سفيرة النيات الحسنة

سفيرة النيات الحسنة
        

          كانت بدايةُ قصتي مع «العربي» بالمملكة المغربية، بمدينة فاس بالذات، وليس في دولة الكويت، كان التاريخ أواخر عام 1958م عندما انعقد بالمغرب المؤتمر الإقليمي الأول للجان الوطنية العربية التابعة لليونسكو.

          بهذه المناسبة ورد علينا الأستاذ الدكتور أحمد زكي بصفته رئيسًا للوفد المصري المشارك في المؤتمر الذي كان يضم حشدًا من رجالات مصر.

          كنتُ ضمن أعضاء الوفد المغربي الذي يرأسه الأستاذ محمد الفاسي، وزير التربية الوطنية آنذاك، وكنت وقتها رئيسًا للقسم الثقافي بالوزارة، فبهذه المناسبة وخلال أعمال اللجان التي تفرعت عن المؤتمر الذي اتخذ مقرًا لاجتماعاته ثانوية مولاي إدريس، وأثناء تجوالنا في معالم مدينة فاس - ولاسيما جامع القرويين - التي استوقفت د.أحمد زكي كثيرًا، حيث وقف يستحضر ماضي الوجود العربي بهذه الديار المغربية، وقف يستنطق هذه الأساطين وما تتميز به من حمولات، وقف طويلاً أمام المخطوطات المعروضة بمكتبة القرويين.

          هناك بفاس وفي أحد المجالس الخاصة، قدم إلينا د.زكي مشروعه عن مجلة «العربي» التي تعتزم الكويت إصدارها،كنا نستمع إليه في إمعان.

          وهناك أعرب عن الرغبة في أن يجد له بالمغرب مراسلاً بالمجلة، وهناك، ودون مشورتي، اقترح السيد الوزير محمد الفاسي اسمي، الأمر الذي جعلني أشكر الأستاذ على حسن ظنه.

          ثم كانت أحاديث على انفراد مع الدكتور زكي.

          وعلى إثر عودة الدكتور إلى الكويت سعدت بخطابه الأول المؤرخ يوم 18 أغسطس 1958م، أي قبل نحو من خمسين عامًا!!

          وقد تخلص الأستاذ زكي إلى القول في رسالته التي اعتز بالاحتفاظ بها ضمن وثائقي الشخصية:

          «أما عن مراسلة مجلة «العربي» - يقول د. زكي - فأرجو أن تقبل أن تكون مراسلها «فأنتم لما فيكم من صفات شخصية ممتازة ومن علو ثقافة ومن شباب وقاد فضلا عن المركز الذي تشغلونه، ولما توطد بيننا من أسباب الصفاء، لكل ذلك أنتم جديرون بأن تقوموا - عن إخلاص - بنفع هذه المجلة العربية الخالصة التي لا أرجو منها كسبًا أكثر من كسب يكسبه قراؤها..».

          كلام جميل تأثرت به وكان وراء تشجيعي على أخذ الطريق مع مجلة «العربي»، ومع زميل كبير كالدكتور زكي يحمل إليّ البشرى بمستقبل لم أكن أعرف عنه شيئًا.

          ومن الطريف أن يكون أول موضوع يقترح علي الدكتور الكتابة عنه هو «جامع القرويين» بمدينة فاس، هذا المسجد الذي شعرت - كما أشرت سابقًا - بأنه أخذ بلب الدكتور الذي كان، كسائر الباحثين، يؤمن بأنه المؤسسة الوحيدة التي يرجع إليها الفضل في حفاظ المغرب على هويته المتمثلة في اللغة العربية والعقيدة الإسلامية، وبأنه الضمانة الوحيدة لبقاء المغرب محافظًا على ثوابته.

          وأذكر أن الأستاذ زكي طلب إليّ الحصول على الصور الملونة للجامع المذكور لأنه كان يرغب في تقديم الموضوع أحسن تقديم، على ما كان يخطط له.

          والمهم أن أذكر أن الدكتور ختم رسالته المؤرخة يوم 18 أغسطس 1958م بهذه العبارة الكافية في تقديم «العربي» قال: «فمجلتنا نريدها عالمية لا تنشر إلا الممتاز».

          فعلاً استجبت لرغبة الدكتور ونُشر مقالي عن جامع القرويين بالعدد السادس من «العربي» في شوال 1378 هـ - مايو 1959م.

          وقد أسعدني الحظ بزيارة دولة الكويت ذاتها وعينها، وكانت الزيارة بمناسبة استضافة الكويت للمؤتمر الرابع للأدباء العرب.

