عشرة كتب أثَّرت في العقل العربي

عشرة كتب أثَّرت في العقل العربي
        

الحق إنها كثيرة تلك الكتب التي أحدث صدورها ضجة ولغطًا بين النقاد والقرّاء بين مؤيد ومعارض. ولكن المعول على أصالة المضمون لا على شدة الإثارة.

          مازلت أذكر صورة غلاف العدد الأول من مجلة «العربي» الصادر في ديسمبر 1958.

          كنت حينئذ في الثامنة عشرة من العمر في نهاية المرحلة الثانوية. وكانت صورة الغلاف عبارة عن فتاة  تمسك قريبًا من فمها بعذق نخلة تحمل رطبًا أحمر. كان ذلك يمثل استطلاع المجلة الذي صار تقليدًا حميدًا من تقاليدها الرصينة، وكان عنوانه: البحرين تعاقبت عليها 4 حضارات (وإن كشفت التنقيبات الأثرية التي جاءت بعد ذلك في قلعة البحرين، أنها سبع طبقات حضارية تنامت فوق بعضها تعايشًا وتسامحًا).

          وكان طبيعيًا أن تبدأ مجلة «العربي» الكويتية بالبحرين. فثمة تاريخ طويل بين الكويت والبحرين يلخصه أهل البحرين بالقول «إن الكويت توأم الروح»، وهو تعبير يختصر عمق الوشائج والمشاعر الأقوى من اللغة. ولم يكن ذلك الاستطلاع البكر هو الوحيد عن البحرين في «العربي». ففي كل مرحلة كانت «العربي» تواكب تطور البحرين، وتناولت أحدث تحقيقاتها القفزة الإصلاحية النوعية في البحرين التي قادها ملكها حمد بن عيسى آل خليفة بعد محاورات وطنية واستفتاء شعبي فتح باب المشاركة على مستقبل يتشكّل.

          مثلت مجلة العربي قبل نصف قرن بداية المشروع الثقافي الكويتي الذي اعتبره أقوى أرصدة الكويت الإستراتيجية، خاصة في وطنها العربي. صحيح أن الكويت دولة نفطية مهمة. ذات موقع حيوي، ولكن على هذه الأهمية، تبقى الأولوية لمشروعها الثقافي، في نظري، حيث كانت رائدة من ذلك الوقت المبكر في العمل على تحويل النفط إلى ثقافة، ثقافة عربية منفتحة ومتقدمة يقدّرها أوفياء العرب من محيطهم إلى خليجهم. وفي عتمة الاحتلال الغاشم، افتقد الكثيرون أعداد «العربي» التي توجد مجموعتها كاملة في كثير من البيوت العربية.

          وما أدهشني حقًا هو استطاعة المؤسسات الثقافية الكويتية، وفي طليعتها مجلة العربي، معاودة الصدور من الكويت وخارجها، بعد التحرير مباشرة، في مؤشر يحمل معنى الصمود والإرادة الثقافية واستمرار المشروع الثقافي الكويتي العربي بكل عزيمة وتصميم بالرغم من بشاعة ما حدث.

***

          ظلت مجلة العربي للخمسين سنة المنصرمة سجلاً للقضايا العربية. وكانت الإصدارات الثقافية والفكرية للكتّاب العرب في مختلف حقول المعرفة في الصدارة من اهتمامها، ومهمتي في هذه المقالة أن أختار ما أراه أهم عشرة كتب ثقافية وفكرية صدرت في نصف القرن الماضي، وأثرت في توجيه الثقافة العربية - إيجابًا أو سلبًا - وهي مهمة ليست باليسيرة، ولكني سأحاول قدر الإمكان أن أعتمد المصارحة الفكرية فيما اختاره، فحالنا الثقافي العربي لم يعد يحتمل المجاملة ومسايرات الصالونات الأدبية، خاصة بين أهل القلم.

