الثقافة الشعبية العربية

الثقافة الشعبية العربية
        

          على مدى العقود الخمسة الماضية شهد العالم العربي ظاهرتين جليتين، لا تخلوان من التناقض؛ فبينما أخفقت الحكومات العربية في «توحيد» المنطقة سياسيا، فإن الثقافة الشعبية العربية، من جهة أخرى، نجحت في توطيد الشعور بـ«الهوية العربية المشتركة».

          هذه الفرضية تعبر عن المضمون الرئيسي لكتاب «الثقافة الشعبية في العالم العربي..الفنون، السياسة، والإعلام» الصادر بالإنجليزية عن دار نشر الجامعة الأمريكية بالقاهرة، من تأليف الصحفي الإنجليزي «أندرو هاموند»، المتخصص في شئون الشرق الأوسط، الذي عاش متنقلا في ربوع المنطقة على مدى عقد كامل، ويشغل الآن منصب كبير مراسلي وكالة رويترز في السعودية.

          يتتبع هاموند في كتابه هذا كل تفاصيل الثقافة الشعبية في المنطقة العربية، من المسلسلات الدرامية، إلى القنوات الفضائية، ومن الأغاني الشبابية الجديدة، إلى ظواهر السينما والمسرح والرقص والغناء الشعبي، ومن اللغة العربية ولهجاتها في المنطقة، إلى الثقافة الدينية والمعتقدات، ومن الصحف والمطبوعات إلى ظواهر السلوكيات الاستهلاكية التي تتسم بها المجتمعات العربية الآن.

          وبالرغم من الكم الهائل من المعلومات التي يرصدها الكتاب، فإنه يبدو، للوهلة الأولى، عملا تتجمع فيه المعلومات وتتجاور، لاهثة، من أقصى الشرق إلى أطراف غرب المنطقة العربية، بلا تحليل أو استنتاج للنتائج ودلالاتها. لكن، بمزيد من القراءة يتبين أن المؤلف يعتمد- في إبراز وجهة نظره التحليلية - على أسلوبه الخاص في عرض المعلومات وتضفيرها معا، بالشكل الذي يذكرنا بأسلوب الكاتب الروائي صنع الله إبراهيم، في بعض أعماله الأدبية؛ خصوصا رواية «ذات»؛ إذ لعب فيها التوثيق؛ بالاقتطاف من عناوين الصحف وترتيبها، دورا أساسيا في «إضاءة» عدد من الدلالات كشفت للقارئ السياقين السياسي والاجتماعي، وكيف شكلا معا المناخ العام الذي يؤثر أو يضغط على مصائر الأفراد وتصرفاتهم في حياتهم اليومية.

          فالكاتب لا يتناول أي ظاهرة بشكل فردي في مجتمع أو دولة عربية بمفردها، بل يلقي الضوء في الوقت نفسه على مثائلها في الدول العربية الأخرى. على سبيل المثال، إذا تتبع إحدى الظواهر الإعلامية فقد يبدأ من صحف القاهرة ويقارن بينها وبين نظائرها اللبنانية ثم يقارنهما بصحف السعودية والإمارات، أو يبدأ الحديث عن المسرح في الشام ومصر، ومنه إلى صورة المسرح في المغرب العربي، والكويت، وهكذا.

          ولأن الكتاب مقدم، في الأساس، لقارئ غربي ليس مطلعا على تفاصيل الثقافة العربية، فإن «هاموند» يهتم بتقديم الجذور السياسية للمنطقة منذ مطلع القرن الماضي، محاولاً أن يرسم الملامح العامة التي شكلت الهوية العربية في المنطقة قبل الاستعمار، وبعد استقلال الدول العربية، مع توضيح الاختلافات الطائفية أو العرقية أو الثقافية الموجودة في كل من الدول العربية، وكيف نجحت الهوية العربية في تغليف هذه الاختلافات بنوع من الانسجام حتى تأجج كثير منها في السنوات الأخيرة.