          هذا المؤتمر الذي لا أنسى فضله عليّ في التعرف أكثر على جمع حافل من رجالات العالم العربي، بعد أن أخذت عنه فكرة في المؤتمر الإقليمي العربي الأول لليونسكو سالف الذكر.

          وصلنا الكويت يوم الخميس 18 ديسمبر 1958م حيث تجمع الواردون في نادي الموظفين قبل توزعهم على مراكز الضيافة.

          هناك في النادي كانت مفاجأتي الأولى هي الوقوف على العدد الأول من مجلة «العربي» التي كانت ضمن المنشورات التي توزع على الواردين لتحسيسهم بالأرض التي ينزلون بها.

          وبطبيعة الحال ونظرًا لما ربطني من صلات بهذه المجلة، فقد تصفحتها بشوق كبير، كان العدد يحمل تاريخ جمادى الأولى 1378هـ - ديسمبر 1958م.

          وقد عرف الناس جميعًا ماذا يعني اتخاذ الكويت منزلاً لمجلة «العربي».

          كلمات دالة وازنة خاطب بها المحرر أحمد زكي قراء المجلة: لماذا سميت المجلة «العربي»؟ وما المبادئ التي تستند إليها المجلة؟ والأهداف التي تتوخاها؟

          لقد نُقشت موضوعات هذا العدد في ذاكرتي بعد افتتاحية الدكتور أحمد زكي، كان في صدر العناوين «اعرف وطنك أيها العربي»، وأتذكر أن «العربي» طغت على سائر المنشورات التي صدرت عن دائرة المطبوعات التي كان يشرف عليها أستاذ لاتزال صورته أمامي وهو في عنفوان شبابه، كان هو الشيخ صباح الأحمد الصباح الذي نسعد اليوم بأن نذكره وهو على رأس هَرَم الدولة في البلاد، وفقه الله.

          وتعتبر هذه الدائرة من أهم الإدارات الاستراتيجية التي تُعنى بما يقدم للشعب الكويتي مما يغذي معلوماته ويوجهه نحو الطريق الصحيح.

          كان أول ما فكرت فيه وقد استقر بنا المقام في الضيافة رقم 3 أن أقوم بزيارة مدير مجلة «العربي» أستاذنا الدكتور أحمد زكي الذي كنت معه على «شبه موعد».

          زرته في بيته حوالي من يوم الجمعة 19 ديسمبر قبل أن نغرق نحن الأدباء «الأكلاء» في الفوائد والموائد!!

          كان في نيتي أن أعود للضيافة في الساعة الثامنة، لكن ساعتين لم تكونا كافيتين مع الدكتور الذي وجدته مع السيدة حرمه في فيلا ممتازة على مقربة من النادي.. سيدة فاضلة من جنسية إنجليزية، وكان الثالث في سمرنا حفيده رشاد.

          كنت أرى الجد يتلقف الكلمات التي تصدر عن حفيده الصغير، بتقدير كبير، وكان يعلق عليها مفسرًا أسرارها وحواياها!

          ذكرني بسؤال الخليفة المأمون لعمه عبدالله بن الحسن وقد أصبح جدًا: ماذا بقي من لذائذك يا أبا علي؟ فأجابه: اثنان: الحديث على الحفدة والأسباط، والثاني مطالعة الكتب.

          كنت أشعر بأن قلب الجد يهفو وهو ينظر إلى نسخته الثانية، كان هو سلوته، بعد العمل المتواصل في «العربي».

          وأذكر بتقدير كبير أن الدكتور بما عهد فيه من تواضع العلماء ومطايبة الحكماء ألح على أن يشيعني معتذرًا للزائر الجديد الذي وصل د.صلاح الدين المنجد .. وودعته على موعد قابل لمتابعة الكلام بشأن هذا «العربي» الذي كان يتملك سائر مشاعره.

          لقد كنت أعيش في الكويت ببصري وسمعي مع كل ما يجري من حوالي، وقد حضرت المهرجان الرياضي الذي أقيم بهذه المناسبة أصيل يوم الجمعة 26 ديسمبر 1958م، حيث حررت خطابًا إلى زوجتي الأستاذة الثريا بوطالب قلت فيه بالحرف:

          «وإذا كنت تريدين أن تتكهني عن مستقبل الكويت فيكفي أن تكوني من الذين حضروا المهرجان الرياضي الذي نظم هذا اليوم في ملعب (ثانوية الشويخ)... مهرجان حضره ثلاثة آلاف وثلاثمائة وأربعة تلاميذ 3304.. لو رأيت الفتيات اللاتي اعتدن أن يشاهدن أمهاتهن متلفعات في العبايا السوداء، لو رأيتهن «بالشورت» والقمصان ذات الأكمام القصيرة لآمنت بما ينتظر الفتاة الكويتية من تطور، إن شعار هذه الأمة دائمًا: إلى الأمام».

