الشعر في الكويت.. قراءة في إبداع الأجيال

الشعر في الكويت.. قراءة في إبداع الأجيال
        

          في محاولة للتعرف على أصداء فكرة أو مفهوم الجيل في إبداع الشعراء، وهي النظرة الجامعة بين أجيال الشعراء في كتاب «سليمان الشطي» الشعر في «الكويت - دار العروبة، 2007» تأتي هذه القراءة. وهذا المفهوم من القضايا الرئيسة في سوسيولوجيا المعرفة Sociology of knowledge، وهي الدراسة التي تتعلق بالأصول والآثار الاجتماعية للأفكار.

          والناظر في كتاب «الشعر في الكويت» يلمس المعاناة التي تكبدها «سليمان الشطي» في جمع هذا النتاج الإبداعي لما يربو على خمسين شاعرًا على مدى قرن من الزمان أو يزيد، حيث واكب بداية النشاط الإبداعي قبل أن تطوى صحف القرن التاسع، على نحو ما التمس تجلياتها لدى «عثمان بن سند» (ت 1827) و«خالد العدساني» (1834 - 1898) وانتهاء بجيل الشعراء الشباب الذي بدت بشاير نتاجه على مشارف هذا القرن، وبين جيل البدايات: شعر الفقهاء - على الأغلب - وجيل الشعراء الشباب، جيل الحصاد: قرأ سليمان الشطي على مُكث شعر جيل الستينيات. نحن إذن إزاء مشروع طموح يتغيا رسم خارطة للإبداع الشعري ترسم معالم على طريق البحث الأدبي والنقدي في ضوء إبداع الأجيال بمختلف أطيافهم، والهاجس الذي كان يحكم الضمير النقدي عند «سليمان الشطي» يتمثل في: «التنوع الخلاّق» من خلال الوعي بقيم العصر والبيئة وطوابعهما السياسية والثقافية وتجليات كلِّ ذلك مجتمعًا في الإبداع، (حرص سليمان على تقديم إضاءة يمهّد بها لتوجهات كل جيل والمؤثرات التي شكَّلت أو أسهمت في اتجاهه الفني)، كما أنه كان حريصًا على الإشارة إلى أثر الماضي في الحاضر، أو مدى حضور الماضي في نتاج المبدعين من أجيال الشعراء.

          ومن البيِّن أن «سليمان الشطي» بحساسية المبدع وبحسّ الناقد ووعيه أدرك أن قيام أي حركة نقدية ناضجة لا بد لها من مهاد يقوم على استقراء علمي دقيق، يحدد أبعاد هذا «الكم» من العطاء الإبداعي ، ويضعه أمام الباحثين تمهيدًا للتعرف على قيمته الفنية. ومن هنا تكتسب هذه الدراسة قيمتها الرائدة. على أن فائض القيمة هنا يتحدد بعد أن يتم استقراء ببليوجرافي يقوم على حصر النتاج الإبداعي المنشور في الدوريات - وهي مصدر رئيس للمشتغل بالأدب الحديث والنقد الأدبي - ولم يجمع في دواوين.

          ومهما يكن من أمر، فإن هذا الجهد العلمي النقدي، جهد مقدور،  ويتلاقى والفكرة، التي ترى أن النقد في جوهره «تسجيل وتبويب، وتقويم وتبصير يلاحق ويسبق الأعمال الفنية التي تحاول الأمة أن تعبر بها عن نفسها» (يحيى حقي، المساء، 8 مارس 1960).

          والوعي بتجليات فكرة الجيل أو أصدائها في الأدب يمكن أن نلتمس له أكثر من نموذج في الأدب الحديث. وهنا يقف كتاب عباس محمود العقاد «شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي» في الصدارة ، وهو يعتمد على نظرية هيبوليت تين في العصر، والبيئة، وتأثير الماضي في الحاضر، حيث أكد أن معرفة البيئة ضرورية في نقد كل شعر في كل أمة، وفي كل جيل. وكان العقّاد في إلحاحه على البيئة معنيًا بالبيئة الثقافية أو التكوين الثقافي للمبدع، لأن مصر قد اشتملت منذ بداية الجيل إلى نهايته على بيئات مختلفات لا تجمع بينها صلة من صلات الثقافة غير اللغة العربية، وثقافة هذا الجيل لم تكن على نسقٍ واحد ولا مرتبة واحدة، لاختلاف درجة التعليم في أنحائها وطوائفها ، بل لاختلاف نوع التعليم بين من نشأوا على الدروس الدينية ومن نشأوا على الدروس العصرية، كما اختلفت بين هؤلاء جميعًا وبين من أخذوا بنصيبٍ من هذا وذاك.