كيف نتعامل مع القرآن؟

          أبدأ بكتاب لمحمد الغزالي عنوانه: «كيف نتعامل مع القرآن؟». وهو نموذج لكتبه الأخرى التي صدرت في نصف القرن المنصرم إلى حين وفاته قبل سنوات قليلة. رحمه الله. وربما كان هذا الكتاب كتابه، ووصيته للأجيال المقبلة من المسلمين، فهو عبارة عن «مدارسة» أجراها معه - مشكورًا - الأستاذ عمر عبيد حسنة عندما عجز عن الكتابة في سنواته الأخيرة، ونشرها المعهد العالمي للفكر الإسلامي بالولايات المتحدة، عام 1992.

          ظل الغزالي في نظري آخر «شيخ دين» في عصرنا مثل استمرارًا لإسلام النهضة الذي بدأه إمامها محمد عبده، قبل قرنين. وبالرغم من هيمنة الردة الحالية التي أعادت الإسلام إلى عصور التخلف والانحطاط تحت وطأة وعاظ الخرافة، فإن الغزالي ظل مدافعًا عن مدرسة العقل، ومكانتها في الإسلام، وظل بشخصه «الكتاب الحي» الأهم في فكر وإسلام النهضة المعاصر الذي يخشاه الآخرون، ويجهله معظم شبابه.

          في إدراك «السنن» الكونية والحضارية أو تسخيرها لصالح البشر. يقول: «إن القرآن نبّه فعلاً إلى أنه كما توجد سنن كونية في إطار المادة، كذلك الأمر في الحضارات، وانهيارات الأمم وانتصاراتها. إنها تخضع لقوانين لا يمكن أن تتبدل، سنن الله في المجتمعات هي صور أخرى مكمّلة أو امتداد طبيعي لسننه في ميادين العلوم التطبيقية، ليس هناك فوضى في الكون من ناحية البناء العلمي له، ومن ناحية الانطلاق الحضاري، وقد انطبقت هذه السنن على صاحب الرسالة نفسه، نصرًا وهزيمة. فعندما قصّروا في اتخاذ الأسباب المطلوبة لاستكمال النجاح في «أحد» هزموا. وقيل لصاحب الرسالة: ليس لك من الأمر شيء . وما يتصور إن أمة تُحابى أو تستثنى من هذه القوانين. وقد طبقت على أمتنا خلال الأربعة عشر قرنًا من تاريخها» - ص 50.

          أشعر دائمًا، وهو شعور مقلق، إن المسلمين يخالجهم وهم كبير وهو أنهم «يختلفون» عن بقية خلق الله، وأنهم لهذا «الامتياز» يتوجب على الأمم الأخرى وقوانين الكون والتاريخ، والنصر والهزيمة، أن «تحابيهم».

          وهذا من مواطن الاندحار المتتابع الذي يعانونه. حقًا، إن الإسلام عقيدة متميزة، ولكن الوحي الإلهي ينبه المسلمين في القرآن إلى أن الله يحكم بينهم يوم القيامة فيما هم فيه مختلفون . فاختلاف التميّز والتفوّق مسألة أخروية غيبية، أما الدنيا، فمسئولية المسلم واختباره في تحمّل أعباء «الرسالة». فتميّزه إذن في مسئولية الاختبار حسب سنن الله في كونه وخلقه، وإذا كان صاحب الرسالة نفسه عليه السلام، خاطبه ربه ليس لك من الأمر شيء ، عندما أخلّ المسلمون بشروط الحرب والنصر، كما يذكرنا الشيخ محمد الغزالي، فما بالك بأجيال أخرى من المسلمين تتالت، بين نصر وهزيمة، وتقدم وتخلف، وكان المعوّل دائمًا فيما قدمته الحضارة العربية الإسلامية، من «إنجازات» في التاريخ الإنساني هو مدى مراعاة المسلمين لسنن الله في كونه، وفي خلقه: ولن تجد لسنة الله تبديلا  الآية.

          وغير خاف على العارفين بمجريات التاريخ العربي الحديث أن الشيخ محمد الغزالي قد ميّز في ذهنه وسلوكه بوضوح بين الفكر المعرفي القرآني والنبوي في الإسلام، وبين أيديولوجيا الجماعات الإسلامية بالرغم من تعاطفه معها، وظل مواصلاً رسالته الفكرية الإسلامية الحرة عندما اشتد الصراع السياسي والأيديولوجي بين «الإخوان والثورة»، منذ 1954.