          وكان مما أثار انتباهي هنا ثلة من الطلاب المغاربة الذين وجدوا في الكويت ملاذهم منذ ذلك التاريخ... وهم يشهدون بأن طلبة الكويت أسعد طلبة على وجه الدنيا.

          ذكرت من هؤلاء الشريف الإدريسي الذي كان من طلبتي بجامعة فاس: القرويين، كما عرفت منهم السيد المؤمن من القصر الكبير، ومصطفى الصباغ من تطوان إلى آخرين غابت عني أسماؤهم.

          كما لفت نظري وجود عدد من التجّار هنا من أصل مغربي من شمال المغرب، من بلاد الريف، بحثوا عنا وفتحوا لنا بيوتهم، وكان من هؤلاء الريفيين من ذهب إلى إمارة دبي وأصبح قاضيًا هناك على مذهب الإمام مالك.

          وفي مؤتمر الأدباء  هذا طرح اقتراح بإنشاء «نادي ابن بطوطة للتعارف» فقد أدرك الأدباء أنهم بحاجة إلى ما يعزز أواصرهم، ولم يكن غير اسم ابن بطوطة رمزًا لهذا التواصل الذي يحلم به كل الناس!

          ولا أنسى أن أشير إلى الزيارة المهمة التي قمنا بها صباح الخميس 25 ديسمبر إلى دائرة المطبوعات التي سلف لي أن ذكرت مديرها- آنذاك - سمو الشيخ صباح الأحمد الصباح، حيث زرنا الدكتور أحمد زكي في مكتبه بالدائرة، كان مكتبه كعبة الزوار الواردين من مختلف الجهات، حيث أخذت لنا صورة تذكارية ظلت محل اعتزازي، وقد نشرت بمجلة العربي في عددها يناير 1984م.

          والمهم أن أذكر ونحن على إيقاع كئوس «القرْفة» التي كنا نتناولها في فصل الشتاء هذا، كنا نرجع للحديث عن «العربي» التي كان الأستاذ زكي يتعلق بها تعلق الأب بابنه الوحيد.

          وقد تلقيت منه رسالة بتاريخ 27 مايو 1959م، خصصها لمسألة التوزيع الذي كان يقلقه إلى درجة كبيرة حيث كان يتطلع إلى أن تقتحم «العربي» كلّ بيت.

          ولما كان الدكتور يؤمن بأن الحديث عن البلاد، أيّ بلاد، يبقى حديثًا باهتًا إن لم يتم الحديث عن تطور المرأة فيه، وعن مدى اهتمام الدولة بقضية تعليم المرأة، فقد طلب إليّ أن أعهد إلى «مَن» يقوم بهذه المهمة بالنسبة إلى المغرب، الأمر الذي لبيت طلبه فيه، وكان المقال الذي نشرته «العربي» في عددها الحادي عشر بتاريخ ربيع الأول  1379هـ = أكتوبر 1959 وكان يحمل توقيع السيدة الثريا أبو طالب المعلمة آنذاك بإحدى مدارس الرباط.

          ولم تنقطع هذه الصلات بين «العربي» وبيني، وقد أصبحت معروفًا بالمغرب على أنني وكيل «العربي» بالرغم من أنني كنت أعمل بالوزارة مشرفًا على الشئون الثقافية كما أشرت.

          وقد ظل الدكتور وفيًا في علاقته معي عندما غادرت المغرب سفيرًا لبلادي على أرض الرافدين، فكان يراسلني وأراسله، ومن هناك كان إهدائي إياه تحقيقي لـ «تاريخ المن بالإمامة على المستضعفين»، الذي ألفه المؤرخ الأندلسي ابن صاحب الصلاة الباجي (ت 594هـ = 1198م).

          ولقد ظلت «العربي» رفيقة دربي  وأنا أتنقل عبر البلاد، التي عملت فيها سفيرًا لبلادي سواء كانت بغداد أو طرابلس أو الإمارات  أو طهران. كانت صلة وصل بيني وبين العالم الذي أعيش فيه ومن حواليه، وكان من أبرز ما شدني إليها افتتاحياتها التي كانت تزوّدنا بالمهم من القول والصائب من الكلام، افتتاحيات كانت تدبجها أقلام مَن تداولوا بكفاءة واقتدار، المشعل من الدكتور زكي.

