افتح يا سمسم.. للعربي!

          منذ ثلاث سنوات كنت في مدينة «تيزنيت» إحدى الحواضر المهمة في الجنوب المغربي حيث تحتضن ضريح مولانا الشيخ «ماء العينين» إمام المجاهدين المغاربة في الجنوب وفي دار حفيده الصديق «النعمة ماء العينين»، كنت أتحلق حول التلفزيون، بمعية عياله الصغار، نتابع الأخبار من التلفزة المغربية فأطلت سيدة وقور، في سياق خبر عن حقوق الإنسان هناك، ووجدت الصديق يسألني: أتعرف هذه السيدة الطالة من الشاشة الصغيرة؟ «1» أجبت بالنفي، وأردفت متسائلا عن هويتها، قال: منذ حوالي ثلاثين سنة، زارتنا بعثة «العربي» لعمل استطلاع عن المدينة، وكانت السيدة - آنذك - شابة صغيرة تقرأ (أي تتعلم)، في المرحلة الدراسية الثانوية، وهي الآن نائب رئيس هيئة وطنية سامية معنية بحقوق الإنسان في المملكة، وقد كانت صورتها غلافًا لمجلة «العربي» في العدد الذي تضمن استطلاع «تيزنيت»، وهنا لمعت في ذهني فكرة استطلاع صحفي تكرسه المجلة للصبايا اللواتي كنّ أغلفة طوال ولاية الدكتور أحمد زكي، أول رئيس تحرير للمجلة! وجلهن صرن ربات بيوت، وتقلدن مهام شتى في مناحي الحياة العملية.

          ولعل القراء المخضرمين يذكرون أن «العربي» كانت طوال سني عمرها الأولى، تطرز أغلفتها، وتكرسها لصورة صبية من بلد عربي أو إسلامي، دالة على الاستطلاع الرئيسي في المجلة. ويبدو أن هذا الاختيار البهي لم يكن كذلك في نظر بعض المتشددين المتطنعين أواخر عقد الخمسينيات، ومنهم العبدالله ذات نفسه، ومن هنا: دبجت مقالة نارية رافضة لصور الصبايا، بدعوى أنها لا تمت بصلة إلى موضوع «الريبورتاج» آنذاك: كان العبدلله «حنبليًا نجديًا حامضًا» بامتياز ولا فخر! وكان يظن - آثمًا - أن الأصل في الحياة الدنيا هو: الحرام! لكن د. أحمدزكي - بداهة - لم يعبأ بمقالة العبدلله البتة، الأمر الذي حرضني على صياغة مقالة أخرى ذهبت أدراج الرياح هي الأخرى. قمت غاضبًا من الإهمال غير مأسوف على شباب قلمي.

          الشاهد أن صور الصبايا تواترت تزين غلاف مجلة العربي إلى حين عودة رئيس التحرير إلى موطنه في مصر المحروسة. وحين التقيت رئيس تحرير مجلة «العربي» الحالي الدكتور سليمان العسكري طرحت عليه فكرة تعقب المجلة للصبايا اللواتي حظين بأغلفة المجلة، ومعرفة واقع حالهن الآن، في الألفية الثالثة.

          ويبدو أنها راقت له! لكنه فاجأني بتكليفي هذه المهمة، ربما لأنه يروم أن يكفّر العبدلله عن ذنبه الذي ارتكبه في حق المجلة ورئيس تحريرها! إلا أن صديقي الحميم مرض السكري الذي وسمته مرة هنا بالصديق الذي لابد من صداقته بحسب وصف عمنا «أبو الطيب» حال دون ذلك لسوء حظي واعتذرت له آسفا وغاضبا من مرض السكري الذي فوت علي هذه الفرصة!

          ومن هنا، وكما ترون، فإن علاقتي بهذه المجلة ابتدأت بغلافها، وتواصلت - لاحقا - بمتنها في عهد رئيس تحريرها الأستاذ أحمد بهاء الدين رحمه الله في منتصف السبعينيات، بعد أن شفيت من داء التنطع الذي كان يسكنني إبان مراهقتي الأولى!

          التحقت بهيئة تحرير المجلة عام 1977، بعد أن طلبت نقلي من التلفزيون إليها.