          بعكس الغزالي، وعلى الطرف الآخر من المنشور الفكري الإسلامي، خرج سيد قطب، رحمه الله، عن فكره الإسلامي النهضوي السابق عندما كان قريبًا من مدرسة العقاد، وتحت تأثير السجن السياسي لحكم «الثورة»، جاء كتابه «معالم في الطريق» عام 1962 يمثل نوعًا من «الثأر الفكري» لمختلف طروحاتها الفكرية. ووضع المسلمين المعاصرين في موقف الاستحالة بين أسود وأبيض، وبين كفر وإيمان، كما فعل الخوارج من المسلمين في الصدر الأول. يقول سيد قطب في كتابه المذكور: «المسألة في حقيقتها هي مسألة كفر وإيمان. هذا ما ينبغي أن يكون واضحًا. إن الناس ليسوا مسلمين - كما يدعون - وهم يحيون حياة الجاهلية. إذا كان فيهم من يحب أن يخدع نفسه أو يخدع الآخرين، فيعتقد إن الإسلام يستقيم مع هذه الجاهلية فله ذلك، ولكن انخداعه أو خداعه لا يغير من حقيقة الواقع شيئًا، ليس هذا إسلامًا» - معالم في الطريق، ص213. وهذا تخيير لم يقل به صاحب الرسالة نفسه، عليه الصلاة والسلام، عندما كان يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وقد أحسن المرحوم حسن الهضيبي، المرشد العام الثاني للإخوان بعد حسن البنا عندما ردّ عليه بكتيب حاسم يقرأ من عنوانه «دعاة.. لا قضاة» بالرغم من أن الهضيبي تعرض لسجن الثورة مثل سيد قطب.

العالم ليس عقلاً

          وقد أدت هزيمة يونيو 1967 إلى الترويج لمثل هذا الطرح. ودخل كتاب سيد قطب «معالم في الطريق» تاريخ الأيديولوجيا الدينية المعاصرة باعتباره «منفستو» الحركات الأصولية، وتحت جناحه فرّخت مختلف حركات التطرف والعنف، فانسد الطريق، بمنطقه الحدي، أمام احتياجات الاجتهاد والتطوير في الإسلام، وأسهم الخطأ التاريخي الفاجع بإعدامه، من قبل نظام الثورة في أغسطس 1966 إلى صب الزيت على النار، وظل فكره حيًا إلى اليوم مثلما يحدث للأفكار التي يقتل أصحابها أيّا كانت.

          وكان سيد قطب قد ألغى دور العقل في الإسلام منذ أن حاول فسخ العروة الوثقى بين الإسلام والعقل بقوله: «هناك جفوة أصيلة بين منهج الفلسفة ومنهج العقيدة، وبين الحقائق الإيمانية الإسلامية وتلك المحاولات الصغيرة المضطربة المفتلعة التي تتضمنها الفلسفات والمباحث اللاهوتية البشرية، فقد بدت «الفلسفة الإسلامية» - كما سُمّيت - نشازًا كاملاً في «لحن العقيدة المتناسق» - كتابه خصائص التصوّر الإسلامي، ط2، ص10 - 12.

          وهذا يلغي كل ذلك الجهد «العقلي» المشهود الذي بذله فقهاء الإسلام ومفكروه وفلاسفته في الدفاع عن العقيدة الإسلامية عبر مسار الحضارة الإسلامية، باعتباره نشازًا وخطأ تاريخيًا! وكلما هيمن هذا الثأر الفكري لمعالم في الطريق،  انسد الطريق، أمام العرب والمسلمين نحو المستقبل.

          والمفارقة أن الهجوم على العقل لم يقتصر على الجانب الأصولي فحسب، فبعد عام واحد من إصدار سيد قطب لكتابه الانعطافي «معالم في الطريق» أصدر عبدالله القصيمي، عام 1963، كتابه المدوي «العالم ليس عقلاً». جاء الكتاب من منطلق آخر تمامًا. من منطلق فكري مضاد، فهو تقديس للشك ولضعف الإنسان وتهافته. وكغيره من تجليات السريالية العربية، التي جاءت فجّة في غير موعدها التاريخي بتأثير غرب متخم بإلحاح العقلانية والعقل، انطلق كتاب القصيمي من شكية شوبنهور ونيتشه.