          وبعد هذا لا أدري ما إذا كان من حقنا ونحن نتطلع إلى استحضار الموضوعات التي تناولتها «العربي» منذ أول يوم، أن نقترح إصدار فهارس لما قدمته مجلة «العربي» للمواطن العربي؟

          نحن نذكر جيدًا أن العدد الأول من المجلة ألحّ على عنوان اعتبره مدير المجلة من الثوابت التي ما انفك يلزمها لتعريفنا بوطننا العربي، يخصص لذلك المقالات تلو المقالات والريبورتاجات تلو الريبورتاجات مصحوبة بالأرقام والصور والرسوم والخرائط.

          وكأحد الذين يهتمون بالعلم الجغرافي على مدى ثلاثة عقود عملت فيها في إطار المؤتمر العالمي لتنميط الأسماء الجغرافية التابع للأمم المتحدة في نيويورك، كأحد المهتمين بالاسم الجغرافي، كنت أطلع باهتمام على ما تطالعنا به مجلة «العربي» من معلومات حول المدن العربية.

          ومن هنا تكوّنت لدى قرّاء «العربي» مكتبة زاخرة حول الأدب الجغرافي العربي، تحتضن حشدًا من المعلومات المتعلقة بعدد من المواقع الجغرافية، تكوّنت مكتبة أصبحت بمنزلة «معجم البلدان».

          لقد أصبحت «العربي» الكويتية مرجعًا لنا بشأن ما يتصل ببلادنا، وأتحدى هنا كل مَن ينكر دور مجلة «العربي» في التعريف ببلاده والحديث عن تراثه من المحيط إلى الخليج، بل وفيما وراء الخليج!!

          كل البلاد هنا! رحلت «العربي» إلى كل مكان: إلى بلاد الهند، إلى هافانا في القارة الأمريكية، رحلت إلى تخوم القارة الإفريقية علاوة على البلاد العربية، كانت بصدق «معجمًا للبلدان».

          وهكذا قرأت فيها عن بلادي المغرب الأقصى، عن فاس، وجامع القرويين، وقرأنا عن سائر بلاد المغرب الكبير حيث وقفنا إلى جانب معالم الجزائر بما احتضنته من تاريخ متحرك، على تونس حيث نشأة ابن خلدون، وقرأنا عن ليبيا وما تحتضنه من آثار: متحف من غربها إلى شرقها، إلى بئر أبي الكنود في طرابلسها، وقرأنا عن مصر أمّ الدنيا كما نعتها المؤرخون، أرض التاريخ وأرض الفكر والعلم، ومدرسة الإسكندرية، وقرأنا عن البحرين التي تعاقبت عليها طائفة من الحضارات، قرأنا فيها عن «البتراء» التي نبّه إليها المستشرق الألماني بوركهارت والتي أصبحت اليوم من عجائب الدنيا السبع! وقرأنا عن بيروت الصامدة وما شاهدته من عواصف وعواطف..، قرأنا عن السودان، وما احتوت عليه من كنوز وأفنان، وقرأنا عن مباهج سورية ومفاتنها، وقرأنا عن المملكة العربية السعودية، وما حبا الله به هذا البلد الذي تُجبى إليه ثمرات كل شيء!

          وقرأنا عن اليمن وعماراته، التي تتحدى ناطحات السحاب! وقرأنا عن سد مأرب وحضرموت... وقرأنا عن إمارات الخليج التي ذكّرتنا بصناعة كانت تقوم عليها معيشة الأجداد: اللؤلؤ الذي أفاض ابن بطوطة في الحديث عنه، ولكن أيضًا الثقافة والتراث والانتفاضة الجيّاشة!! كردستان... بما عوّدتنا عليه من أسماء رجال نستحضرهم  عند الشدائد، ونحلم بعودتهم عندما نعيش كُروبنا اليوم، القدس، وما أدراك ما القدس الشريف! باسمها القديم أوريشلم الذي ردده الشاعر العربي الأعشى: 

          وطوّفتُ للمال آفاقه
           
                           عمان فحمص فأوريشلم

          أتيت النجاشي في داره
           
                           وأرض النبيط وأرض العجم

          كل هذه العوالم عشنا معها وبأسلوب رائع وشائق، إلى جانب الصورة والرسم والخارطة التي تحقق كلّ العناصر التي تشوّقك إلى تلك الديار، كانت «العربي» وظلت تجنّد الرجال وتنفق على الخدمات من أجل أن يقترن «معجم بلدانك» بكل ما يقرب لك الحقيقة.

          كل هذه الثروة تقدمها لك «العربي» من أرض الكويت التي كتب الله لها أن تكون أبدًا بلاد خير عميم وعلم نافع شامل، وحضارة معطاء وتطلّع إلى غد أفضل.

 

عبدالهادي التازي