.. وتبقى شابّة

  .. وتبقى شابّة
        

          أنظر إلى حفيدتي الصغيرة وهي تتصفّح مجلة «العربي»، فأتذكّرني يوم كنت صبية أحتضن العدد الأول من المجلة الأم، وأقرؤها من الغلاف إلى الغلاف. هل حقًا كبرتُ خمسين سنة منذ أن شهدتُ ولادتها حتى اليوم ونحن نحتفل بمرور نصف قرن على إنشائها؟

          خمسون سنة! رحل خلالها أحباء، تفتّتت صداقات، وأغلقت مجلات كثيرة أبوابها، وبعضها انقطعت صلتنا به، وبعضها كمجلة «العربي» ظلت صديقة دائمة وظللنا على وفائنا لها.

          خمسون سنة، يكبر الإنسان، يشيب رأسه، تتجعّدُّ بشرته، تبْهتُ ألوانه، وتتساقط أسنانه. وهذه المجلة لاتزال شابة متألقة تزفّ نفسها إلينا كلَّ شهر وهي تضيف لثوبها كلَّ جديد وجميل.

          تعود بي الذكريات إلى يوم استقبالها الأول. حين جاء والدي وهو يُخفي تحت «بشْتِهِ» شيئًا وقال: لكِ عندي مفاجأة. وقبل أن يقفز سؤالي سلّمني العدد الأول من المجلة وهو يقول: هذه مجلة عربية تصدر من الكويت، تُضاف لأخريات تقرئينها وتستفيدين منها. كنت في ذلك الوقت أقرأ المجلات الأدبية التي كان يحرص على تزويدنا بها مثل: «الآداب، الرسالة، الهلال، الجيب، الأديب»، وغيرها ممّا كان حاضرًا في الساحة الثقافية والتي تُعنى في مجملها بالثقافة والأدب والشعر. وقد لفتني ما قاله والدي بأنها مجلة عربية، فأدركت من الوهلة الأولى أنها تهدف إلى تخطّي الحدود المحلية لتؤكد ارتباط الكويت بالوطن العربي، هذا الارتباط العميق الذي حرصت عليه الكويت منذ نشأتها بتفاعلها الكبير مع قضايا الوطن العربي ومساهماتها الكبيرة في التبرّع لنضاله ضدّ الاستعمار، وفي احتضانها للشعوب العربية خاصّة الشعب الفلسطيني بعد النكبة عام 1948، كما أذكر أن مظاريف الرسائل الرسمية كان يُكْتَبُ عليها: «الكويت بلاد العرب». وحين أمسكت بالمجلة شعرت وكأنني أحتضن وطني العربي كله، فأحببتها من اللحظة الأولى. أذكر أنني في تلك القيلولة تركت مراجعة دروسي ورواية لمكسيم غوركي كنت بدأت بقراءتها، واحتضنت المجلة الملونة الممتلئة بمواضيع منوّعة تفوح منها رائحة المطبعة وكأنها مزيج من روائح وطني العربي. ظللت أتأمل الغلاف الذي تصدّرته صورة لفتاة كويتية جميلة تحتضن عذق البلح البصراوي وفي تأمّلي تمنيت لو أرى صورتي ذات يوم على غلافها لكنني كنت واثقة أن الأمنية لن تتحقق بسبب تمسّك والدي الشديد بالتقاليد السائدة آنذاك.

          التهمت مواد المجلة بنهم كبير. ووجدت فيها من الاستطلاعات المنوعة ما يُرضي ذوقيَ العروبيّ مثل موضوع الثورة الجزائرية وباب «اعرف وطنك أيها العربي» الذي كان نافذتنا الأولى للسياحة والتعرّف على أرجاء الوطن العربي. كنت أنتقل بين الصفحات لأجد زادًا منوعًا من أدب وشعر وقصة ومن أقوال الحكماء والفكاهة وأخبار العلم والعلماء وأخبار الطب والأطباء والألغاز.

          هكذا صارت مجلة «العربي» منذ عددها الأول من المجلات اللصيقة والصديقة التي أعتز بها وأقرؤها بشغف ، لأنها استطاعت باقتدار أن تكون الميدان الواسع لكل المثقفين والمفكرين والمبدعين والشعراء العرب الأوائل منهم والمحدثين، كما فتحت أبوابها للشباب، فلم تحارب حداثة الإبداع بل احتفت بكلِّ جديد من شعر ونثر وقصة. ولم تغفل المجلة شأن الطفل العربي فأصدرت ملحق «العربي الصغير» - الذي تحول بعد ذلك إلى مجلة مستقلة - لتكون مجلة لكلِّ أفراد الأسرة. لقد تطوّرت تطورًا كبيرًا، فهي وإن حافظت على حجمها القديم إلا أنها حرصت على التنويع الدائم في موادها، وإضافة أبواب جديدة، وتسليط الضوء على الواقع العربي بكل متغيراته. وظلت محافظة على خطّها ونكهتها العربية. لقد كانت , ولاتزال، المجلة العربية الوحيدة التي حققت انتشارها في أرجاء الوطن العربي، وبهذا حققت التواصل بين شعوبه.

 

ليلى العثمان