          والنموذج الثاني: «جيل الستينيات» وقد شاع هذا المصطلح في الستينيات من القرن الماضي. وجيل الستينيات من أبرز الأجيال في تاريخ أدبنا الحديث والمعاصر، بما فيه الأدب في الكويت ، ففي مصر كان الكلام عن مسرح الستينيات: سعد الدين وهبه ، ونعمان عاشور ، ويوسف إدريس، كلهم دفعة واحدة، وعبدالرحمن الشرقاوي، وصلاح عبدالصبور في المسرح الشعري، جيل واحد، حقبة اختلفت عما قبلها وما بعدها، كان وراءها مناخ اجتماعي معيّن، على الرغم من كل تناقضاته، دفعهم إلى الإنتاج المستمر، وحماسة فائقة من وزير للثقافة يعشق الفن، ثروت عكاشة آنذاك، ورئيس لمؤسسة المسرح همُّه المسرح، علي الراعي، نعم، المسرح مؤسسة اجتماعية يتميّز فيها عصر عن عصر بتأثير عوامل كثيرة متشابكة، المؤلم أن مؤسستنا المسرحية لم تستمر، ومجدنا القومي سقط في الوحل، عندما ضربته صاعقة حرب الأيام الستة (شكري عياد، ارتباط المثقف بالحياة، الهلال، يناير 1998م).

          وهنا، حين ننظر في «الشعر في الكويت» نجد أن «حساسية العصر» قد بدت في أبهى صورها وأكثرها نضجًا في شعر جيل الستينيات، وهو الجيل الذي نعته «سليمان الشطي» بـ«الحصاد» وهو يمثل الطبقة الأولى - من حيث التقسيم الفني - الجيل الذي وضع فيه المؤلف: خالد سعود الزيد، محمد الفايز، عبدالله العتيبي، خليفة الوقيان.

          اعتمد «سليمان الشطي» على منظورين: تزامني diachronic وتعاقبي (تاريخي) synchronic في مواجهة هذه النصوص. ومن هذين المنظورين نسج بُرْدة النص النقدي أو لُحمة المتن والسَّدَى.

          والقراءة عند «سليمان الشطي» مثلما هي عند كل قارئ جاد، تعني «الفقه بالنصوص». لكننا سنواجه هنا بسؤال: كيف فَقِهَ النّاقد هذه النصوص؟ بعبارة أخرى ما المنهج النقدي الذي ارتضى سليمان للمعالجة النقدية - وقبل أن أجيب عن هذا السؤال أشير إلى مفهوم الجيل، فالتأسيس المعرفي لمفهوم الجيل يسهم في تفسير علة إبداع هؤلاء الشعراء والشواعر لاستكشاف ما بينهم من تنوع خلاّق، وهو ما يؤكد جدوى تضافر الحقول المعرفية والإبداع.

مفهوم الجيل

          من هنا، تبدو أهمية التأسيس المعرفي لمفهوم الجيل بمرتكزها في سوسيولوجيا المعرفة والثقافة، فهي الأساس العلمي الذي تنهض عليه تجليات هذا المفهوم في تقويم المبدعين الشعراء من خلال ما يجمع بين أبناء الجيل. فمن خلال هذا التنوع الخلاّق نكتشف الخصوصية المائزة لكل شاعر والقواسم الجامعة بينه وبين غيره.

          ومفهوم الجيل، هو اصطلاح يطلق على مجموعة الأشخاص الذين يشتركون - على تفاوت بينهم - في مرحلة عمرية متقاربة. ويدرك كل جيل أحداث التاريخ من منظور مختلف، وذلك بسبب مجموعة التجارب المختلفة التي مارسها. فإن الشاب والعجوز يرى كلاً من الحاضر والماضي على نحو مختلف، وداخل إطار الجيل الواحد الذي يمارس بعض أبنائه تجاربهم على الواقع بطريقة متشابهة، وذلك بحكم احتلالهم أوضاعاً اجتماعية متماثلة أو تكاد، هؤلاء يمكن أن يشكّلوا ما سمّاهم مانهايم (1893 - 1947) «وحدات أجيال» وهؤلاء يتعرضون لأحداث وخبرات واحدة، وهذا التشابه بين أبناء الجيل الواحد لا يلغي إمكانية وجود اختلافات داخلية في الجيل نفسه، فوجود ظروف مشتركة لا ينفي بالضرورة أن تكون ردود الأفعال متطابقة (فتحي أبو العينين، الهلال، يناير 1998). وإنجازات كل جيل مرتبطة بما يقدمه له عصره من معرفة ومن وسائط، تتحكم في اجتهادات أبنائه وقدراتهم الإبداعية.