          في فقرات كالتالية تلمح شوبنهور المردد لأصداء الروحانية الهندية دون إيمانها: «إني أشفق على الحياة في كل الأحياء... في الإنسان، في الوحش، في الذبابة، في جرثومة المرض التي تقتات بحياتي، ليس لأني قديس، بل لأني كائن حي، يتصور العذاب ويجرّبه ويعيشه». العالم ليس عقلاً، ص13، ويضيف القصيمي مستنسخًا أستاذه الفيلسوف الألماني:

          «إني لأحس بدموع البرغوث تتقاطر في عيني، وأحزان الذئب تتكلم في أعصابي، وهموم العدو تعيش في همومي، ليس لأني قدّيس، بل لأني ضعيف» - المصدر ذاته، ص 13.

          وفي موضع آخر من كتاب القصيمي، نلتقي بشوبنهور صاحب فلسفة إرادة القوة: «المرضى والضعفاء لا يتوافقون مع الحضارات والمذاهب القوية لأنها تكلفهم ما لا يطيقون... والبشر ليسوا فضلاء أو غير فضلاء، ولكنهم أقوياء أو غير أقوياء». - المصدر ذاته ص 264 - 265. وتبقى إرادة القوة، التفسير الوحيد لاختلاف البشر في أفكارهم ومعتقداتهم وسلوكهم: «الناس لا يفكرون ثم يريدون ولكنهم يريدون ثم يفكرون، أو ثم لا يفكرون!» - المصدر ذاته، ص 266.

          ومن منطلق هذا التنظير الفلسفي، والبحث في فضائل الضعفاء والأقوياء، يصب الكاتب جام غضبه على الإعلام العربي المكتوب والمسموع والمرئي. وكان هذا الإعلام عندما ألف كتابه الصوت المدوي والمحرك للجماهير في ظل الأنظمة «الثورية» المهيمنة على مراكز الثقل العربي في حينه.

          يقول القصيمي: «لقد تحوّلت الصحافة إلى عدو خطير للإنسان. إنها أكاذيب ونفاق وعجز وبيع للإنسان باسم الدفاع عنه، الصحافة في البلدان العربية، وفي أكثر بلدان العالم، خاضعة لعوامل غير صحفية. إنها لا تفهم الحقيقة ولا تحترمها، إنها في كل حالاتها بلا شرف. هم قوم من المنحلين والمرتشين والضعفاء والمنافقين، إنها - أي الصحافة - أكبر أدوات التضليل والتهديم في العالم المتخلف والعالم الذي تحكمه الدكتاتوريات، تصبح الصحافة في البلد الذي يحكمه الدكتاتور لسان هذا الدكتور وسوطه الرهيب...» - المصدر ذاته ص 270.

وهنا بيت القصيد-... الدكتاتور والدكتاتورية!

          كان القصيمي لسنوات مقيمًا في القاهرة، وتم إبعاده منها إلى بيروت مطلع الستينيات بقرار حكومي، ولم يجد صحافة مسموعة في العواصم العربية تتبنى قضيته. وهنا يلتقي القصيمي المتشكك، بسيد قطب المتصلب في نقد دكتاتورية الحكم «الثوري» الناصري. يصبح الهدف السياسي المباشر واحدًا. ولكن القصيمي يتميز في نقده للدكتاتورية بأسلوب يرقى إلى مستوى الكواكبي في «طبائع الاستبداد».

          ويبلغ التحسب حيال دكتاتورية الحكم الثوري - هاجس المثقفين - ذروته في رواية نجيب محفوظ «ثرثرة فوق النيل» الصادرة 1966 قبل عام من هزيمة 1967. وتحت عنوان «ثرثرة...» مرر نجيب محفوظ أخطر انتقاداته للحكم الثوري في مصر الذي لم تكن تفوت أجهزته انتقادات كهذه، لكنه تسامح مع روائي في مثل قامة الكاتب: «أيها الحكيم القديم أيبو - ور... حدثني ماذا قلت للفرعون؟».

