التمثيل الجمالى للحياة فى عشر روايات عربية

التمثيل الجمالى للحياة فى عشر روايات عربية
        

دعتنى مجلة العربى الغراء إلى كتابة مقال نقدى ـ فى إطار احتفالها بعيدها الذهبى ـ عن أبرز عشر روايات عربية فى النصف الثانى من القرن العشرين، فوضعتنى فى مأزق حرج بهذا التحديد العددى والزمنى، لأن تلك الفترة على وجه التحديد هى التى شهدت ظاهرتين لافتتين فى الحياة الأدبية:

          أولاهما تتمثل فى ما يمكن أن نسميه  «انفجارا روائيا» ـ موازيا للانفجار المشهود فى أدب أمريكا اللاتينية ـ من ناحية الكم الهائل من الأعمال، والمستوى الرفيع الذى بلغته فى إنضاج التقنيات السردية وتقديم الرؤى المتنوعة. الأمر الثانى أن النصف الأولى من القرن قد شهد اختمار جنس الرواية وتجاربها الأولى فى مصر والشام، بينما توزع دمها خلال النصف الثانى على جميع القبائل والأمصار العربية، مع تفاوت طبيعى فى مستوياتها الإبداعية، مما يجعل اختيار عشرة أعمال فحسب يبدو من قبيل التعسف والحصر غير المبرر. حاولت الإفلات من هذا الحرج بالاعتذار دون جدوى، فأنا مدين شخصيا لمجلة العربى بأنها كانت أول نافذة عربية كبرى أطل منها، منذ قرابة ثلاثة عقود، على القراء فى مختلف أرجاء الوطن العربى الكبير، إثر عودتى نهاية السبعينيات من المكسيك، حيث كتبت مقالاً عن رواية» الحرافيش » لنجيب محفوظ، وتعذر نشره فى مصر لحالة الجزر الثقافى الذى كانت تعانيه، فبعثت به ـ دون سابق معرفة شخصية ـ إلى المثقف الجميل أحمد بهاء الدين، وكانت دهشتى منعشة عندما نشره فى صدر العدد التالى مباشرة. عمّدتنى مجلة العربى إذن فى النقد، وعلىّ أن أرد لها هذا الجميل فى يوبيلها الذهبى، وإن كنت أدرك أننى لن أرضي كثيرا من النقاد أو المبدعين باختياراتى. وسيكون سخطهم أشد لغياب عناوين وكتاب يرونهم أهم من المذكورين. لكن أخطر ما فى هذه المغامرة النقدية هو محاولة تأسيس معيار واضح للاختيار، يمكن أن أحتكم إليه وأحتمي به، فقد درجنا على تقدير أسماء الأعلام بما يمثلونه من انتماءات إقليمية أو أيديولوجية، كما تعودنا على ذكر الأعمال التى تترك أصداء لدى القراء أكثر من غيرها، بحيث يكون العلم أو العمل متفردًا بذاته، لا يندرج مع غيره فى سياق متصل، وحينئذ يصبح أقصى ما يبلغه التصنيف بهذا المنطق أن يجمع الأسماء فى مناطق جغرافية أو أجيال زمنية. وقد جرب مؤرخو الرواية العربية كلا الأمرين، فوزع علي الراعي كتابه عن الرواية فى الوطن العربى على أساس البلاد والأقطار، وقسم سيد حامد النساج ما اعتبره «بانوراما الرواية العربية » على الأجيال، واهتم كل من الرائدين محمد يوسف نجم وعبد المحسن طه بدر بالتعاقب الزمنى والإقليمى. بيد أنه كانت لي محاولة أخرى متواضعة مطلع التسعينيات لرسم معالم التمييز بين الروائيين على أساس تقنى أسلوبى جديد، فصلتها فى كتاب وجيز بعنوان  «أساليب السرد فى الرواية العربية» حيث انتهيت إلى توصيف ثلاثة أساليب كبرى أطلقت عليها الأسلوب الدرامى، والغنائى، والسينمائى التوثيقى، اعتمادا على التراتب بين ثلاثة عناصر روائية وهيمنة أحدها على ما سواه، وهى الإيقاع المعتمد على الزمان والمكان، أو المادة المرتبطة بحجم الرواية وتشكيل خطابها، أو الرؤية المجسدة فى حركة الرواية وبؤرة المنظور، وتناولت عددا من كبار الكتاب من مختلف الأجيال والبلاد باعتبارهم نماذج لهذه الأساليب التقنية. لكن ليس بوسعى الآن الاحتكام الدقيق لهذا التصنيف فى اختيار الروايات العشر، لاعتبارات تتعلق بدرجة تفاوت الأهمية والتأثير، مما لا يتسق مع خارطة الأساليب الفنية التى لا تعتمد على التفاصيل وسلم الأولويات ومستوى الإنجاز الفنى. ويبقى هناك عاملان لا يمكن إغفالهما فى هذا الاختيار العسير:

