«العربي»: هدية الكويت

 «العربي»: هدية الكويت
        

          في صيف عام 1958 اتصل بي الأستاذ أحمد السقاف، نائب مدير دائرة الإرشاد والأنباء، وحدثني عن مشروع ثقافي تتبناه الكويت ويكون لمصلحة المواطن العربي في كل مكان. وهذا المشروع هو إصدار مجلة تكون هدية الكويت إلى العالم العربي توحد بين العرب، ولا تزج نفسها في الخلافات الموجودة بينهم. وأخبرني أنه تم الاتفاق مع الأستاذ الكبير د. أحمد زكي ليكون رئيسًا للتحرير. وهو عالم معروف، كان رئيسًا لمصلحة الكيمياء، ورئيسًا لجامعة القاهرة، وطلب مني الأستاذ السقاف أن أعمل مع الدكتور أحمد زكي لإصدار هذه المجلة التي لم يكن لها اسم ولا اتجاه، والشيء الوحيد الذي يريده المسئولون ألا تتدخل في الخلافات العربية، وأن توحد ولا تفرق، وقد راقت لي الفكرة، وبدأنا العمل، نائبا لرئيس التحرير كان علينا أن ننشئ مجلة لا نعرف عنها شيئًا، ومادامت تهتم بالقضايا العربية فقد رأينا أن يكون اسمها «العربي»، وهو عنوان دال على اتجاه المجلة، التي هي لكل العرب في كل مكان. إنها هدية الكويت إلى العالم العربي. وكانت خطة حكيمة من دولة الكويت أن تعمل لخير العرب جميعًا عن طريق الثقافة.

          لقد كان علينا أن نحدد المواد التي تنشر فيها، وأن تكون صورة المجلة واضحة في أذهاننا قبل أن ندفع بها إلى المطبعة.

          وكانت سياسة المجلة أن تعنى بالموضوعات التي تنمّي الاعتزاز بالتراث العربي، وأن تعرّف العربي بالوطن العربي، ولهذا فإن بعثة العربي من المحرر والمصور، كانت في كل بقعة من الوطن العربي، وبرز هذا الجهد في الريبورتاجات المصورة التي تعرّف بالوطن العربي، وتعرف بمناطق كانت مجهولة، وأصبحت هذه الريبورتاجات وثيقة يعتمد عليها الدارسون، كالذي ظهر عما عرف فيما بعد باسم دولة الإمارات العربية المتحدة. وأنت إذا نظرت في هذه البلاد قبل النفط وبعده، ستعجب لهذا التطور الباهر، الذي جعل منها مدنًا حديثة قائمة وسط الصحراء.

          لقد عملت «العربي» على أن تكشف عن هذا التطور.

          وتهدف المقالات التي تنشر فيها إلى ربط القارئ بالتراث العربي، وبالتطور الذي حدث، وبهذا يكون العربي عربيًا مثقفًا، وعربيًا معاصرًا.

          وكنا نحرص على أن تكون المادة المنشورة في «العربي» مفيدة للقارئ، نقدمها له دون تعقيد، ولهذا فإن المقالات قبل نشرها كانت تجد طريقها أولاً إلى التحرير، إلى الدكتور أحمد زكي ولي - إلى رئيس التحرير وإلى نائبه - وقد تعجب إذا قلت لك، إن كثيرًا من المقالات تفتقر إلى ترابط الأفكار، وإلى الأسلوب السهل الجذاب، وهنا دور المحرر. وكنا نطلب من كل كاتب أن يوافق أولاً على أن نقوم بتحرير المقال شريطة ألاّ نقوّله ما لم يقل. ولم تكن المجلة تعتمد على المقالات التي تصلها بالبريد، وإنما كانت تستكتب المتخصصين، فتحدد لهم الموضوع، الذي تريدهم أن يكتبوا فيه، وعناصره،حتى لا يشتط الكاتب، ويكتب ما لا نرى فيه فائدة للقارئ، وكان نشر مقال، أو قصة، أو قصيدة لكاتب يجعله يحس بالاعتزاز، بسبب المكانة المرموقة التي حققتها المجلة في نفوس القراء.

          وأذكر أننا قدرنا أن المجلة إذا بيع منها عشرة آلاف نسخة، فإننا نعتبرها ناجحة، ومنذ العدد الأول كان القارئ إذا لم يحجز نسخته، فإنه لن يجدها عند البائع في اليوم التالي. وقد طبعنا من العدد الأول عشرة آلاف نسخة، اختفت من السوق فور عرضها، وأخذنا كل شهر نزيد عدد المطبوع منها، وقد عملنا دراسة فوجدنا أن «العربي» كانت تبيع في الشهر أكثر مما تبيع كل المجلات العربية الأسبوعية والشهرية مجتمعة، وعندما تركت المجلة في صيف عام 1964م كان توزيعها يزيد على ربع مليون نسخة. وأصبحت مجلة «العربي» مجلة مرموقة، يتطلع إلى النشر فيها الكتّاب المعروفون، ولا بد لنشر أي شيء فيها من موافقة رئيس التحرير، ونائب رئيس التحرير، وكنا أحيانًا نحجب نشر مقالاً لكاتب معروف لأنه لم يبذل فيه من الجهد ما يجعله في المستوى المطلوب. وأذكر أن شاعرًا معروفًا أرسل إلينا قصيدة لتنشر في المجلة، فلم أفهمها، وعرضتها على د.أحمد زكي فلم يفهمها، وقال: لمن ننشرها إذن؟

          وكانت مجلة «العربي» قبلة زوار الكويت من الأدباء، والعلماء، إذ كانوا يحرصون على زيارتها، وعندما زار الملك محمد الخامس الكويت، ومعه ولي عهده الأمير الحسن، كان ما حرصا عليه أن يأخذ كل واحد منهما مجموعة كاملة من مجلة «العربي». وتكوّن مجلة «العربي» قارئًا متكامل الثقافة، ففيها الأدب، والفن، والفلسفة والعلم ونحوها، وقد كان د.أحمد زكي، وهو العالم المعروف، يتابع أخبار العلم، ويزود بها مجلة «العربي». وكنت أكتب في كل شهر باب،«كتاب الشهر»، فأعرض لكتاب جديد، وأحرص على أن أتحدث فيه عن كل ما استجد في موضوعه. وهناك مواد في المجلة لا يذكر اسم كاتبها وهي إما لرئيس التحرير، أو لنائبه. وكانت سياستنا ألا يذكر اسم الكاتب إلا مرة واحدة.

          بعد هذه المسيرة الطويلة التي امتدت إلى نصف قرن، بقيت «العربي» محتفظة بشكلها، وسياستها، وما ينشر فيها، إلى اليوم. وليس هناك من دليل أكثر من هذا على أنها كانت ناجحة منذ بداية صدورها.

 

محمود السمرة