«العربي» عبر الأجيال.. د. محمد الرميحي

«العربي» عبر الأجيال.. د. محمد الرميحي
        

          حدث جميل أن يُحتفل بمرور خمسين عامًا على صدور مجلة العربي، وأن يحضر المرء توقيت الصدور وهو في ريعان الشباب. وتوقيت الاحتفال بخمسين عامًا من الصدور وهو رجل في شبابه المعنوي حتى لا أقول كهلاً. تلك مكرمة من الله نذكرها فنحمده عليها، وهي ذكرى طيبة تتزاحم في الذهن بمناسبتها كثير من الأفكار والذكريات.

          من هذه الذكريات المتقدمة أن أول مقالة كتبتها لمجلة العربي وحاولت نشرها فيها، تم رفضها من المرحوم الدكتور أحمد زكي أول رئيس تحرير للمجلة. وكان ذلك بمنزلة الدافع بالنسبة إلي للتجويد في الكتابة والاهتمام بنصائح المتقدمين، ولم يرد بخاطري أن أكون أول رئيس تحرير من الكويتيين لهذه المطبوعة العملاقة، وقتها كنت في المرحلة ما بعد الجامعية أدرس في بريطانيا، وأكتب لبعض الصحف، ولم تكن وسائل الكتابة الحديثة قد بدأت في الظهور، فكتبت مقالة بخط اليد وأرسلتها وأنا في أول عهدي بالدراسة، إلا أنها لم تنشر، ولم أتوقف حتى أعرف السبب، إلا أنني عرفته بعد سنوات عندما أفادني رئيس التحرير آنذاك، بأن المقالة كانت جيدة، بيد أن رداءة الخط كانت وراء عدم نشرها!

التكليف والبداية

          في بداية الثمانينيات دعاني سمو الشيخ صباح الأحمد الجابر، أمير الكويت الحالي، وكان وقتها وزيرًا للإعلام بالوكالة لمقابلة سموه، وقال لي: لقد اخترناك أن تكون رئيسًا لتحرير مجلة العربي، ولم نتحدث إلا مع شخص آخر غيرك واعتذر، قبلت المهمة الصعبة من سموه، فقد كان ذلك تشريفًا، ثم أردف سموه: اسمع يا محمد، وهي طريقة محببة لسموه في الإشارة إلى المخاطب: «الإعلام يجرح ويداوي». وكانت حكمة.

          هذه العبارة «الإعلام يجرح ويداوي»، لها معنى استفدت منه على مر الأيام، وهي عبارة عميقة لها معنى، بدليل احتفاظ عقلي بها إلى يومنا هذا، اهتمام سمو الشيخ صباح الأحمد بمجلة العربي ليس غريبًا ولا جديدًا، فهو مَن أشرف على ظهورها إلى النور في أول انطلاقها، بعد أن كلف شخصيتين من الشخصيات الكويتية المهتمة بالثقافة في وقت مبكر (النصف الثاني من الخمسينيات)، أن يبحثا عن رئيس تحرير لمطبوعة عربية شاملة تصدر من الكويت تكون جديدة ومختلفة، الشخصيتان هما الأستاذ بدر الخالد، والأستاذ أحمد السقاف - أطال الله في عمرهما - وقد استكتبتهما مرارًا في مناسبات مختلفة من أجل رواية قصة الإنشاء على صفحات المجلة، وهي قصة التكوين الأول، لا أريد أن أكرر بعضها، فهي منشورة، إلا أن أهميتها ذات مدلول تاريخي اليوم. تعبير «يجرح ويداوي» له معنى عميق تبينته مع تطور العمل في مجلة العربي، وفي مشروعات إعلامية مختلفة لاحقة قمت إما بإنشائها أو تطويرها، فهو يجرح من جهة أولئك المتقاعسين الذين يخذلون أوطانهم بأشكال مختلفة من الخذلان، فالمرتشي والمقصر والمتقاعس والمهمل، وكل من يرتكب إثمًا وطنيًا يقوم الإعلام «بتجريحه» بالمعنى الرمزي العام، أما «المداواة» من ناحية أخرى، وهو مفهوم لم يستخدم على نطاق واسع في الإعلام، فيعني أن الإعلام يكافئ المُجد والمخلص، وينصف المظلوم ويحفظ للدولة والمجتمع حقوقهما، بل ويدافع عنها. بهذه المعاني أخذت التوجيهات الأولية من سمو الشيخ صباح الأحمد لأبدأ عملاً صعبًا، ولكنه كان ممتعًا في آن واحد، والذي استمر تقريبًا ثمانية عشر عامًا دون انقطاع، والحمد لله على ما وهب.

          لم تكن البدايات سهلة، فقد تسلمت عملاً ناهضًا ومجلة فرضت احترامها بين الأعمال الصحفية والثقافية العربية. بل أصبحت المجلة العربية الثقافية الأولى منذ زمن، تربت على مقالاتها أجيال من المثقفين العرب.