          الأول: هو درجة نجاعة هذه الأعمال وكفاءتها فى تمثيل الحياة العربية، وبلورة الضمير الفردى والجماعى الأكبر من البيئات التى تقدمها فى مراحل تاريخية معينة، على اعتبار أن رؤية العلم واستبصار مقوماته عبر الأدب مازالت تعد أصفى نموذج لتشكيل الوعى والتعبير عن درجة التطور الحضارى للمجتمعات الإنسانية.

          أما الأمر الثانى فهو درجة نضج هذه الأعمال الفنية فى توظيف التقنيات السردية المحدثة، والكشوف الإبداعية الجديدة، دون إغفال ضرورات المزاوجة بينها وبين ما استقرت عليه التقاليد الفنية عندما يتطلب الموقف ذلك، وذلك بغية أن يصبح هذا التمثيل للضمير الفردى والجماعى على مستوى ناضج فى منظومة القيم الجمالية التى ترقى بها فنون السرد، وتصبح أعظم كفاءة فى التعبير والتوصيل والتأثير. من هنا تصبح عبارة «التمثيل الجمالى للحياة فى الرواية» هى البؤرة التى تذوب فيها فواصل المدارات الإقليمية والزمنية، وترتكز عندها محددات الاختيار وشروط صحته. على أنه يظل فى نهاية الأمر مغامرة مثيرة للاختلاف المشروع لدى الباحث نفسه فى ظروف مغايرة، فضلا عن الآخرين، مما يمكن أن يكون مجالا خصبا للحوار الفكرى حول منجزات الرواية العربية.

نسق خماسىّ

          ربما يكون العددان اللذان يدور حولهما الاختيار (10 روايات × 50 عاما) هما المسئولين عن هذا النسق الخماسى الذى تشكلت فيه أمامى هذه الأعمال، فقد قمت أولا بوضع عناوين الروايات طبقا لتاريخ صدورها، مراعيا تحقيقها لشرط التمثيل الجمالى للحياة فى مختلف أبعادها، فانتظمت أمامى تلقائيا فى روايتين تقريبا لكل عقد من العقود الخمسة مع بعض التفاوتات الحتمية، ولم يكن من الصعب التماس الروابط بينها فى التجربة أو التقنية أو العوالم التى تجمعها، وكان من الضرورى اختيار عمل واحد لأى كاتب مهما كانت أهمية أعماله الأخرى، أو إغفال كتاب آخرين لم تتمكن أعمالهم من اختراق حدود العشرة الطيبة فأرجأت الإشارة إليهم حتى يأتى موقعهم  فى نهاية المقال، مع خطورة أعمالهم فى مجال التمثيل الجمالى للحياة العربية فى أقاليم بأكملها، مما يجعل الغياب اللامع لما كان ينبغى أن يذكر هو عيب الحصر الرئيسى الذى لا مفر منه، وقد تمثلت خلاصة هذا الاختيار فى منظومة من خمس ثنائيات على الوجه التالى:

          1- عوالم القرية والمدينة، وتتمثل فى روايتى:  الأرض (1953) : عبد الرحمن الشرقاوى. الثلاثية (1956 / 1957): نجيب محفوظ

          2- الاغتراب الخارجى والداخلى، فى روايتى:  موسم الهجرة إلى الشمال (1966) : الطيب صالح، بقايا صور (1974): حنا مينه .

          3- نقد بنية المجتمع العربى، فى روايتى: البحث عن وليد مسعود (1975) : جبرا إبراهيم جبرا، شرق المتوسط (1977): عبد الرحمن منيف.

          4- البحث عن الذات المبدعة، فى روايتى:  التجليات (1982 / 1986): جمال الغيطانى، صخور السماء ( 2001): إدوار الخراط.

          5 - النفى فى الزمان والمكان، فى روايتى:السحرة (1994): إبراهيم الكوني، الحب في المنفى (1996): بهاء طاهر.