          «أقبل الحكيم ينشد: إن ندماءك قد كذبوا عليك. هذه سنوات حرب وبلاء... ما هذا الذي حدث في مصر؟ إن النيل مازال يأتي بفيضانه. إن من كان لا يمتلك أضحى الآن من الأثرياء... لديك الحكمة والبصيرة والعدالة. ولكنك تترك الفساد ينهش البلاد. انظر كيف تمتهن أوامرك. وهل لك أن تأمر حتى يأتيك مَن يحدّثك بالحقيقة» - ثرثرة فوق النيل ص 132 - 124.

          لا يستطيع قارئ هذه السطور إلا أن يلمح وراءها عبدالناصر، وقد وصلت ثورته إلى الطريق المسدود. لكن القارئ، بعد ذلك، سيتمنى لو استمع إلى هذا القول كل حاكم عربي في أي زمان ومكان!

          غير أن المدهش في هذه الرواية - الثرثرة تلك النبوءة - الكارثة: «... إذا بفرعون يجهش في البكاء. فيلتفت قمبيز نحوه سائلاً عمّا يبكيه، فيشير إلى رجل يسير برأس منكس بين الأسرى، ويقول: هذا الرجل!... طالما شهدته في أوج أبهته، فعزّ علي أن أراه وهو يرسف في الأغلال...»  المصدر ذاته ص 88.

          لم تكن هذه، قبل أشهر من الهزيمة - نبوءة سياسية عسكرية فحسب. جاءت بمنزلة نبوءة ثقافية نفسية يستطيع الراصد رؤية آثارها على امتداد العقود التي تلت تلك الهزيمة المشئومة، بل يستطيع استبطان ما مر قبلها.

          قُدمت تفسيرات كثيرة للهزيمة، لكن التفسير الأقوى كان التفسير الحضاري. إنها معركة حضارية تأجلت كثيرًا. وكان مفكرون عرب قد حاولوا التنبيه إلى ذلك قبل فوات الأوان. ومثل رواية نجيب محفوظ 1966، «جاء كتاب المفكر العربي قسطنطين زريق عام 1964، في معركة الحضارة»، إرهاصًا ملحًا بالمطلب المصيري.

          ولم يكن هذا المطلب وليد ساعته، فله جذور تاريخية من صميم معركة الإسلام ضد تجليات التخلف الرعوي - قرآنًا وسنة وفقهًا - نسيه المسلمون وأغفلوه عندما قبلوا بالخضوع لسيطرة القوى الرعوية الآتية من قفار آسيا البعيدة، فانطفأت مدينتهم المتوهجة تبعًا لذلك.

          ومنذ ذلك الحين، عادت «معركة الحضارة» مطلبًا ملحًا لابد منه لكسب كل معارك المصير الأخرى، وأصبحت أكثر إلحاحًا لأن السلاح ضد العرب والمسلمين أصبح سلاح الحضارة الحديثة بالذات، ولم يعد من مفر ليمتلكوا سلاحها إن أرادوا البقاء.

          مثّل كتاب «في معركة الحضارة» محاولة حديثة عام 1964 لتنبيه العرب في مناخهم الثوري الجامح حينئذ إن «الثورة» بلا ثورة تحضر عبث، وإن معركة الحضارة لابد أن تتصدّر معارك الثورة لضمان النصر، حتى السياسي والعسكري منه، وهو حصاد مر لم يحس العرب بمرارته إلا بعد الهزيمة في يونيو 1967.

          واليوم، مع سيادة نزعة التديّن، تحتاج «معركة العقيدة» إلى إعادة اكتساب أهم مقومات الدعوة الإسلامية المحمدية، وهو خوض معركة التحضّر في  الوقت ذاته. ومَن يتخلف في معركة التحضّر يصبح عبئًا وعائقًا في «معركة العقيدة» التي لا يمكن أن تنتصر إلا بعروة وثقى مع الحضارة، وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة . وأي قوة اليوم غير قوة الحضارة؟!

