أرقام

أرقام

خيبة التوقعات!

هل أصابت اللعنة الشرق الأوسط فبات طارداً للاستثمار, جاذبا لعوامل القلق والركود والضياع؟

تسجل أرقام التقرير الاقتصادي العربي الموحد (98) والذي تصدره الجامعة العربية وجهات أخرى حالة التدفقات المالية طويلة الأجل للمنطقة التي حددها تعريف البنك الدولي بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا, وهي تضم إيران والدول العربية فيما عدا ما دخل في إفريقيا جنوب الصحراء وهي السودان وموريتانيا وجيبوتي وفيما عدا بلدانا ثلاثة لم تتوافر بياناتها. الصورة غير سارة, فنصيب الشرق الأوسط من هذه التدفقات نصيب متدن طوال التسعينيات تقريبا. في عام مزدهر نسبيا وهو عام (97) كان نصيب دول المنطقة (5,71) مليار دولار وهو ما يعادل (5,8%) فقط مما تدفق على الدول النامية ومقداره (300) مليار دولار في ذلك العام.

النصيب متدن, والأرقام تشير إلى تراجعه عاما بعد عام. في عام (1986), كان نصيب الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (61,6%) من التدفقات طويلة الأجل التي يوجهها العالم للدول النامية.. ولكن, وبعد عشر سنوات تراجع الرقم إلى (2,6%) فقط, وعندما تحسن في العام التالي لم يتجاوز (5,8%) من هذه الاستثمارات أي نحو ثلث ما كان عليه الحال قبل عشر سنوات!

.. وخريطة مختلفة

تعكس الأرقام خيبة التوقعات, فمع مناخ عالمي تتدافع فيه رءوس الأموال بحثا عن فرص استثمار عبر الحدود, ومع جهود حثيثة من جانب حكومات الشرق الأوسط لزيادة الاستثمارات, ومع انكماش في أسواق آسيا.. كان المتوقع أن يزيد التدفق الأجنبي للمنطقة وأن تلعب البورصات وتلعب الخصخصة دورا في دوران عجلة الالتحام بين أسواق الشرق الأوسط والأسواق العالمية.. لكن ما حدث كان هو العكس.. التقدم في بعض المجالات ـ مثل السياحةـ محدود, والتراجع يسجل معدلات أعلى.

في نفس الوقت تعكس الأرقام أننا أمام خريطة مختلفة للتدفقات, خريطة تتراجع فيها أدوار الحكومات والمعونات.. ويتقدم فيها دور القطاع الخاص.

بين عامي (91) و(97) تبادل (الرسمي والخاص) الأدوار.كان نصيب التمويل الرسمي من منح وقروض 80,5% من التمويل عام (91) فانخفض إلى (20%) فقط عام (97).. و.. انعكس الوضع بالنسبة للقطاع الخاص بنفس النسب المئوية.وفي عام (91) كانت المنح الحكومية الموجهة لدول المنطقة تمثل وحدها (58,4%) من جملة التدفقات طويلة الأجل الموجهة للمنطقة, وبذلك كانت هي أكبر مصدر على الإطلاق تليها القروض الحكومية والتي مثلت (22,1%).. ولكن وفي عام (97) بات المصدر الأول قروض القطاع الخاص (56,6%) تليها المنح التي تراجعت إلى (16%).و.. بينما كانت الاستثمارات هي الأمل الصاعد فإن نصيبها في أول حقبة التسعينيات وفي عام (97) ظل كما هو في حدود (15%).. بل تراجعت قليلاً, مع ظهور نسبة لا بأس بها من الاستثمار في البورصات حيث سجلت لأول مرة ـ في ذلك العام (97), (8,6%) من جملة التدفقات.

خابت التوقعات إذن, والتفسير ليس صعبا.