عوالم القرية والمدينة

          بدأت رواية الأرض (1953) لعبد الرحمن الشرقاوى بنقد صورة القرية كما تجسدت فى المهاد القصصى السابق عليها، لتعلن بداية حقبة جديدة من التمثيل الجمالى للحياة طبقا لشروط انعكاس الواقع فيها، يقول الراوى الصبى فى المطلع:

          «كنت وأنا أجلس على الساقية أسترجع ما قرأت فى الصيف.. كنت أسترجع دائما كتاب «الأيام» و«إبراهيم الكاتب» و«زينب» وكنت أرى فى قريتى أطفالا عديدين أكل الذباب عيونهم كالقرية التى عاش فيها صاحب الأيام، وتمنيت لو أن قريتى كانت هى الأخرى بلا متاعب كالقرية التى عاشت فيها «زينب» والفلاحون فيها لا يتشاجرون على الماء، والحكومة لا تحرمهم من الرى ولا تحاول أن تنتزع منهم الأرض، أو ترسل إليهم رجالاً بملابس صفراء يضربونهم بالكرابيج،.. وكانت النساء فى قريتى يحملن الجرار كنساء القرية التى عاشت فيها زينب، وكانت لهن أيضا نهود، ومن بينهن وصيفة ضاحكة ريانة، منعمة بيضاء ممتعة تثير الخيال أكثر مما كانت زينب فى الكتاب الذى قرأته ولم أجد فيه مأساة قريتى».

          كان الشاعر المحامى الاشتراكى عبد الرحمن الشرقاوى، المفعم بالروح الثورية هو الذى يعلن فى بداية روايته عند منتصف القرن  انبثاق الرواية الواقعية العربية بطريقة شعرية ملحمية، تطوى صفحة الرومانسية السابقة، وتفتح فضاء القرية المصرية للتمثيل الجمالى العارم، حيث يعتمد الكاتب على تقنيات الانعكاس فى رصد مواقف الفلاحين المحتدمة فى صراعهم مع ممثلى الإقطاع والسلطة، عبر لحظات درامية مشحونة، فاستطاع أن يشكّل نماذج بشرية تنحفر فى ذواكر القراء طيلة أعمارهم، مثل عبد الهادى البطل ووصيفة الريانة وخضرة اللعوب ومحمد أفندى المتأنق، واستطاع أن يستشرف طرفا من منظور المستقبل فى انتصار العدل بالإصلاح الزراعى ونجاح الفلاح ـ بالرغم من الهيمنة الإقطاعية أيام ديكتاتورية صدقى فى الثلاثينيات ـ فى التماهى مع الأرض والشرف والعرض، لكنه لم يستطع أن يحافظ على تقنية الراوى المتعلم المتحدث من منظوره التى كانت تتجاوز إمكانات السرد الواقعى، فاختفى هذا الراوى الشاب القريب من المؤلف الضمنى فى منتصف الرواية وأسلم الزمام للراوى التقليدى المحيط بكل شئ علمًا دون أن يستطيع المؤلف تدارك ذلك، لأنه كان ينشر عمله منجمًا فى الصحف اليومية. لكن تظل رواية الأرض التى تفتحت عليها عيناى فى قريتى ـ حيث يتحلق الناس حولى وأنا أقرأ لهم ـ تمثل فى تقديرى أبرز علامة ناجحة فى التمثيل الجمالى البديع لحياة القرية المصرية حتى اليوم.

          أما عالم المدينة ـ القاهرة فى أحيائها القديمة المفعمة بالروح الشعبى العاطر فقد برزت ثلاثية نجيب محفوظ ( بين القصرين، قصر الشوق، السكرية 1956 / 1957) - وكانت كلها رواية واحدة، قام المؤلف بتوزيعها على ثلاثة أجزاء خضوعا لمقتضيات النشر وسهولة التداول - باعتبارها إعلان الميلاد الحقيقى لحركة التمثيل الجمالى للحياة المصرية الشاملة، حيث اعتمد المؤلف بطريقة أدهى على قوانين الواقعية من الانعكاس وخلق النماذج واستشراف منظور المستقبل بطريقة عفوية، تستمد قوتها من رؤيته الفلسفية وطاقته الفنية المذهلة. ولن تستطيع هذه السطور الخاطفة أن تتأمل رؤيا أهم جماليات الثلاثية التى رصدت لأول مرة تعاقب الأجيال واختمار الثورة وتجاوز المتناقضات فى المجتمع المصرى، لكننا سنكتفى بشهادة معاصرة دالة، كتبها عميد الأدب العربى طه حسين، أحد رواد فن القص الذى يصعب عليه الاعتراف بالإنجاز العظيم لجيل الشباب المبدعين، إذ قال تعقيبا على الجزء الأول «بين القصرين»: «أتيح لنجيب محفوظ فى هذه القصة الرائعة البارعة نجاح ما أرى أنه أتيح لأحد مثله منذ أخذ المصريون ينشئون القصص فى أول هذا القرن .. فلأقدم تهنئتى إذن كأصدق وأعمق ما تكون التهنئة إلى كاتبنا الأديب البارع نجيب محفوظ، ولأقدمها إليه بلا تحفظ ولا تحرج، فهو جدير بها حقًا، لأنه أتاح للقصة أن تبلغ من الإتقان والروعة، ومن العمق والدقة، ومن التأثيرالذى يشبه السحر ما لم يتحه لها كاتب مصرى قبله .. وماأشك فى أن قصته هذه تثبت للموازنة مع ما شئت من كتاب القصص العالميين فى أى لغة من اللغات التى يقرؤها الناس»، طه حسين يرى فى الثلاثية نموذجا فائقا للأدب العربى الذى يرقى إلى المستوى العالمى، ويشرح فى مقاله الشائق عنها طرفا من أسرار إبداعها وتشويقها وتمثيلها الحىّ للمجتمع المصرى فى المدينة أصدق تمثيل.

الاغتراب الداخلى والخارجى

          لا يتسع المجال لتقديم دراسة معمقة لكل من الروايات المختارة، لكن حسبنا أن نعرض بإيجاز لمؤشر واحد يكشف عن موقع كل رواية وأثرها فى خارطة الإبداع العربى. رائعة الطيب صالح - التى أوشكت أن تعد بيضة الديك - «موسم الهجرة إلى الشمال» (1966) بهرت قراء العربية بمعالجة تجربة صدام الحضارات، كما ستسمى لاحقا، عبر تقنيات روائية محدثة، تعتمد على ازدواج الراوى وتكثيف الرؤية، وتوظيف الزمن بآليات جديدة، مع الجمع فى بوتقة واحدة بين عرض أحشاء المجتمعين الإنجليزى والسودانى معا فى قضايا الجنس والتوتر الكامن خلف سطح الحياة الوديع. لم تكن «موسم الهجرة» أول رواية تعرض لاغتراب الشباب العرب فى أوربا والصراع الذى ينجم عن ذلك، فقد سبقتها تجربة يحيى حقى فى «قنديل أم هاشم» وتوفيق الحكيم فى «عصفور من الشرق» وغيرهما، لكن «المدية» التى أمسك بها مصطفى سعيد - على حد تعبيره - وهى عقله النافذ القاطع لتشريح المجتمع الغربى، وغزوه «بخنجر» آخر يرقد بين فخذيه، تفتح صفحة جديدة فى تحويل هذا الصراع من الغزل الهين اللين الذى كان يعتمده الأولون إلى درجة القتل وارتطام العوالم وخرق قوانين المجتمع وأنساقه الأخلاقية. ولكى تنتهى العلاقة السادية بين الحضارتين ـ أقصد الزوجين ـ بحضن وحشى يخترق فيه خنجر حقيقى مابين نهدى الزوجة العاشقة المتهتكة وهى تضم حبيبها الأسود بعنف بالغ، لايوازيه إلا النهاية المقدورة له عندما يلقى بنفسه فى وطنه بين أحضان النيل وأمواجه العاتية، صراع الأفراد والجماعات والثقافات، وتوهج حروب الجنس والفكر هو بؤرة هذا العمل الفذ الذى لا تخمد جذوته بالتقادم، ولا تنفد إمكانات قراءاته عند مختلف الأجيال.