الثروة والفقر

          يدخل المؤلف إلى هذا كله انطلاقا من ملاحظة وسؤال. أما الملاحظة فهي أن العالم العربي، على الرغم من الثروات الطائلة التي تحققت له بفضل الثروة النفطية، مازالت أغلبيته تعيش حالاً من الفقر بالغة السوء، وتتجاوز حدود الأمية فيه النسب المقبولة. ورغم ذلك، فقد انتقلت المجتمعات العربية من مظاهر الحياة البدائية لتسلك سلوك المدنية الحديثة في زمن قياسي لم يتجاوز عدة عقود، مقارنة بأوربا التي استغرق منها الأمر زمنا طويلا، ومعاناة، حتى تنتقل من حال العصور الوسطى إلى عصر المدنية.

          أما السؤال فهو: متى، لماذا، وما  الوسائل التي تتكئ عليها هذه الثقافة لتكون «عربية»؟ وقبل أن يشرع في الإجابة يقول: «بمقاربة مساحة المنطقة، وتعقيداتها، يتساءل المرء إذا ما كان بالإمكان الكتابة عن شيء يدعى الثقافة العربية المعاصرة».

          لكنه يفعل، في الحقيقة، ويقدم، عبر فصول الكتاب التسعة، إجابة وافية، وإن لم تكن شافية، مقدمًا الملامح العامة التي تشكل مظاهر الثقافة الشعبية العربية الآن وهنا، في المنطقة العربية كلها، من نانسي عجرم إلى شعبان عبد الرحيم، ومن قناة الجزيرة إلى المنار، ومن الصحف المستقلة المصرية إلى صحف الالتزام السياسي في بعض الدول التي تتشدد فيها الرقابة على الإعلام، ومن قنوات الفضائيات الخليجية المختصة بالموسيقى والغناء إلى موجة السينما الجديدة مرورا بموسيقى الراي في الجزائر.

          كما يتأمل كيفية تشكل هذه الملامح الخاصة على مدى الأعوام الخمسين الماضية، وعلاقة التغيرات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، بتشكيل الظواهر التي تتشكل الآن.

          يتتبع نشأة الهوية العربية، عبر اللغة، بصفتها لغة القرآن الكريم، ووصولها لدول لم تكن تنطق بها بسبب الفتوحات الإسلامية، ثم تحول العروبة إلى فكرة قومية لها دور أساسي في مقاومة الاستعمار، عطفا على تأسيس جامعة الدول العربية، وبدء حركات التحرر الوطني والاستقلال في جميع الدول العربية. لكنه، في التحليل الأخير، يرى أن «العروبة» على المستوى الأيديولوجي قد فشلت في نهاية الأمر، بسبب كثير من الظروف، لعل أبرزها ظهور الحركات الدينية المتشددة، التي تريد استبدال الفكرة العربية القومية بالمفهوم الديني، في حين أن مفهوم العروبة كقومية يحتوي كل الطوائف المختلفة من المسلمين والمسيحيين العرب.

لغة واحدة واحساس واحد

          في المقابل، على المستوى الشعبي، يبدو الأمر مختلفا، كما يرى هاموند، مستشهدا بأغنية «عربي أنا» للفنان اللبناني يوري مرقدي. فقد مثلت الأغنية صيحة في عالم الغناء العربي عام 2001، رددها شباب العرب من المحيط إلى الخليج. كما يشير إلى برنامج «من سيربح المليون؟» الذي يقدمه جورج قرداحي بوصفه برنامجا يجمع متسابقين من أرجاء العالم العربي، يتفاهمون جميعا بلغة واحدة وبإحساس عربي مشترك، وكذلك إلى ظهور النجوم العرب في القنوات الفضائية يتكلم كل منهم بلهجته المحلية بينما يعتبر الجميع في النهاية عربا يتحدثون لغة مشتركة. كما يشير إلى ظهور قناة الجزيرة؛ كقناة إخبارية عربية اقتحمت المسكوت عنه والمحظور في الإعلام العربي؛ فحركت بحيرة كانت ساكنة لعقود عدة، وهذا ما جعل منها مشتركا آخر يلتف حوله الجمهور العربي شرقا وغربا للتعاطي مع المادة الإخبارية التي تقدمها.