نقد العقل العربي

          عبر سنوات الهزيمة، أصبحت بحوث العلوم الاجتماعية أبرز هموم المثقفين العرب. وكانت «النهضة العربية الأولى قد التفتت إلى الإحياء الأدبي، والإحياء التاريخي برومانسية مضللة. فقد طغى الانشغال بالأمجاد الضائعة في الأندلس - مثلاً - على تلمس مواضع القدم في الواقع المجتمعي الذي بقي مهملاً إلى أن كشفته أضواء السلاح الإسرائيلي المكتسح!... وصار المثقفون العرب لا يتحرجون من البحث في الذات الجماعية العربية، وعلى رأسها «نقد العقل العربي»، وهو عنوان رفعه محمد عابد الجابري من المغرب واجتذب به جمهورًا مشرقيًا اغترب عن الفلسفة، و«الفلسفة الإسلامية»، تحديدًا، لغيابها عن مناهج التربية في المشرق، لأسباب جديرة بمعالجة أخرى لا يسعها المجال، واكتشف قرّاء كثيرون في المشرق أنهم يكتشفون الفلسفة الإسلامية للوهلة الأولى، بالرغم من أن الجابري كان يلخص بحوثًا عربية وأجنبية في الفلسفة الإسلامية والعقل العربي، ولكن بأسلوب جذاب روّجت له منابر مشرقية لأسباب غير مبرأة من الأيديولوجيا وصراعاتها. لم يتضمن كتاب الجابري، بأجزائه، جديدًا للمختصين.

          وتبسيط الجابري لتاريخ العقل العربي بثلاثية: البيان والبرهان والعرفان ليس سوى تسمية أخرى للمنحى الفقهي، والمنحى الكلامي الفلسفي، والمنحى الصوفي الذي كان معرفة مدرسية منذ عقود، في مراجع الفلسفة الإسلامية.

          هكذا، فذيوع الكتاب لا يعود إلى قوته العلمية بقدر ما يعود إلى ضعف الرصيد المعرفي لدى قرّائه المنبهرين.

          وجاذبيته المضللة أنه يبدو كمعمار فسيح بواجهات زخرفية وأروقة مبهرة، لكنه من الداخل لا يضم إلا القليل من الغرف الصالحة، فنتائجه موضع نظر وتتصف بالهشاشة والتحيّز.

          وسيبقى تاريخ الإنصاف الفكري محكومًا بكتابين رائدين في بدئه ومنتهاه. الكتاب الأول «فجر الإسلام» لأحمد أمين الصادر عام 1927، ويمثل أول مشروع لدراسة العقل العربي قبل كتاب الجابري بأكثر من نصف قرن، ولم يوله صاحب «العقل العربي» لفتة وفاء أو اعتراف بالحق، أما الكتاب الثاني، فهو كتاب جورج طرابيشي: «نقد نقد العقل العربي» بأجزائه الذي هو الجديد في موضوعه ورفض الجابري مناقشته أصلاً، مستبعدًا أول احتياجات العقل!

          ولكن تبقى موضوعات البحث جديرة بالمناقشة والحوار من أجل الاقتراب من الصورة الموضوعية، التي لا أعتقد أيضًا أن بحث أدونيس المماثل في «الثابت والمتحول» قد أعطاها حقها!... بل جاء أكثر تحيّزًا أيديولوجيا من كتاب الجابري.

          ونبقى في المغرب العربي، حيث حركته الفكرية الجديدة تمثل اليوم رافدًا مهمًا في نسج الثقافة العربية المعاصرة.

الحكومة الملتحية

          وأعتقد أن كتاب الدكتور عبدالكبير العلوي المدغري الموسوم «الحكومة الملتحية» والصادر عام 2006 يمثل مقاربة جريئة، بل مغامرة فكر، في تناول موضوعات الساعة، خاصة المتعلق منها بقضايا الإسلام السياسي أو موضوع «الحكومة الإسلامية».