          على أن هذا الاغتراب قد تجلى فى مظهر آخر مضاد له، عند مبدع عربى كبير هو «حنا مينه» الذى كسر بعنفوانه قوانين الزيف والنفاق فى المجتمع ليقدم أفدح سيرة ذاتية عرفتها الرواية العربية وأحفلها بالصدق الجارح والثراء الفكرى فى التعبير عن الفقر المادى. كانت «بقايا صور» (1974) بداية الثلاثية الشامية الملحمية، المعادلة لثلاثية نجيب محفوظ، تبعتها «المستنقع» و«التطاف»، لكننا نكتفى بالإشارة إلى مكمن تفرده؛ فى أنه يستمد نسغ أعماله الفنية من تقلبه المرير على سطح الحياة الساخن، منذ أن كان صبيًا يسحقه الجوع والقهر فى إقليم «اسكندرونة» السورى قبل سيطرة الأتراك عليه، حتى عمل صبى حلاق، وعاملاً فى الميناء طيلة سنين عدة، لم يسعفه بعدها ويشده إلى دنيا البشر «الأوادم» ـ كما يسميهم ـ سوى عمله «مرمطونًا» صحفيًا فى اللاذقية ودمشق، لكنه ظل يمتح من هذا الكنز من الخبرة الطويلة بالحياة عبر سنين قبل أن «يكلم الورق»، مما جعل معاناته المباشرة تفوق جوانب التحصيل المنهجى فى التعليم المنتظم، وتقوم بدور الرصيد الذى يمد يده إليه كلما أمسك بالقلم. على أن المؤشر الذى نؤثره على غيره، هو هذا المزاج الفريد من «الصدق الجارح» من ناحية، والالتزام الأيديولوجى بالفكر الاشتراكى الصارم من ناحية أخرى، الأمر الذى شكل رؤية حنا مينه للحياة، وتحكم فى طريقة اختياره للمواد السردية من «خاماتها» وجعل من رواياته عامة، و«بقايا صور» على وجه الخصوص تمثيلا جماليا لاغتراب الإنسان المستلب فى المجتمع الظالم، ومعاناته لأشكال الشقاء المادى والروحى، حيث تبرز ألوان الحرمان والخطيئة بشجاعة الاعتراف الذاتى، مجسدة النموذج الفنى الصادق فى ذروة احتدامه ومأساويته.

نقد بنية المجتمع العربى

          يلاحظ أن عقد السبعينيات قد شهد طفرة روائية داخل مصر وخارجها، حيث أخذ الإبداع العربى يثمر أقوى إنجازاته السردية؛ ومن الطريف أن الثنائى الذى نجمعه تحت هذا العنوان قد أعلن تآلفه فى الكتابة  المشتركة كظاهرة جديدة لم يسبقها سوى مشاركة طه حسين وتوفيق الحكيم فى «أحلام شهرزاد» نشر جبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف عملهما المشترك «عالم بلا خرائط» بعد أن كرس كل منهما وجوده الأدبى الفعال فى الثقافة العربية.

          كان جبرا قد بلغ ذروة إنجازه للرواية الحديثة فى «البحث عن وليد مسعود» (1975) مفيدا من تجربته الخصبة فى الترجمة الشعرية والنقد التشكيلى والتجريب الروائى، وكما أشرنا فى دراسة سابقة تميز جبرا بثلاث خصائص جوهرية تتمثل فى جسارة الفكر وحركية التقنية الفنية وشعرية التعبير اللغوى، مما يجعل دوره فى تطوير السرد العربى شبيها إلى حد كبير بدور «فوكنر» - الروائى الأثير لديه - فى الآداب الغربية، وبقدر شاعرية جبرا، كان يمتلك أقصى درجة من حب البوح وحرارة الصدق فى تنمية حس الاعتراف الأصيل، فى مجتمع يعادى إلى حد كبير هذا الحسّ ويصر على خنقه وسط ركام زائف من النفاق والحياء.

          كانت رواية «البحث عن وليد مسعود» أهم عمل أدخل تقنية تعدد الرواة وتوزع الحقائق المراوغة عليها إلى تقنيات السرد العربية باقتدار كبير؛ إذ مزجت بين السرد والنجوى والاعتراف المسجل على شريط يوظف تيار الوعى فى سيمفونية بالغة التعقيد وشديدة الانسجام؛ حيث يتجلى بشكل واضح النموذج الأسلوبى لتيار الوعى فى إلغاء الفواصل والعواطف والنقاط، وتدفق الجمل الملتبسة وترويضها للصور، مما يؤدى إلى تداخل الأصوات وتكسر الزمن طبقا لما برعت فيه الكتابة الحداثية عند جبرا وأصبحت من منجزات الرواية العربية .