          أعود إلى التعرف على طبيعة منهج سليمان «النقدي» الذي ارتضى لمواجهة النصوص.

          إن مساءلة متون النصوص النقدية في كتاب «الشعر في الكويت» وفي دراساته النقدية السابقة تؤكد أن «سليمان الشطي» من فئة من النقاد ترى أن غاية النقد الأدبي هي تفسير العمل الأدبي تفسيرًا موضوعيًا يساعد القارئ على أن يحكم بنفسه ويتذوَّق بنفسه. ومثل هذا التفسير ينطوي بالضرورة على تقويم للعمل الأدبي، على حكم ضمني بمدى جودته، ولكنه يختلف عن التقويم بمعناه القديم من حيث إننا هنا نبحث عن قانون للعمل الأدبي ولا نفرض عليه قانونًا.

          إن وظيفة النقد التي ارتضاها «سليمان الشطي» هي الطريقة التي تعتمد المنهج الواصف القائم على «التفسير»، وهو منهج ، أخصب وأدق بكثير من الدراسة القائمة على التقويم المباشر الذي يعتمد محاكمة العمل الأدبي إلى نموذج معينٍ. فهو يعي أن دوره أن يكتب ليساعد القارئ على فهم عمل فني فهمًا صحيحًا، وتذوقه تذوقًا بصيرًا. ويلمس القارئ لنصوص مقارباته النقدية، أنه يبذل جهده للإحاطة بالعمل الأدبي في كثير من نواحيه، متلمسًا طريقه إلى صميم ذلك العمل، في جوهره ولبابه.

          ولن أخوض في الحديث عن منهج الشطي هذا في تفسيره لمجمل إبداعات الشعراء الكويتيين في كتابه «الشعر في الكويت»، ولكني أشير إلى أمثلة دالة على تمثله لفكرة الأجيال من خلال تفسيره لشعر هؤلاء الشعراء، ورؤيتهم للعالم، وللمثل الأعلى للشعر. وهو يؤكد حضوره ناقداً مفسرًا للنص الشعري. إنه لا يقفز على تخوم النص ليصل إلى حكم تقويمي، وإنما يأخذ بيد القارئ، يجوس خلال فضاء النص وتضاريسه ويضع إصبعه على مفاتيحه قبل أن يراود النص عن نفسه (انظر، على سبيل المثال تحليله لقصائد ديوان «خالد سعود الزيد» 1937 - 2001)، الأول: «صلوات في معبد مهجور»، حيث يرى أن هذا الديوان سيما قصيدة «تبارك الله»، خطوة نحو انفتاح الشاعر على روحانية تجاوز فيها الشاعر عالم (الظاهر) ليغوص متأملاً في عالم (الباطن) بما يفضي بنا إلى عوالم قصيدته: «الحقيقة المطلقة»، التي تتصدر ديوانه الثاني «كلمات من الألواح»، حيث يحيا في رحاب الصوفية.

          القصيدة في هذه المرحلة هي: «ترجمان الأشواق» إلى الحقيقة المطلقة، مُصوِّرة مكابدة مواجد العارفين، ووصفًا لطريق المُرِيد إلى مقام التوحيد.

          والقارئ يستشعر عبق الوجود في رحلة «خالد سعود الزيد» على الألواح إلى مدارج الحقيقة، حيث يغوص في (الباطن).. في عوالم النفس وما ألهمت من فجور وتقوى. هنا تتضافر التجربة الشعرية والتجربة الصوفية، وليس هناك من عجب، فهما ينبعان من معين واحد: النفس والشعور.

          تتسامى نفس الشاعر على قشور (الظاهر) بخشونته البادية لتغوص في لباب (الباطن) حيث تهفو الروح إلى الحقيقة المحمدية في تمام مثالها في «الإنسان الكامل» محمد . إن القصيدة عند «خالد سعود الزيد» هي «قوت القلوب» للمحبين ممن صفَت قلوبهم.

          هذه التجربة الشعرية تتقاطع وتجربة شاعر مجايل لخالد سعود الزيد، الشاعر «محمد الفايز» (1938 - 1991). وقد أطال «سليمان الشطي» الْمُكْث أمام التجربة الشعرية لـ «محمد الفايز» وأمام مطولة «مذكرات بحّار»، حيث يصور لنا عالم الغوص على اللؤلؤ، وهو يصحب القارئ جَوّابًا للبحار، وغوّاصًا باحثًا عن اللآلئ.