          هذه وغيرها من مظاهر الثقافة الشعبية المعاصرة مثلت، وفقا لرؤية هاموند، مؤشرات لكيفية تحقيق الثقافة العربية الشعبية ما عجزت عن تحقيقه السياسة العربية.

          لكن، ما هو الاتجاه الذي تجمعت حوله مظاهر الثقافة الشعبية العربية؟ هل يمتد لخصوصية عربية شرقية، أم أنه يبحث عن أفق مختلف؟

          لا توجد إجابة قاطعة عن هذا السؤال، لكنها مطروحة في الاستعراض الواسع الذي يطرحه هاموند لكشف ظواهر الثقافة الشعبية العربية الراهنة.

          المدن العربية أصبحت أشبه بالمدن الأمريكية، والعمارة تميل للنماذج الغربية الشاهقة. الأغنية العربية فقدت إمكاناتها الطربية؛ التي أسسها رواد الغناء والموسيقى العربية، وانطلقت إلى مسار مختلف، يمزج جزءا من الأصالة، بنسيج واسع من الأسلوب الغربي. النجمات العربيات يتنافسن في إبراز جمالهن بالمقاييس الغربية، والنجمات كبيرات السن يجرين عمليات تجميل ليبدون أصغر عمرا (يذكر المؤلف أن عام 2003 شهد العالم العربي قفزة في عدد عمليات التجميل التي أجريت من 380 ألف عملية سنويا إلى 650 ألفا، وفي مصر وحدها قفز العدد من 55ألفا إلى 120 ألف عملية.  وفقا لموقع «البوابة» الإلكتروني يورد الكاتب تبريرا يفسر الظاهرة في مصر بأنها تعود إلى إحباط السيدات المصريات من مقارنة أزواجهن المستمرة لهن بنماذج السيدات اللبنانيات اللائي يتسمن بالرشاقة ومقاييس الجمال الغربية).

          وحتى الموسيقى الشعبية التي مثل نموذجها الصارخ الفنان الشعبي أحمد عدوية في السبعينيات وعكست تغيرا في الذوق الفني العربي نتيجة متغيرات سياسية واجتماعية عديدة أهمها مشاعر الإحباط التي سادت بعد هزيمة 67، هذه الموسيقى الآن تبتغي الوصول للعالمية، عبر الغناء المشترك مع مطربين عالميين مثلما فعل المطرب الشعبي حكيم. أو عبر تحول الموسيقى الشعبية في الجزائر إلى صرعة موسيقية في الغرب لها نجومها من نجوم الراي، التي بدأ الريادة فيها الشاب خالد. وكذلك هي حال السينما، والمسرح، مع اختلاف كبير هو فقدان كلا النوعين الفنيين ثقلهما الموضوعي والفكري كما كان شأنهما في القرن الماضي.

          هذا النزوع نحو التغريب يصل أحيانا إلى حد المفارقة، كما يرى المؤلف مستدلاً على ذلك بفكرة وزير الثقافة المصري فاروق حسني لبناء فندق خمس نجوم في حي الحسين العريق بين آثار تعود لمئات السنوات، من قبيل الاستفادة من المنطقة سياحيا!!

          ونماذج التحديث أيضا تتجلى في إعادة بناء الأحياء القديمة في مكة، خاصة في منطقة الحرم، لمقابلة التوسعات المطلوبة لاستقبال الحجيج.

          على العكس من هذا تضرب دمشق مثلا نموذجيا في الحفاظ على آثارها العتيقة، بشكل صارم وتمنع أي محاولات للترميم قد تمس الأثر. 

الحداثة والتحديث

          التناقضات تلعب دورا أساسيا في العالم العربي كما يرى المؤلف، بالخلط بين الحداثة والتحديث، فهناك حالة من المدنية التي تجعل المدن تشبه المدن الغربية، وقنوات تلفزيونية تمتلئ ببرامج ومواد متأثرة بنماذج غربية شبيهة، ومقاه ومطاعم أمريكية تنتشر في كل مكان، وبرامج وموسيقى عصرية، وإقبال على استخدام الإنترنت، لكن هناك في الوقت نفسه رقابة على استخدام الإنترنت في عدد من الدول العربية، وكذلك على الصحافة. كما أن المظهر الغربي للفتيات اللبنانيات والتونسيات والمصريات وغيرهن يقابله مظهر المرأة المحجبة في مصر وفي الخليج إلا أن هذا الزي نفسه يشهد تناقضات من قبيل أن وضع الفتيات الحجاب على رءوسهن، لا يمنعهن من ارتداء البنطلونات الضيقة العصرية مثلا، أو شيوع صرعات حديثة للحجاب نفسه.