          فإذا انتقلنا إلى عبد الرحمن منيف وجدنا أن مطولته الباذخة «مدن الملح» التى تقع فى أجزاء خمسة: «التيه» و«الأخدود» و«المنبت» و«بادية الظلمات» (1984 / 1989) تعد من أضخم وأقوى المشروعات الروائية العربية فى النصف الثانى من القرن العشرين، حيث يضئ فيها جذور الوجود التاريحى لتحولات النفط الكبرى فى القبيلة والحاكم والإنسان العربى فى الخليج عامة والسعودية بصفة خاصة، لكن شساعة المدى واتساع الأفق فى هذه الملحمة الكبرى جاء على حساب الإحكام التقنى والتماسك الفنى، فلم تلق ماهى جديرة به من مقروئية وترجمة وتأثير حتى الآن، وإن كانت قد كتبت عنها رسائل جامعية تحت إشرافى. لكنى أؤثر أن اختار من إنتاج عبد الرحمن منيف عملاً آخر هو «شرق المتوسط» (1976) باعتبارها من أنضج الأعمال الروائية وأنجحها فى نقد بنية المجتمع العربى السياسية، وإدانتها للشرط الإنسانى المروّع الذى يخضع له المناضلون من أصحاب الرأى والعقيدة، حيث يتركز وجودهم فى مقاومة السلطة المتجبرة وتحمل صنوف التعذيب البدنى والنفسى من أجل الحلم بمستقبل أفضل لأوطانهم. وإذا كانت رواية نجيب محفوظ «الكرنك» هى التى استهلّت جنس الرواية السياسية التى تكشف الخلل البنيوى فى المجتمع المصرى فإن «شرق المتوسط» جعلتها ظاهرة عربية عامة، لا تسمى فيها الأماكن، فكلها تفتقد ذاكرتها وإنسانيتها بفعل التعذيب. ولأن رؤية منيف للوطن العربى تختزله فى مجرد سجن كبير فإنه يعود بعد سنوات عديدة ليعالج القضية ذاتها فى رواية ملحمية بعنوان «الآن هنا .. أو شرق المتوسط مرة أخرى» (1992) دون أن يكترث لمتغيرات السياسة فى الواقع التاريخى، ولا اختلافات الأقطار العربية فيما بينها، لأن الوجود لديه ينصب فحسب عند تيار الحرية والديموقراطية واحترام حقوق الإنسان، وكسر أسوار سجون النظم السياسية المختلفة، وهو يفعل ذلك فى أعمال توظف أنجع التقنيات السردية المتنامية لتخليق تواصل جمالى فعال مع السجناء الآخرين من القراء، فيبلغ درجة عليا فى تمثيل هذا العصب الحساس فى الحياة العربية.

إحياء التراث فى مرآة الذات

          نشر جمال الغيطانى «كتاب التجليات»  فى ثلاثة أسفار خلال أعوام (1983 / 1987) بعد أن حقق وجوده الإبداعى وأسلوبه المتميز فى إحياء التراث السردى عبر محاكاة لغة المدونات التاريخية والمواجد الصوفية ونظم الكتابة الكلاسيكية. كان ينحت من حجر التراث الصلب نماذجه بوعى جمالى وتقنى جديد؛ حيث يستنبت متخيله الطازج والمازج فى جذر التعبير العربى المأثور على طرف النقيض من أستاذه ومعلمه نجيب محفوظ.  كان يسبق أقرانه من جيل الستينات بالتقدم إلى الماضى والاغتراف من مناهله لتمثيل الحاضر فى قوانينه النابضة وحركته المنتفضة. يصيح به الهاتف فى مقدمة «التجليات»: «يا جمال : .. انتبهت فإذا بنور ساطع يشرق فى ليل نفسي .. رأيت فى بؤرته ثلاثة، وعلى مسافة خلفهم ثلاثة، وفى منتصف المسافة. بينهم واحد؛ أما الثلاثة الأول فيتوسطهم حبيبى وقرة عينى .. إمامى الحسين سيد الشهداء، إلى يمينه أبى، وإلى يساره عبد الناصر .. أما الواحد الواقف فى المنتصف فهو محيي الدين بن عربى» والآخرون من أهل الكاتب وعشيرته». غير أن التجليات تختلف فى بنيتها السردية عن المألوف فى الرواية المعاصرة، إذ تطمح إلى تأسيس خطاب يخرج عن المنطق فى علاقات الزمان والمكان، والأشياء والبشر، حيث تتداخل الأزمنة ويوجد البشر فى أكثر من مكان، وتزول الفواصل بين الأشياء الجامدة وعناصر الطبيعة والإنسان، ويسود الشطح الصوفى بشكل عجائبى مثير، مما يجعلها  متعددة الأساليب والدلالة، وإن كانت بؤرتها الأساسية هى السيرة الباطنية لذات الروائى ومجاهداته فى رد الاعتبار لأبيه المكافح البسيط، وإطلاق العنان لمواجده الروحية ورفاقه الأثيرين فى عوالم الغيب والشهادة، مما يجعلها بالغة الخطورة فى تمثيل الروح الشرقى وعصارة الثقافة العربية. ولعل هذا ما جعلها ـ على عكس مطولة منيف المشار إليها سابقا ـ محل حفاوة نقدية عالمية، إذ ترجمت أسفارها الثلاثة إلى لغات عديدة، وقدمت عنها دراسات أكاديمية مطولة، وأصبحت مكرسة باعتبارها واحدة من قمم الإبداع الروائى المعاصر ونماذجه المأثورة فى شعرية السرد الأصيل .