          نحن هنا أمام تجربة شعرية، فضاؤها.. (الظاهر) /(الخارج) بديلاً عن (الباطن) / (الداخل): عالم «خالد سعود الزيد». على أنَّ النهاية.. نهاية تجربة البحّار و(ظاهر) الحياة تفضي به إلى «انكسار الروح»، فكأن الإنسان في عالم الظاهر: «مسافر بلا متاع» فالبحّار يعود من الغوص وهو حطام إنسان، إنه لا يعود مثل سلفه السندباد محمّلاً بالكنوز.. كنوز الحقيقة ونفائس العرفان.. هكذا نحن أمام عالمين: «انكسار الروح» و «عودة الروح».

          النموذج الثالث من شعراء جيل الستينيات يعرض «سليمان الشطي» محللاً ومفسّرًا عطاء «خليفة الوقيان» (1941) في مجال الإبداع، ونحن هنا أمام شاعر مخلص لفنه، شاعر يعرف أن الشعر تشكيل فني يصوغ تأملاته في الكون والحياة في صور شعرية.

          ويقدم «سليمان الشطي» المشهد الإبداعي لشعر المرأة شارحًا للسمات المائزة لدى المبدعات الشواعر اللائي وقف أمام نتاجهن محللاً ومفسِّرًا كاشفًا عن رؤيتهن للعالم، فيقدم للقارئ إضاءة لشعر «سعاد الصباح» حيث تداخلت وتمازجت قضيتان مترابطتان، هما قضية المرأة، وتحرر الوطن العربي.

          في شعر «سعاد الصباح» يتداخل ذلك الصراع بين الرجل والمرأة، ولكن الجامع بينهما حب كبير، ومن حركة هذا الصراع وتأثير هذا الحب تحاول الشاعرة أن تدخل بين هذه الخطوط المتقاطعة.

          والسمة الأسلوبية لكلمتها الشعرية قريبة من النفس، قادرة على الوصول إلى المخاطب، ولغتها تنم عن محتوى خطاب امرأة تنتمي إلى حقبة جديدة أو جيل جديد، حقبة انتقلت من مرحلة الصمت إلى تدفق البوح الأنثوي الذي يستخدم مفردات خاصة ويستحضر معاني مألوفة.

          ويقف عند رؤية «نجمة إدريس» (1952) للعالم وهي تنسج صورها الشعرية من خلال العكوف على شرنقة الذات ، وهاجس التأمُّل العقلي في طبيعة العلاقة بين ذات المبدع / المبدعة والـ«نحن» أو العالم، مؤكِّدًا على رهافة إحساس الأنثى في استجاباتها للعالم.

          إن الفصل الذي أفرده الشطي لشعر المبدعات الشواعر يتميّز بسمتين:

          أولاهما: أنه يضع أمام الدارس مادة علمية يمكن أن يتوفر من خلالها على درس السمات الفنية والأسلوبية في ضوء مفهوم الجيل ، وبمرجعية ترتكز على سوسيولوجيا الثقافة من جانب، وسوسيولوجيا المعرفة من جانب آخر.

          أمّا السمة الثانية فهي باحتفائها بالنشاط الإبداعي للمرأة، تقدّم مادة خصبة للدارس الْـمَعْنيّ بالنقد، والذي يعنى على وجه التحديد بنتاج النساء وبالتجربة الأنثوية أو «الذاتية الأنثوية» في التفكير والشعور والتقييم وإدراك الذات ورؤية العالم ، فما اصطلح على تسميته بالنقد «الجينثوي» (Gynocriticism) (ميجان الرويلي، سعد البازعي، دليل الناقد الأدبي، الطبعة الثالثة 2002، المركز الثقافي العربي - بيروت - الرباط، ص 331).

          لقد أثرى هذا العمل جهود «سليمان الشطي» في مواكبة الأنواع الأدبية (الشعر، القصة) ونحن في انتظار دراسته عن المسرح سيّما أنه واكب الحركة المسرحية في الكويت، إِبّان نهضة مسرحها في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، فكان عضوًا نشطًا في اللجنة الثقافية، وفي مجلس إدارة مسرح الخليج العربي الذي ضم نخبة من فناني الكويت وفي مقدمتهم المرحوم صقر الرشود وعبدالعزيز السريع ومنصور المنصور وغيرهم. وقد ظهر عطاء هذه المرحلة من حياته الأدبية والثقافية في الصحف والمجلات الثقافية مثل الطليعة، الهدف، أضواء المدينة، الرائد، والبيان.

          ويبقى هذا الجهد العلمي الرائد خارطة طريق تهدي السالكين على درب البحث الأدبي والنقدي لأجيال من الشعراء في الكويت بمختلف أطيافهم.

 

سليمان الشطي