          وكانت هيئة التحرير تضم كوكبة من الكتّاب والصحفيين والرسامين التشكيليين الذين أذكر منهم، دون أن أعول على ذاكرتي الهشة كبيت العنكبوت (بالاعتذار لحضرة العنكبوت!) كانت «العربي» تحتضن الأديب الدرعمي الأستاذ خليفة التونسي، والفنان حسن حاكم، والكاتب الصحفي فهمي هويدي: مدير تحرير المجلة، والكاتب مصطفى نبيل (رئيس تحرير المجلة العريقة: الهلال لاحقا)، والفنان الفذ والإنسان الزين الفنان التشكيلي والكاريكاتيري الأستاذ بهجت عثمان، والأستاذ سليم زبال، وغيرهم من الذين لم تسعفني ذاكرتي إياها على تذكرهم، فمعذرة منهم!

          راعني في أول يوم أداوم فيه سلوك أحد الإخوة الزملاء الكويتيين إذ وجدته يتأبطني إلى مكتبه متماهيًا مع «تأبط شرًا» ما غيره!

          قال - ونحن نتربع في مكتبه - ما الذي جاء بك إلى هنا؟! كيف تترك المنصب والمكتب الفخيم والعز الذي كنت تتبغدد فيه لتكون كاتبا في العربي؟!

          جابهت سؤاله الملتبس بسؤال آخر: لم تقول مثل هذا الحكي الماصخ؟! هات ماعندك. قال - لا فض فوه - : إنهم «يحاربون» الكتّاب الكويتيين العاملين في المجلة، ويستأثرون بالاستطلاعات الخارجية وحدهم دون غيرهم! لذت بالصمت ولم أعقب! ودخلت - بعدها - على الأستاذ «بهاء»، وما أن استويت على مقعدي حتى قال: ثمة دعوة من رئاسة الجمهورية التونسية، أتحب الذهاب إلى تونس؟ اهتبلت الدعوة فورًا دون تردد! كانت الدعوة مكرسة لحضور الاحتفال بالذكرى السنوية لميلاد الرئيس التونسي «الحبيب بورقيبة» رحمه الله في مسقط رأسه «المونستير».

          وكان العم «مجرن أحمد الحمد» سفيرا لدولة الكويت في تونس آنذاك، وكان عميد السلك الديبلوماسي، ويتمتع بشعبية عارمة أزعم أنها كانت تضاهي شعبية الرئيس نفسه.

          ومن هنا، حين تمنيت عليه مقابلة وزير الإعلام  الدكتور مصطفى المصمودي، هاتفه في التو والحين، على الرغم من أن اليوم كان عطلة! وفوجئت بمعالي الوزير يشرع أبواب الوزارة كرمى لمجلة العربي بداية، ولعلاقته الحميمة «بأبي حمد» سعادة السفير ثانيا! وأحسبني لا أغالي إذا أشرت إلى أن هذه المبادرة: رافقتني في كل الأقطار العربية التي زرتها بغرض صياغة استطلاع عن القطر العربي موطن الزيارة. وليس هذا السلوك بدعًا وخاصًا بي، بل أحسب، بل أجزم بأن الزملاء كافة يلمسونه بدورهم، في كل قطر عربي يفدون إليه باسم «العربي» تمامًا على طريقة «افتح يا سمسم» سوى أنها هنا «افتح للعربي». وفي هذا السياق: أذكر أني عزمت على عمل تحقيق مصور عن التحفة المعمارية الرائعة «مسجد الحسن الثاني» الذي تحتضنه مدينة الدار البيضاء، ورحت هناك بمعية الصديقة المصورة الصحفية الأمريكية المدهشة ستيفاني ماجيهي وحين كلمت مندوب وزارة السياحة عن رغبتها في تصوير هذه المأثرة المعمارية البهية التي يتجلى فيها جمال المعمار المغربي الأندلسي، فوجئت به يقول: إن التصوير ممنوع، وأنهم سيزودوننا بالصور المطلوبة، جاهزة من عندهم! لكن حظوة مجلة العربي إياها مكنتنا من تجاوز الحظر، ومن ثم التصوير بحرية كاملة، من الصباح الباكر حتى مغيب الشمس مدة أسبوع كامل، وكأن مجلة العربي ولي من أولياء الله الصالحين تصحبنا بركاته حيثما حللنا! فكان «مدده» يأتينا من حيث لا نحتسب، حسب الكاتب في المجلة أن يذكر اسمها حتى تشرع له الأبواب والقلوب.