          أما إدوار الخراط فقد اخترت له فى بداية الأمر «رامة والتنين» (1979) وهى التى أعلنت مولده كروائى متفرد يشق طريقه لتأصيل أسلوب شعرى جديد فى الكتابة السردية، معتمدا على ما أطلق عليه نقديًا «الحساسية الجديدة» حيث يمتح من معين الذات لتمثيل الحيوات الباطنية بلغة مقطرة صافية، غير أنه لم يلبث فى العقدين الماضيين أن ينهمر بكثافة لافتة بما يربو على عشرين رواية أخرى تترك «رامة والتنين» فى فضاء البدايات، لتعيد تشكيل عالمه الفنى وتضعه ـ بأثر رجعى ـ فى مقدمة أصحاب الأساليب الكبرى فى الرواية العربية المعاصرة، وإن كنت أسمى هذا الأسلوب بالغنائى لتركيزه على عوالم الذات المبدعة وإعادة إنتاجها بأشكال بالغة الثراء والتعقيد.

          ويمكن لنا أن نختار نموذجا من إنتاجه الأخير «صخور السماء» (2001) التى يسجل فيها ملحمة الإنسان المصرى، القبطى بصفة خاصة، كما لم تفعل أي رواية أخرى فى الأدب، وعلى الرغم  من أنه ينفى فى الملحق الذى يرصد فيه عدد شخصياتها - خمسا وعشرين شخصية رئيسية، وخمسا وخمسين شخصية ثانوية، وخمسا وثلاثين ولدا وبنتا، إضافة إلى ثمانية عشر راهبا بمختلف الدرجات الكنسيّة، كما أنه يتقمص شخصية الراوى الحالم أبدا - نقول إنه على الرغم من نفيه لأى طابع قبطى أوصعيدى للرواية، وتأكيده أنها ليست سيرة ذاتية، وليس لأحداثها أدنى صلة بالواقع، فإننى رأيت فى تحليلى النقدى لها أنها تتضمن سيرة روحه، وخلاصة مقطرة لرؤيته، وتحتوى على أبرز إيقاعات وجوده، فهو أحد هؤلاء الأدباء الكبار الذين برعوا فى كتابة ذواكرهم وسيرهم الذاتية بأشكال غنائية متفاوتة ومتعددة، لكنهم لا يصورون بعمق سوى أشباههم ممن يرصدون بحدقتهم اللاقطة ويضعون لهم المثقال الفكرى والجمالى الذى يجعلهم أقوى تمثيلاً لتيارات الحياة الصاخبة من حولهم.

النفي في الزمان والمكان

          ربما كانت علاقة التضاد هى التى تجمع بين هذا الثنائى الأخير، وإن كان المنفى هو العنوان الجامع بين عمليهما. إبراهيم الكونى روائى ليبى مدهش، عثر على كنزه الإبداعى فى أساطير الطوارق وأسرار الصحراء، وانفجر فى مدى عقدين فقط من الزمان بعدد ضخم من المجلدات الروائية التى ينوء بها القراء، نختار منها واسطة عقدها «السحرة» (1994) حيث تتجلى فيها خاصيته البارزة؛ إذ تقوم بترجمة العوالم الميثولوجية والفضاء الكونى بكل أبعاده المتجذرة فى الطبيعة والحيوان والإنسان، والمتخمرة فى نسغ اللغة التى ينتقل بها المؤلف من المستوى السردى الناضج المنتظم، حيث تقوم النباتات والظلال والحيوانات بدور الكائنات الاجتماعية فى حركة الوجود التى لم تكن قد تمخضت عن الأشكال الحضارية المألوفة بعد.