          ويرى المؤلف أن المجتمعات الإسلامية، بحكم  الأوضاع السائدة، ستتمخض انتخاباتها عن حكومات «ملتحية»، ليس لها من الإسلام غير الاسم. ولكن هذه الحكومات سوف تكون «مقدمة لا أقل ولا أكثر لحكومة أخرى تأتي بعدها على إثر عقود من الزمن تسمى بحق (الحكومة الإسلامية)»، التي تحمل رسالة الاعتدال والتسامح، وهي قادمة - في نظره - بحكم الحتمية الديمقراطية المعاصرة، وكون الشعوب المسلمة متمسكة بهويتها الحضارية الإسلامية.

          ويمثل الكتاب في هذه القضايا وجهات نظر قابلة للأخذ والرد. ومن أهم سماته، أنه يتناول أخطر قضايا الاعتقاد في الإسلام بتسامح لافت. فهو يرى بناء على حيثيات قرآنية ونبوية إنه {لا إكراه في الدين}، و «لا قتل لمرتد». فالمرتد يحكم الله في ردّته يوم القيامة، وهو في الدنيا متروك لضميره. وبسعة أفق المفكر يعرض للعلمانية، التي يسميها اللائيكية معتمدًا المصطلح الفرنسي، مبينًا دفاع أصحابها عنها، وما يرونه من إيجابيات لها في مجتمعاتهم الغربية، واضعًا إياها في حجمها الطبيعي، متجنبًا العصبية الفكرية المعتادة التي تنتاب بعض الدعاة الإسلاميين عندما يتحدثون عنها، ومتوصلاً في التحليل النهائي إلى أنها نظام غير إسلامي خاص بالمجتمعات الأخرى تستدعي الفهم دون الاقتباس.

          وعلى ما يبديه المؤلف من سعة أفق، فإنه عندما يصل إلى مبحث (الحكومة الإسلامية)، يرى أنها «مسألة لها علاقة بالعقيدة، لها علاقة بالإيمان والكفر» صـ 281.ولا يطرحها، كما طرح الأهم منها، قضية للنظر!

          وربما تخفيفًا لهذا الموقف، يرى أن «الحكم الذي يبقى إسلاميًا في الجملة، يأخذ بما هو ضروري للتعايش والتساكن والتعاون مع الأنظمة الحديثة الديمقراطية» - صـ 281.

          وكتاب الدكتور المدغري، إجمالاً، يثير تساؤلات أكثر مما يقدم إجابات، لكنه سيبقى مرجعًا لأول قضية سل حولها المسلمون السيوف، ألا وهي قضية السياسة والحكم! فهل سيستطيعون معالجتها اليوم بغير ذلك؟! الكتاب يؤشر إلى طريق آخر نرجو أن يسلكه المسلمون.

          هذا، وبينما كانت منطقة المغرب العربي تتمخض بمثل ذلك، بعد أن أنهكت «النكسة» الفكر المشرقي، كانت منطقة الخليج والجزيرة العربية تقدم ثمار ما مرت به من تراكمات. ولا يتسع المجال لذكر جميع مبدعيها الذين يغمطهم هذا الإيجاز حقهم، ولكن لابد من التوقف في هذه العجالة أمام «عصفورية» القصيبي (1996) التي تحتاج إلى الكثير من إماطة سوء الفهم عن طبيعتها. إن مَن فسروها بأنها رواية ورواية فانتازية قد لامسوا الشكل وغاب عنهم الجوهر، فضلاً عن كونها لا تمثل إشارة إلى مستشفى الأمراض العقلية الشهير بلبنان، وإنما هي البيت العربي بين محيط وخليج في «عصر اللامعقول» الذي يعانيه العرب، إضافة إلى نظرات إنسانية شاملة لا تتعلق بأمة بذاتها.

          لقد أطل القصيبي من خلال العصفورية كمفكر وكاتب نثر متمكن «ماكر» - بالمعنى الفني - يذكّر باستطرادات الجاحظ الممتعة، وتجاوز ذاته كشاعر أو روائي تقليدي. وليس من المبالغة القول إن العصفورية جمعت في كتاب واحد امتداد المعاناة العربية في نصف القرن بكل ما اعتراها من نقد ذاتي، وتعمّق، و«جنون» ورغبة في «التعرّي» الفكري والسيكولوجي والسياسي إلى أبعد الأعماق. ولو أغنى كتاب واحد عن «مزاج» مرحلة بأكملها لقلنا إنه كتاب «العصفورية».