الإضافة

          كانت الخطوة الأولى هي التفكير في الإضافة، فقد كان أمامي مشروعان، الأول هو إصدار «العربي الصغير» في مجلة مستقلة، وقد كانت تصدر في السابق ملحقًا في أربع صفحات داخل مجلة العربي هدية للأطفال، ولما أعرفه من أهمية أن يُقدم للطفل واليافع العربي من زاد ثقافي جاد، فإن إصدار مجلة مستقلة للطفل، كان الأمل والخطوة المتقدمة في ثقافة الطفل، وكانت الخطوة التي تليها في نظري هي إصدار كتاب العربي الصغير.

          إلا أن الأمور في الحياة تسير على غير ما يرغب المخطط. فقد حملت مشروع العربي الصغير إلى سمو الشيخ ناصر محمد الأحمد الصباح رئيس الوزراء اليوم، وكان وقتها وزيرًا للإعلام. فما كان من رؤيته الصائبة إلا أن حبذ الفكرة وتحمّس لها. وفي التنفيذ واجهتنا عقبة «بيروقراطية». فقد تحجج البيروقراطيون وقتها بأننا لا نستطيع إصدار العربي الصغير في قطع أكبر «قطع المجلات العادية» لأن المطبعة لديها ورق من «القطع الصغير» ولا يجوز إهداره، وكانت قد وفرت منه احتياطيًا يكفي لمدة عامين، كان ذلك تحججًا وكان هذا يعني أن يتأخر إصدار العربي الصغير، بالقطع الجديد لمدة عامين على الأقل، هنا يلعب الابتكار والقرار دورًا مهمًا. فقد اقترحت ألا نتأخر في إصدار العربي الصغير على القطع الجديد، وأيضًا لا نخسر الورق في القطع الصغير، بأن نصدر به «كتاب العربي»، الذي اقترحت أن يكون مقالات منقولة من مجلة العربي الأم ، تدور حول موضوع واحد، أو مقالات من العربي لكاتب واحد، وهكذا كان بتوجيه من الشيخ ناصر المحمد وزير الإعلام آنذاك. أصدرنا العربي الصغير وكتاب العربي في وقت واحد تقريبًا. هذا هو سر حجم كتاب العربي الذي استمر في الصدور منذ وقتها إلى اليوم. وكان من ثمار ذلك الجهد أنه في الأشهر الأولى من تكليفي مهمة رئاسة تحرير العربي أن أصبح لدينا إصداران يزاملان المجلة الأم وهما «العربي الصغير» و«كتاب العربي».

          مازلت أعرف المجلة، أي مجلة، بأنها مثل الإنسان تبدأ صغيرة ثم تصبح يافعة ثم تشيخ، هذا ما حدث لمجلات ثقافية كبرى في عالمنا العربي على الأقل، لذا كنت حريصًا على أن تجدد مجلة العربي، «شكلاً ومضمونًا»، بين فترة وأخرى، فقد استدعينا الفنان الكبير حلمي التوني من مصر، وله من الأعمال الابتكارية في المجلات ما هو معروف ومشهود، ومن ثم وضع ما يعرف في اللغة الفنية الصحفية «ماكيت»، متطورًا للمجلة، سارت عليه، ثم بدأ العالم يعرف التقنية الحديثة في النشر، فكان أن بدأنا باستخدام الكمبيوتر، الأمر الذي أهتم به في أعمالي الثقافية، فقد تم إنشاء وحدة «إنتاج» في المجلة في التسعينيات، تقوم بصف المقالات وإخراجها، ومن ثم إرسالها إلى المطبعة جاهزة للطبع، وبعد معركة تحرير الكويت، فكرنا في وضع المجلة على الشبكة الدولية، وبدأت اتصالات مع معهد الكويت للأبحاث العلمية لوضع المجلة على شبكة الإنترنت.