          والعجيب أن هذه الأساطير تمتص التراث الدينى السابق على الأديان المعروفة، فالكونى يحكى مثلا فى القسم الثانى من الجزء الأول عن حيل «وانتهيط» الساحر المعادل لإبليس فى غواية الأرض، لتسترد دميتها من «الزعيم» قائلا: «لاأخفى عليك أنى اختلفت يوما مع الزعيم، فطردنى وأصدر أمره الجائر إلى المردة فحرموا علىّ دخول «حرم القمم»، قالت الصحراء : وما الحيلة؟ قال  «وانتهيط» سأخفف همّك وأنتقم لك إذا صنعت لى بدنًا يقدر أن يدخلنى الحرم خفية عن عيون العسس، تعجبت الأرض : وهل تنفع الأبدان والأستار مع من لا تخفى عليه خافية ؟ أجاب «وانتهيط» اللئيم: ليس الزعيم من يقف على الأبواب، ولكنهم أتباعه من أخيار المردة، وإذا أبدعت فى صنع البدن كما أبدعت فى خلق الدمية فإنى سأعرف كيف أخدعهم، وسأجد السبيل إلى الدمية التى تتسكع الآن هناك على قدمين «فتلد الأرض بكل مواجعها «الحية» التى تمتلك سر الحياة، فتصعد إلى الأعالى وتتحد بالأنثى والساحر «وانتهيط» لتسترد الدمية التى نفخ فيها الزعيم من نفسه، وتستثمر ملحمة الوجود فى بكارتها الأولى بتقلبات السحرة والمردة وعصيان أوامر «الزعيم» تارة وطاعته تارة أخرى ليعمر وجه الأرض بهذه الكائنات السحرية الغرائبية.

          أما الرواية العاشرة التى تجسد المنافى المادية والروحية التى استغرقت الإنسان العربى فى العقود الأخيرة فهي رواية «بهاء طاهر» «الحب فى المنفى» التى وصفها أستاذنا الراحل على الراعى بأنها «كاملة الأوصاف» من الوجهة التقنية والإبداعية، وخشيت على بهاء طاهر من هذا الوصف الخطير الذى يتهدد طموحه الأدبى، لكن إنجازه التالى فى «نقطة النور» و«واحة الغروب» يؤكد أنه من قامة كبار المبدعين الحقيقيين، القادرين على تجديد دم الرواية العربية الواقعية، وذلك بإسقاط منشور الضوء من قمة العمر على تضاريس الزمن القريب ليجسد حركة الحياة وينفذ إلى نبض الوجود، ويجمع المتناقضات التى لا تلتقى فى منطق العقل بقدر ما تتفاعل فى لجة الحياة الفوارة. والمدهش أنه يقدم كل هذه الدلالات موظفا التقنيات السردية المألوفة بإتقان يصل بها إلى أبلغ مستوياتها الشعرية، مما يجعل «الحب فى المنفى» نموذجًا رائعًا لتشابك مصائر البشر فى الحب والسياسة ، وتمازج مواجد الإنسان فى دوائر الحياة الحميمة والعمل المشترك فى مؤسسات الدولة، حيث تبرق نقاط التماس بين الأوطان والثقافات. على أن أهم ما تحققه هذه الرواية هو توازن الإيقاع المدهش بين الأحداث الخارجية والتموجات الفكرية والوجدانية للإنسان العربى فى المنفى، حيث تبرهن على أن التمثيل الجمالى للحياة المعاصرة فى شتى أوضاعها هو الذى يرتقى بشعرية السرد إلى آفاق واعدة.

وبعد.

          فليسمح لى القارئ لهذه الخلاصة المركزة عن الروايات العشر التى أعدها زبدة الإبداع العربى فى السنوات الخمسين الماضية، أن أضيف إليها أحد عشر اسما آخر لمبدعين عرب وهم الطاهر وطار وواسينى الأعرج من الجزائر، ومحمد شكري من المغرب، وإلياس خوري من لبنان؛ وأحمد إبراهيم الفقيه من ليبيا، وسحر خليفة من فلسطين، والثلاثى المبدع صنع الله إبراهيم وخيري شلبى ومحمد البساطى من مصر، وفؤاد التكرلي من العراق، وإسماعيل فهد إسماعيل من الكويت، فكل من هؤلاء جدير بأن يخلد فى ذاكرة الرواية العربية.

 

صلاح فضل   





 





 





 





 





 





 





 





ادوار الخراط