العدد الأول ثمنه مائة جنيه إسترليني

  العدد الأول ثمنه مائة جنيه إسترليني
        

          كانت لي تجربة مع العدد الأول من مجلة العربي، وهي حكاية واقعية ليس فيها أي زيادة أو نقصان، لا في الشكل ولا في المضمون.

          كنت في ذلك الوقت عند صدور العدد الأول أقيم في مدينة كمبردج في بريطانيا، في شارع كَفَنْدِش رقم 117.

          وفي يوم عاصف، ماطر في أواخر شهر ديسمبر من عام 1958، وكانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحًا حين رنّ الجرس في منزلي، ففتحت الباب، فإذا بالطارق هو ساعي البريد، وهو يسأل عن السّير «فاضل خلف» دهشت لأول وهلة، ثم رأيت بيده غلافًا مكتوبًا عليه العبارة المذكورة تلك. وكان الظرف مسجلاً، ولا يُسلّم إلا بتوقيع، وهو ظرف كبير يدل على أنه كتاب أو مجلة.

          قلت لساعي البريد إن صاحب هذا المغلف غير موجود الآن، وإذا عدت في الغد في مثل هذا الوقت فسوف تجده، فانصرف شاكرًا كعادة القوم في تلك الربوع.

          وبدأت أفكر في الأمر. إن لقب «سير» لقب سام تمنحه الملكة للمواطنين البريطانيين الذين قدموا خدمات جليلة للإمبراطورية، فلابد أن هناك خطأ في الأمر،ولكن عليّ أن أستعد لتسلم المظروف بهيئة تليق بحامل لقب «سير».

          وكنت قد تسلمت منذ أيام مبلغ مائة جنيه استرليني من هيئة الإذاعة البريطانية مكافأة على تقديم أحاديث إذاعية عدة عن الحياة الأدبية في الكويت، وكان من المقرر أن أدفع هذا المبلغ مقابل امتلاك قطعة أرض خصّصتها الجامعة بالتعاون مع منظمة اليونسكو بشروط، أهمها:

          - أن يكون الراغب في القسيمة مسجلاً في أحد المعاهد التابعة لجامعة كمبردج.

          - أن يكون من رعايا بريطانيا من غير الإنجليز، وألا يكون من المستفيدين من المنح الجامعية.

          - أن يكون متزوجًا.

          وكل هذه الشروط كانت في مصلحتي.

          وقد استفاد كثيرون من هذه التسهيلات، وامتلكوا قسائم سكنية، بمساعدة الشركات العقارية في هذه المدينة الجامعية، بحيث لا يدفع المستفيد إلا مبلغًا زهيدًا شهريًا لمدة معينة من السنوات.

          ولكن وصول هذه البعيثة الغربية غيّر البرنامج، رأسًا على عقب، فأصبح هذا المبلغ لا من نصيب الأرض ولا البيت، ولكن من نصيب هيئة السّيْريَّة المتمثلة في ملابسها الخاصة.

          ذهبت إلى أقرب محل للملابس الجاهزة، وانتقيت بدلة تليق بلقب «سير» حتى ولو كانت هذه البدلة ستُلبس لمرة واحدة أمام ساعي البريد الإنجليزي ليكون متسلم الطّرد «سيرًا» في ملابسه على الأقل.

          البدلة فراك والقبّعة من قبّعات علية القوم في العصر الفيكتوري، وكذلك العصا الحلزونية.

          وعندما جاء ساعي البريد في اليوم التالي، كان الجو قد تبدّل، فالمطر أصبح ثلجًا، ولكن العاصفة كانت مستمرة في الهَيَجان. فقدّم لي الظرف، وقبل أن يناولني القلم للتوقيع، أخذ يحدّق فيّ جيدًا، فلعلّه اكتشف أن هذا المختبئ في بدلة السّيريّة هو صاحبه بالأمس، ولكنه لم يكترث للأمر، بل تناول الوصل بعد التوقيع عليه، وحيّاني بتحيّة كلها لطف وبشاشة وانصرف بعد انتهاء مهمته.

          وعندما فتحت الظرف، وجدت بداخله العدد الأول من مجلة العربي، وكان المرسل هو الأخ سهيل الزنكي - رحمه الله - وقد كتب بدل «المستر» ذلك اللقب الرّنان.

          وهكذا أصبح ثمن العدد الأول من مجلة العربي بالنسبة إلي هو مائة جنيه إسترليني.

          وهذا طبعًا خطأ غير مقصود، ولكن هكذا حكم القدر، وقد خسرت قطعة الأرض السكنية، التي كنت أحلم بامتلاكها، ولم تُتح لي الفرصة مرة ثانية إلا بعد سنتين. ولهذه قصة أخرى ليس مكانها هنا في هذه المداخلة.

          وأحب أن أضيف هنا أنني تلقيت العدد الأول أيضًا من بعض الإخوة في الكويت، ولكنهم لم يكتبوا كما كتب الأستاذ سهيل، الذي كان من أعز أصدقائي في هذه الدنيا.

          أما البدلة التي لبستها مرة واحدة في حياتي، فقد أهديتها بعد ذلك لأحد أصدقائي الإنجليز قبل مغادرتي الأراضي الإنجليزية في منتصف عام 1961.

 

فاضل خلف