          هذا التناقض الصارخ له مظهر آخر يمثله الكاتب بمشهد فندق «كونراد» الفاخر المطل على نيل القاهرة، بينما يترامى بالقرب منه حي بولاق الدكرور الشعبي الفقير. وبين الفقر المدقع والثراء الفاحش تتشكل كثير من المفارقات المشابهة في أغلب الدول العربية. وهنا يرصد الكاتب أيضا السلوك الاستهلاكي العربي الذي يتفوق على استهلاك أي فرد في الغرب.

          وهذا هو لب الأزمة التي يقدمها الكتاب، وهي أن المجتمعات العربية لم تدرك بعد معنى التحديث، وهي، في أحد معانيها إنتاج للحداثة، وليس مجرد استهلاك منجزاتها. ويدلل على ذلك بالجدل الواسع بشأن مفهوم العولمة، والتنافر الشديد في فهم المصطلح ما بين الغزو الثقافي، إلى طمس الهوية، والحضارة العربية إلى آخر المعاني التي تحترف عملية النقد انطلاقا من أن العالم كله يتآمر، دون أن تطرح بدائل تتفاعل مع فكرة التحديث.

          الكتاب يفيض بنماذج عديدة من مظاهر تناقضات تبدو الثقافة الشعبية نموذجا معبرا عنها بجلاء، إلا أنه رغم ما يفيض به من معلومات تنقصه بعض الإشارات المهمة سواء في تتبعه لمراحل انتقال الموسيقى الطربية من مرحلة أم كلثوم (بكل ما يتضمنه ذلك من قيم وظواهر اجتماعية ومناخ عام) وصولا للأغنية الشبابية في شكلها المعاصر، متناسيا جيل الوسط ونموذجه محمد منير وعلي الحجار في مصر مثلا. أو نقص النماذج التي قدمها عن دول لها تجارب في تأصيل عمارتها مثل سلطنة عمان، بالرغم من أنه توقف عند بعض محاولات المحافظة على التراث، من خلال المهرجانات الشعبية في دول الخليج، والسودان، أو تجارب جمع التراث الشعبي في مصر، أو تجربة حسن الجريتلي لتوثيق السيرة فنيا في قوالب معاصرة. بالإضافة إلى إشارة سريعة في معرض تناوله للقضية الفلسطينية من تخوف بعض الدول المجاورة من توطين اللاجئين الفلسطينيين بها بالقول إنها المناطق التي جاءوا منها! وبعض الهنات مثل إحالة أغنية «شمس الشموسة» التي غنتها المطربة اللبنانية الشابة دانا إلى محمد عبدالوهاب، بدلا من سيد درويش.

          وصحيح أن الكتاب مقدم للقارئ الغربي، وبالتالي فأغلب ما فيه يبدو مألوفًا لأي قارئ عربي، لكن الطريقة البانورامية التي قدمت بها مادة الكتاب من شأنها أن تجعل القارئ العربي ينتبه للكثير من المتناقضات التي باتت عادية من شدة التآلف معها، بينما إدراكها يكشف أزمة التحديث العميقة التي تعاني منها مجتمعاتنا العربية في محاولة للإجابة عن أسئلة ماضوية عن الهوية قتلت بحثًا، بينما لم يعد من قبيل الترف إطلاقا أن يشرع المجتمع العربي في البحث عن أسئلة المستقبل.

-----------------------------------

أحلمُ أنَّ الليلَ ورائي
والصبحَ أمامي
وسحابةُ أحلامي
تزرعُ أيامي
.. وإخالُ الحلمَ حقيقهْ
فأسربلُ ذاتي بحديقه
فإذا بي صرتُ ضحيه
في تيهِ الأبديه

أحمد العدواني

 

أندرو هاموند