مسيرتي مع الحياة

          وأتوقف لدى كتاب آخر من عطاء الجزيرة العربية والخليج. هو كتاب «مسيرتي مع الحياة» للتربوي المخضرم الذي عرفته عن كثب عاملاً من أجل تعليم أفضل لأجيال بلده، وأكثر تكاملاً لأبناء منطقته العربية، وهو وزير التربية والتعليم السعودي السابق الدكتور محمد بن أحمد الرشيد. لقد ناديت دائمًا بضرورة أن يكتب المسئولون السابقون تجاربهم، وخاصة في هذا الجزء من الوطن العربي، حيث التسجيل والتوثيق نادران ويتحاشاهما كثيرون تجنبًا للإحراج. ولكن الحقيقة يمكن أن تروى بطرق عدة. ولنا في كتاب الدكتور غازي القصيبي «حياة في الإدارة» الذي فاقت طبعاته العشرين، وأصبح مرجعًا في كليات الإدارة مثالاً عمليًا لافتًا كتبت عنه في مناسبات أخرى.

          وصدور كتاب الرشيد (2007) الذي يروي فيه تجربته في الحياة وفي التربية بتفاصيل واقعية وإنسانية دقيقة، تدل على براعته كاتبًا، حيث يلمس القارئ مدى قدرته على التقاط صور الحياة بمختلف جوانبها.

          يأخذ الرشيد قارئه منذ كان طفلاً في بلدة «المجمعة» بنجد إلى أن أصبح قائدًا تربويًا برؤية متقدمة للتربية والحياة والمجتمع. وأعتقد أن الكتاب سيبقى مصدرًا تاريخيًا حيًا لمؤرخي تطور المملكة العربية السعودية منذ البدء حتى يومنا. فالتاريخ ليس مجرد وثائق جامدة، وإنما هو صور حية كما نجدها في هذا الكتاب، وهو كتاب يستحق وقفة مطولة، لولا محدودية الحيز الذي نكتب في إطاره.

نظام الحكم والإدارة في الإسلام

          وكما بدأت بكتاب الشيخ الغزالي، أختم بكتاب لمفكر إسلامي في وزنه ومكانته وهو الإمام اللبناني الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين، الذي أعتقد أنه حان الوقت لدراسته مفكرًا إسلاميًا مجددًا ورائدًا. فقد لفت نظري في العقود الأخيرة بطروحاته المتقدمة في المسألة السياسية الإسلامية المشتركة بين المسلمين كافة، وباتجاه اتفاقهم على رؤية متقاربة لأعقد مسألة في تاريخ الإسلام وهي مسألة الخلافة والحكم.

          أما كتابه، فهو «نظام الحكم والإدارة في الإسلام»، الذي ظل لخمسين عامًا يطوّر أفكاره ورؤاه إلى طبعته الأخيرة عام 1995، حيث أصبح من أهم المراجع الإسلامية في مسألة الحكم، وأجمل تركة قدمها لأمته الإسلامية بعد رحيله.

          ويأتي (مسك الختام) فيه ما يمكن أن تجتمع الأمة كلها عليه، وهو: «صيغة ولاية الأمة على نفسها» التي يرى - بعد شروحات فقهية معمقة: «أنها لا تؤدي إلى أزمة حكم ولا أزمة طاعة، لأن هذه الصيغة تقتضي أنه يشرع لكل شعب من الأمة أن يقيم لنفسه نظامه الإسلامي الخاص به في نطاق وحدة الأمة». ص420.

          هذا مع تأكيده المعروف على أن المواطنية شرف مشروع لكل المواطنين في مجتمعاتهم الإسلامية دون استثناء، وعلى الجميع الاندماج في المشروع الوطني.

 

محمد جابر الأنصاري   





الشيخ محمد الغزالي





عبدالله القصيمي





نجيب محفوظ





د. محمد عابد الجابري





 





 





محمد ابن أحمد الرشيد