نريد أن نعرف سلبياتنا

          «العربي» سارت من نجاح إلى نجاح، ومن الأعمال الأولى التي تمت في السنوات الأولى من عملي عقد لقاء ثقافي موسع للاحتفال بالعيد الخامس والعشرين لإصدار المجلة. وهكذا نظمت ندوة أمَّها عدد كبير من المثقفين العرب، وكتبت فيها أبحاث معمّقة عن مجلة العربي ودورها الثقافي، وكان بعض الأبحاث استقرائيًا وبعضها تحليليًا، وبعضها أبحاثًا مقارنة مع مجلات أخرى وكالعادة في ذلك الوقت عندما يكون هناك تجمّع كبير من المثقفين في الكويت، يستقبلهم كبار المسئولين، فكان لهم لقاء مع سمو الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد - طيب الله ثراه - فدخل الجميع إليه، وبعد السلام، وكان الجميع واقفًا، تحدث المتحدث الأول من الضيوف فأثنى على ما شاهد في الكويت، ثم تحدث المتحدث الثاني، فردد ما قاله الأول من انبهار بما حققته الكويت في المجال العمراني والثقافي والاقتصادي، ثم قام الثالث، لكنه قبل أن يتحدث أفرد سمو الأمير يده وقال مخاطبًا جمهور المثقفين (بما معناه) نريد منكم أن تشيروا إلى تقصيرنا وسلبياتنا حتى نتفاداها ولا نريد الثناء على إيجابياتنا، وكانت رسالة لها تأثير البلسم على المثقفين، إلى درجة أنه بعد ربع قرن أو يزيد بعد ذلك التاريخ، ما إن أقابل واحدًا ممن مدّ الله في عمره من ذلك الجمع الذي شهد ذلك اللقاء إلا وذكرني بكلمة سمو الأمير الراحل «نريد منكم أن تدلونا على سلبياتنا» وهي صورة المثقف المرتجى في ذهن الجيل الأول من الكويتيين الآباء. إن دور المثقف هو البحث عن السلبيات وتقديم حلول لها، لا الحديث عن الإيجابيات فهي مشهودة ومعروفة.

          بعد الاحتلال المشئوم في بداية التسعينيات، وما قام به المحتل من هدم البنية التحتية في الكويت من مطابع وغيرها، قررنا أن نصدر «العربي» للتواصل مع القارئ العربي، ونظرًا إلى أن الإمكانات الطباعية غير متوافرة، تقرر أن تصدر من القاهرة، وبالضبط بعد عام تقريبًا من التوقف القسري، إذ أصدرنا عدد أغسطس عام 1990 ثم هجم الأشرار على الكويت، فتقرر أن نصدر في سبتمبر 1991 إشارة إلى استكمال الأشهر، فكتبت إلى عدد من الكتّاب العرب المرموقين بنية الإصدار، إلا أن بعضهم - سامحهم الله - ردّوا بشيء من العجرفة والحدة اللذين طبعا الحياة السياسية ذلك الوقت، فقال بعضهم لا نشارك في مجلة تصدر من بلد تم تحريرها من الأمريكان، وقد حزّ في نفسي أن يكون بعض المثقفين العرب مضللين إلى هذا الحد، وقد غاب عنهم فعل الكويت ودورها الثقافي، إلا أن الأمر لا يخلو من إيجابية، فأثناء الاحتلال امتشق بعض المثقفين العرب الأحرار أقلامهم مدافعين عن الكويت من الزاوية الثقافية، وهي زاوية احتلت «العربي» فيها سبق المثال والتشبيه، فبلاد تصدر «العربي» وتقدم هذه الخدمة الثقافية هي بلاد أصيلة وصافية العروبة، كما أكّد كثيرون منهم، ما لبثت أن تغلبت الحكمة على الجهل وتدفق الكتّاب إلى رحاب «العربي» كما كانت وأفضل، واستمر الإصدار في القاهرة العربية لمدة عام، ثم انتقل إلى الكويت لإكمال المسيرة.

الصعوبات

          ليس هناك عمل من دون صعوبات، وصعوبة العمل في مجلة العربي أنها كانت تريد أن تدخل كل بيت عربي دون أن تعرض صدقيتها إلى الاهتزاز، بمعنى ألا تجامل أو تتجاهل القضايا العربية الكبرى، مما سببب لنا صعوبات مع الرقابة العربية، وفي بعض الأحيان تمنع مجلة العربي أو تأتي شكوى من بلد أو آخر محتجة على ذلك المقال أو ذاك، غير أن الأهم أن الرسميين في الكويت تعاملوا مع «العربي» على أنها مجلة مستقلة، لا رقيب عليها إلا ضمير محرريها، فكان ذاك السهل الممتنع في الموازنة بين حق القارئ العربي في المعرفة، وحساسية بعض الأنظمة من الكلمة الحرة. أما الرقابة الأخرى، فقد كانت رقابة تراثية - إن صح التعبير - قادمة من أولئك الناس الذين يعتقدون أنهم يملكون الحقيقة المطلقة في تفسير التراث.

          لقد قدمت «العربي» في مسيرتها زادًا ثقافيًا مرموقًا، ولا أستطيع أن أدّعي أن ذلك الجهد في الثمانية عشر عامًا هو جهدي، فقد رافقتني ثلة من الشباب العرب، سواء في التحرير أو السكرتارية، هم كثيرون، ولكن المناسبة تستدعي ذكرهم وشكرهم، وأعمالهم لمن يريد أن يعرف موجودة في ثنايا أوراق «العربي» الكثيرة، أدعو لمَن غادرنا منهم إلى رحاب الله بالرحمة، ولمَن بقي منهم بعمر طويل، تلك بعض الذكريات التي أكتبها لجيل قادم لعل بها بعض الدروس.. وعمر مديد أيتها «العربي».

 

محمد الرميحي