          وأحسبني لا أغالي إذا أشرت إلى أنني لم ألجأ مطلقًا إلى طلب معونة، ومساعدة، السفارة الكويتية، حينما تصادفني عقبة ما، قد تعرقل مشروع الاستطلاع الذي أنوي تنفيذه لمصلحة «العربي» الغراء. لقد صادفتني عراقيل شتى كانت كفيلة بتقويض المشروع، لكن اسم «العربي» كما أسلفت، كفيل بأن تشرع الأبواب والقلوب معًا!

          ولسوء حظي فإن مدة عملي بالمجلة دامت سنة يتيمة فقط، ذلك أن الصديق العم حمد عيسى الرجيب عين سفيرًا في المملكة المغربية، وعرض عليّ العمل بمعيته مستشارًا إعلاميًا، استمزجت رأي أستاذنا أحمد بهاء الدين فتبسم ضاحكًا وهو يقول: لو كنت مكانك لما ترددت بقبول العرض! خصوصا أننا نتطلع إلى أن تكون «سفيرًا» للعربي في الدول المغاربية.

          وهكذا كان! فإثر وصولي إلى الرباط بمدة قليلة، ذكر لي سعادة السفير: أن شخصية مغربية سامية ينقصها بعض أعداد المجلة التي يحتفظ بجل أعدادها، لذا يتمنى تزويده بها إذا أمكن ذلك. ولم تخيب الإدارة الأمل فيها، بل أرسلت مجموعة كاملة من أعداد المجلة، مجلّدة تجليدًا أنيقًا يليق بالقارئ المثقف المريد للمجلة. وصارت المجموعة الكاملة للمجلة الهدية القيمة التي يفرح لها المريدون الذين تهدى إليهم من سفراء دولة الكويت في الأقطار العربية والإسلامية وربما غيرها.

          ويبدو أن إشارة الأستاذ بهاء ثاني رئيس تحرير للعربي بشأن إمكانية أن يكون العبدلله سفيرًا لها في الديار المغاربية قد تحققت بمعنى من المعاني، فقد وردني وأنا في سفارتنا بالرباط، تكليف من الوزارة بالسفر إلى الجزائر العاصمة لبحث مسألة ديون المجلة المخزنة في صندوق أمانات وزارة الإعلام الجزائرية جراء القيود المالية التي كانت تمنع ترحيل الدينار الجزائري خارج الحدود! والجدير بالذكر أن المجلة استمرت في الوصول إلى الجزائر، بغض النظر عن عدم تسديد ديون المجلة المتراكمة! وإذا لم تخنّي الذاكرة، فأظن أن أحد المسئولين في وزارة الإعلام الجزائرية اقترح أن تجيّر المبالغ لمصلحة السفارة الكويتية هناك، ومن ثم تقوم السفارة بتسديد الدين إلى وزارة الإعلام الكويتية.

          وبهذا الحل التوفيقي قر الدينار الجزائري في موطنه، وحافظت «العربي» على حضورها هناك، مطلع كل شهر كما هو دأبها على مدى خمسين عامًا... اللهم زد وبارك.

          ولعلي لا أبالغ إذا ذكرت أن الكثيرين منا - نحن معشر القراء - تعرفنا إلى كثير من الأقطار العربية والإسلامية من خلال استطلاعات مجلة العربي المتواترة عقودًا عدة، وما برحت موصولة ومستمرة إلى ما شاء الله. حسبنا في هذا السياق استدعاء استطلاعات الرعيل الأول من الزملاء الذين اقتحموا مناطق كانت تعد مجهولة وبكرًا مثل الصين، وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق وغيرهما، والتي أثرت معلومات وثقافة عامة القراء وخاصتهم على حد سواء.

