلال الكويت

          بدأت التسعينيات بحدث هائل: احتلال الكويت، وإعلان ضمها في جولة أقسى وأشرس وأنصع وضوحًا لتهافت الفكرة العربية إلى أدنى حضيض ممكن، وعلى الرغم مما كتبه كثيرون، لم أشترك يومًا في نظرية مفادها أن رجلاً ينقصه التوازن قرر في 1980 الهجوم على إيران وفي سنة 1990 العدوان على الكويت وفقًا لمنطق واحد. كان يقيني ومازال أن الفاعل واحد لكن المنطق كان مختلفًا في الحالتين. كان الهجوم على إيران هجومًا في الظاهر وكان في الواقع نتاج منطق دفاعي بمعنى شن حرب بهدف تحويلها إلى درع تقي النظام العراقي مخاطر انتشار الشرارة الثورية الجديدة. بالعكس كان احتلال الكويت وليد منطق هجومي تعددت أسبابه وقد يكون من أهمها عجز النظام العراقي عن إعادة «تمدين» مئات الألوف ممن أدخلوا الجيش خلال الحرب مع إيران. كانت نتائج الاحتلال كارثية على الضحية وبالتالي على الفاعل، وبالخلاصة على عموم المنطقة، واستولد الاحتلال عقوبات، وأدت العقوبات إلى مآس، وأدت المآسي إلى أخطاء وهذه فتحت أبواب بغداد أمام جورج بوش الابن.دار صدام حسين في دائرة مفرغة دموية وتسبب دورانه بأحداث جسام ليست حروب العراق المتداخلة منذ 2003 بأقلها وطأة.

غزوة نيويورك

          وكانت التسعينيات أيضًا عقد انتشار حركات العنف المتدين في الجزائر وليبيا والصومال واليمن ومصر طبعًا. لكن الفعلة الأعظم لهذا التيار العابر الحدود كانت بعيدة جدًا عن أرض العرب، في نيويورك وواشنطن من خلال عملية انتحارية جماعية حسنة التنظيم عظيمة التأثير، يندر أن يتمكن طرف عربي من التأثير بهذه القوة، بهذا الزخم، بهذا العمق في أفكار دولة عظمى أو في خططها أو في مسلكها. لكن أسامة بن لادن وصحبه تمكنوا تمامًا من ذلك، بل جعلوا منطقتنا هي هم الدولة الأعظم الأول وهدفها المميز. لقد نجحوا، نعم في ما فشل فيه كثيرون وتمكنوا من تحويل القطب الأوحد إلى ثور جامح يسيء التقدير ويكرر الأخطاء وينتشي بقوة عسكرية كبيرة عاجزة عن أن تفرض هيبتها في زمن بات فيه الاستعداد للموت أعظم تأثيرًا من القدرة على القتل. لقد نجح أصحاب «غزوة نيويورك» في فعلتهم وسيدفع أبناء جلدتهم، لفترة طويلة من الزمن، ثمنًا باهظًا لذلك «النجاح». أما بعد فكانت «العربي» تبحث عن أحداث، لكنها دعت كاتبًا لا تهمه الأحداث فعلاً، بقدر ما يسعى لفهم المسارات وهذا عذره عن تناسي أحداث عديدة وقعت، سيؤخذ عليه عدم ذكرها، آملاً قبول العذر.

 

غسان سلامة