من الخارج إلى الداخل

في التفسير يمكن القول إن هناك عوامل دولية وأخرى إقليمية.. فقد كانت التسعينيات هي حقبة التحولات في العالم كله.. فبينما اتجهت السياسات لفتح الحدود وإطلاق حركة رأس المال وانتقال السلع.. كانت هناك إعادة نظر في دور الدولة, وكان هناك انكماش في دور التمويل الرسمي الذي تقدمه الحكومات.

لم تعد المنح والقروض أداة تنافس بين الشرق والغرب, ولم تعد كما كانت في السبعينيات وسيلة السيطرة على سياسات الدول النامية.ولذلك فسحت الدول المانحة في المجال لرأس المال الخاص لكي يلعب دوره سواء كان ذلك عبر الاستثمار المباشر أو عبر لعبة الإقراض وكأنه بديل للحكومات مع شروط أصعب تبتعد عنها السياسة, وتتقدم الشروط التجارية باهظة التكاليف.

كان الظرف الدولي إذن دافعا لتغيير خريطة التدفقات لكن فقر التدفقات كان متصلا بدرجة أكبر بالظروف الإقليمية وأبرزها عنصر عدم الاستقرار.

لقد عاش الشرق الأوسط ولمدة نصف قرن تقريبا في حالة توتر بسبب الصراع العربي ـ الصهيوني لكن ذلك التوتر كان يمس دول الجوار الفلسطيني أكثر مما يمس مناطق الثروة في الخليج ودول البترول العربية بشكل عام.

ولكن, ومنذ الثمانينيات انتقل التوتر شرقاً وجنوباً, فكانت الثورة الإيرانية, ثم الحرب العراقية ـ الإيرانية, ثم غزو العراق للكويت.. و.. في الجنوب والوسط كانت الحروب الأهلية في السودان والصومال واليمن ولبنان.. إضافة لما يجري في الجزائر.

لكن زلزال التسعينيات كان هو الأشد من حيث إنه أصاب دول البترول والتي تنعكس حركة رءوس أموالها وفوائضها على كل المنطقة.

وقعت حرب الخليج الثانية فاضطرب الاستثمار شرقاً, واستمر الصراع العربي ـ الصهيوني فأحجم الاستثمار في دول الطوق, واشتعلت أحداث الجزائر فتأثر الاستثمار غربا, وكانت حرب السودان الأهلية وحرب اليمن الأهلية وحرب لبنان عناصر طاردة, كل في محيطه.

ووفقا لبعض التقارير الدولية فمازال الشرق الأوسط منطقة عالية المخاطر, ومن ثم تصبح النتائج التي بين أيدينا منطقية, وتصبح البداية في السياسة, وإن لم تبتعد قضايا الاقتصاد والادارة.

لقد سجلت التسعينيات محاولات لتطوير البيئة التشريعية واعطاء ضمانات للاستثمار الأجنبي في البلاد العربية, ومع ذلك بقيت البيروقراطية عائقا, وبقيت القيود على الاستثمار الأجنبي في البورصات العربية قائمة, حتى أن التقرير الاقتصادي العربي الموحد (98) لم يسجل أكثر من ثلاث بورصات عربية تعرف الانفتاح الكامل للتملك وهي بورصة بيروت وسوق المال في مصر وبورصة الدار البيضاء, بينما بقي الانفتاح جزئيا في البحرين والأردن وتونس وسلطنة عمان.. وبقيت القيود على الملكية قائمة في معظم بلدان الخليج.

العوامل وراء خيبة التوقعات في استثمار أجنبي أكثر اقتصادية وسياسية.. لكن السياسية هي الأولى, فكيف يأتي رأس المال واحتمالات تجدد الحرب قائمة, والانفتاح العربي ـ العربي يعاني من قصور في الشرايين, وهبوط في الدورة الدموية!

الاستثمار قضية خطيرة, والمستقبل معلق عليها فهل أدرك الساسة نتائج ما يفعلون؟

 

محمود المراغي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات