محاولة رسم لوحة سريعة

محاولة رسم لوحة سريعة
        

شعر

كيف تستطيعُ الكتابةَ عن مدينةٍ
أنت الذي توهّمت الكتابة كثيرًا
كيف؟
عن أيامها الخصيبةِ
وسِنينها العجاف
عن بشرها السارحينَ في بريّةِ الله
طلعةَ كلِّ صباح
مندفعينَ إلى أحلامِ الجنةِ
وطفولةِ الجحيمِ
ها أنتَ تقفُ الآنَ حائرًا
مرتبكًا وفارعًا
أمامَ لوحتكَ الفارغة
أمامَ لوحةِ المدينة
بشياطينِها وملائكتِها الأقدمين
أمامَ هذه الصحراءِ
بمعراجِ ضجيجِها القاني
يدلفُ رأسكَ
مرجلَ فضاءٍ تحتضرُ فيه الكواكبُ
قبلَ اضمحلالِها الأخير
ها أَنتَ أمامَ المدينة
أحشاءُ المدينةِ المبعثرةِ في الأرجاءِ
مصارينُ جوفِها المتعرِّجة
كزحفِ الأفاعي الكاسرِ في ذروةِ الصيف
المدينة
لوحةُ المدينةِ
التي أبدعها الرسّامُ
قبل انتحارِه بقليل
وصيتُه الانتقاميّةُ الأخيرة
تقولُ، إنها لوحةٌ جميلة
رُسمتْ بعنايةِ صانعٍ أنيق
بحِبرِ الضحايا المندلقِ على الوجوه
بأفراحِ جلاّديه
لوحةٌ واقعيّة
واقعيّةٌ جدًا، حدَّ الفضيحةِ والهاوية
بهيجةٌ بهجةَ لعابِ الشبَقِ على الشفاه
بهجةَ الجرادِ وهو يطيرُ فوقَ حقولِ النفطِ
المحترقةِ
ببراءةِ البشرِ الأوائلِ في السهوب..
هاأنتَ تحاولُ وصفَها من الخارج
بعد أن لفظتكَ الأحشاءُ
ربما هي هكذا:
وقحةٌ من غيرِ أسرار
سطحٌ مضطربٌ في الفضاءِ اللانهائي
لا تحتَ ولا فوق
لا داخلَ ولاخارج
عدا رفاتِ الموتى تبعثرهُ الريح
وحفنةٍ من رمادِ النجوم..
ويمكنكَ أن تستشفّ من لوحةِ الخلق
أن الرفاتَ والعظامَ والرماد
مع محروقاتٍ أخرى
شكّلت المهزلةَ التي تحاولُ رؤيتَها
من غيرِ أحلامٍ ولا أسرارٍ
يزعمها الأدباءُ عادةً
مشكلّينَ أهرامات من الوهم الإضافيّ،
على النعيبِ الخالدِ لغربانِ المقبرة
وجرادِها الذي كان في الماضي
يعصفُ بالحقولِ الخضراءِ
منظرهُ الأكثر جمالاً من وصفِ حديقةٍ مزهرة
أو حوضٍ تسبحُ فيه أسماكُ الحبِّ الملوّنة
وبالطبعِ
أجملُ من قصيدةٍ ملحميّةٍ في وصفِ معركة
أو نشيدِ انتصار
الجرادُ العميق
قبل تحليٍقه في دخنةِ النفط
يحمل قبسًا من سِرِّ
سِر الكائنِ الصغير
الذي يستطيعُ أن يقلبَ ميزانَ الحرب
لصالحهِ
في بهيم الليلِ الساجي
أو في جبروتِ الظهيرة
معمِّمًا بهجة الخراب
جيوشُه الواقفةُ على أبوابِ المدينة
من غير رغبةٍ في الدخول
ربما راودته إشراقةُ الحنين
إلى ماضي الأريافِ الذي ولى
ربما اضمحلتْ تلك الرغبةُ الملهمة
وصار ذكرى عابره
في كتابِ الطبيعةِ والحيوان
المدينةُ على حالِها
بمعراجِ ضجيجِها القاني
سحبُ الجرادِ المتفحِّم في الهواء
عمّالُ التراحيل
ونداءُ الباعةِ الموتى
لاشيءَ يدعوكَ إلى الخروج
غير هديلِ اليمامِ المنطفئ
وتفقد أركانِ المزبله
المدينةُ على حالها
بصخبِ جرذانها المرحة
وصفيرِ القطاراتِ المندفعةِ نحو الجحيم
وأنتَ على سريرك
أو على إسفلتِ الأرضِ العاريةِ
تحاولُ أن ترسمُ صورةً
لبشر متفحِّمينَ في الهواءِ
في مدينةٍ منقرضة

 

سيف الرحبي