          والمؤسف حقًا أنه في الوقت الذي تحظى فيه «العربي» بهذه الحظوة العارمة لدى القراء العرب، خاصتهم وعامتهم، إلا أن علاقتها ببعض القيمين في الوزارة بدت لي ملتبسة، وليست سوية ولا صحية، بخاصة أثناء عهد الرئيس أحمد بهاء الدين فالقيمون يرغبون في إطلاعهم - مسبقًا - على «ماكيت» المجلة ومحتوياتها، كما كان يفعل الدكتور أحمد زكي رحمه الله وقد ظن «الربع» أن مبادرته حق مكتسب حري بكل رئيس تحرير جديد أن يمنحهم إياه! ويجدر بي الإشارة هنا إلى أن الأستاذ بهاء كانت تربطه علاقة صداقة حميمة ومتينة بالشيخ جابر العلي، وزير الإعلام السابق رحمه الله، لكنه - في حدود معلوماتي - لم يلجأ إليه أبدًا لتقويم العلاقة السلبية التي كانت بين المجلة والوزارة!

          ولا أظن - غير آثم إن شاء الله - أن العلاقة الحالية يمكن أن توصف بأنها «سمن على عسل» خالية من العقبات والعراقيل الطافحين بالبيروقراطية السلبية المعوقة!

          حسبنا أن نعرف أن المجلة الخمسينية مازالت من دون ميزانية سخية تواكب طموحها ورغبتها في التجويد والإتقان، في فضاء الإبداع الصحفي، وما برحت من دون مقر دائم، فضلاً عن المتطلبات الأخرى اللازمة لاستمرار حضورها! ولاسيما أن حضورها بات دالاً على الكويت، وإحدى علاماتها الثقافية الحضارية. وصار مألوفًا أن يتعرف كثير من القراء على الكويت، من خلال الإشارة إلى أنها القطر الذي تصدر عنه مجلة «العربي»، وكأن هناك ارتباطا عضويا، كما حبل الصرة، لا تنفصم عراه، ولن تنفصم، بإذن واحد أحد. إن شهادتي المتكئة على ذكرياتي عن المجلة طويلة كفيلم هندي، وتتسم بالثراء والتنوع، لكنني محكوم بمساحة محددة لا يجوز تجاوزها، زد على ذلك أن الصديق رئيس التحرير د.سليمان إبراهيم العسكري له من لقبه نصيب. والعبدلله بدوره يخشى «العسكر» وينفذ أوامرهم كجندي «نفر» بانضباط يستأهل الترقية إلى «شاويش» معتبر لكوني أنجزت تدبيج هذه الخواطر بسرعة تسبق الموعد المحدد!

          كنت أتمنى لو نوهت بالمشروع الجميل الذي وافق عليه الصديق الدكتور محمد غانم الرميحي ثالث رئيس تحرير للمجلة، وأول كويتي يكلف هذه المهمة، أعني بالتحديد فكرة الاستطلاع الصحفي المصور للمجلة، والمتلفز للشاشة الصغيرة كما تفعل مجلة «ناشونال جايغرافيك» ومحطتها التلفزية.

          ولحسن حظي وافقت الوزارة على المشروع الذي كان مكرسًا لإبداع تحقيق صحفي وتلفزي عن «جزر المالديف» الساحرة. لكن ظروفًا خاصة بي حالت دون ذلك، وأحسب أنه آن الأوان لتحويل مجلة «العربي» إلى مجلة مقروءة مسموعة مشاهدة مثل قناة «ديسكفري» ومجلة وتلفزة «ناشونال جايغرافيك» كما أسلفت. ولعل خير هدية يمكن أن تهدى إلى قراء «العربي» ومريديها تكمن في ترجمة الاقتراح السابق إلى فعل إبداعي إعلامي يدب على الأرض، وينشر في الفضاء، تجسيدًا للسياسة الحديثة «للإعلام الخارجي» الذي أدته العربي، طوال عهدها المديد بتقان وجدارة بشهادة الأصدقاء و«الأعدقاء» على حد سواء.

          والعبدلله يعرف سلفًا و«إخوانًا»، إن شئت بأن شهادتي في المجلة الذهبية قد تكون مثلومة ومجروحة، لكن الذي يعزيني ويحرضني على دحرجتها على أنظار القراء الأحبة يكمن في أن الشهادة يلعلع لها القاصي والداني طوال سني عمرها المديد! تزأر بها الخاصة والعامة، فضلاً عن أن العبدلله ليس موظفًا متفرغًا فيها ولها! بل هو مجرد مريد يكتب فيها، بين حين وآخر، مثل أي كاتب مزاجي مجازي بامتياز!.