الواحة...

الواحة...
        

          عدد قليل من المجلات الثقافية الشهرية، التي استطاعت أن تجذب القارئ، وتثير اهتمامه طوال نصف قرن، إنها قدرة فذة، أن تبقى كل هذا الوقت في ظل عالم يتغير بوتيرة سريعة.

          ولعل في قصة نشأتها، وطبيعة مادتها، وفي تجددها، ما يساعد على الإمساك بسرها، فقد تتابع على تحريرها شخصيات ثقافية من الوزن الثقيل.

          فلا تكمّل قصة مجلة العربي، إلا بحكاية كل من د. أحمد زكي وأحمد بهاءالدين، وكيف أصبحت «العربي» منبرًا لكل صاحب رأي، وأصبحت ملجأ آمنًا للمفكر عندما يتعرض للملاحقة والحصار.

          واضع اللبنة الأولى لهذا الصرح الثقافي، الذي نحتفل اليوم بمرور نصف قرن على صدور العدد الأول، هو د. أحمد زكي.

          ومثلت «العربي» اتجاهًا جديدًا في الصحافة الثقافية، تنبض سطورها بالحياة، وتواصل إشعاعها الثقافي منذ صدورها، وأثرت بمادتها الغزيرة والمتنوعة في مختلف مناحي الحياة العربية، وكانت قادرة على التجدد الدائم، ونقل ما يواكب العصر، فضلاً عن بعث الحي من التراث.

          وأكّدت «العربي» أن المجلة الرائدة هي التي تتميز بما تضيفه من أفكار، والتي تنبه إلى علوم تلبي حاجة النهضة ومطالبها، وتنشر الثقافة الرفيعة، وتطرح قضايا النهوض بالمجتمع.

          وقد ساهمت بالفعل في التكوين الفكري لأجيال وراء أجيال.

          وقدمت «العربي» فنًا جميلاً وجديدًا هو فن الخرائط وفن تبسيط المعلومات، وكان كل عدد من أعدادها نتيجة تحالف كلمات الكاتب وعدسة المصوّر وريشة الرسام.

          علاوة على أنها صديق أطول وفاء للقارئ تعايشه شهرًا كاملاً قبل أن تنضم إلى مكتبته، وتظهر عند حاجته إليها.

          اشترك د. أحمد زكي في تبويبها، ووضع سياستها التحريرية، واختار قطعها، واتجاهاتها الفكرية، واهتمامها الخاص بالعلوم، وهو أول عالم يرأس تحرير مجلة ثقافية، فكان رئيسًا لتحرير «الهلال»، عيّن في يناير 1947 وحتى نهاية 1950، ثم في سنتي 1957 و 1958.

          وجعل «العربي» منبرًا للعرب جميعًا، يذكر في افتتاحية العدد الأول في ديسمبر 1958: إن الكويت لـ «العربي» منزل، وجعلها جسرًا بين المدارس الفكرية المختلفة. ومن الإضافات المهمة لمجلة العربي، أنها جعلت العلم جزءًا من نسيج المجلة، وأخذ د. أحمد زكي يزن أبواب المجلة ويرتبها وينسّقها بتوازن جمالي واضح.

          واهتم بالشكل بعد أن تطورت فنون الطباعة والاتصال، وظهرت وسائل جديدة للجذب البصري، فلم يغفل تلك العومل، وأراح العين بالصورة والفراغ.

          ويضع كاتبنا صيغة موسوعية لتقديم الأدب والعلم والطب والفن، يأخذ من كل جانب بطرف، ويحرص على التوازن الدقيق بين القديم والجديد، وتعامل مع المجلة أداة تثقيف ومدرسة للقرّاء، يشرح مذهبه في دور المجلة الثقافية: إن تلميذ الطب تلميذ غالبًا عندما يتصفّح مقالاً في فلسفة الأديان. وأستاذ الطب تلميذ غالبًا عندما يتصفّح مقالاً في نفسية المراهق، وأستاذ التاريخ تلميذ غالبًا عندما يقرأ مقالاً في إنتاج الكهرباء أو في الذرة.. وهكذا.

          وشخصية د. أحمد زكي شخصية لا تتكرر، وشخصية يصعب تعويضها، فهو يجمع في توازن دقيق بين العلم والأدب، وهو أول عميد مصري لكلية العلوم عام 1936، وعضو المجمع اللغوي عام 1946، ومدير الجامعة المصرية عام 35، كما احتل قبل الثورة أعلى المناصب، واحتل منصب الوزارة، وساهم في إقامة المركز القومي للبحوث، وهو بلاجدال أحد رموز الثقافة العربية المرموقين. استقال من الجامعة بعد أزمة مارس 45، إما  احتجاجًا على الصدامات التي وقعت بين الطلبة والبوليس، وإما احتجاجًا على فصل عدد كبير من أساتذة الجامعة، منهم لويس عوض وعبدالعظيم أنيس، أو لعلها استحالة أن يتعامل مع وزير التعليم، كمال الدين حسين الذي لم يحصل على شهادة جامعية.

          ومن يومها وضع اسمه في القائمة السوداء.

          وفي حديث الذكريات، يروي أحمد السقاف، رحلته إلى القاهرة، واتفاقه مع د. أحمد زكي على تولي مسئولية مجلة العربي.

          قابل السقاف د. أحمد زكي في بداية عام 1958 في بيته في المعادي، بعد أن كان مرشحًا بين ثلاثة هم د. محمد عوض محمد وبشر فارس، ورجح الكثيرون د. أحمد زكي:

          أبلغت د. أحمد زكي بالفكرة، وأنه مشروع كبير، تقدمه الكويت هدية متواضعة للقارئ العربي في كل مكان، وخدمة للعلم والثقافة، ولا ترجو الكويت من ورائه أي مغانم.

          وطلب فرصة يومين للتفكير، وافق بعدها دون أن يساوم أو حتى يسأل عن الراتب.

          ويحكى في حديث الذكريات، كيف تم الاتفاق على شراء أرشيف صور دار الهلال نظير ألف جنيه، ثمنًا لأربعة آلاف صورة قام باختيارها د. أحمد زكي بنفسه. وصدرت مجلة العربي في مبنى مؤقت يطل على مياه الخليج بعد أن أقيم على عجل.

          خرج جيل د. أحمد زكي من عباءة ثورة 1919.

          ويذكر أنه كان مع مصطفى عبدالرازق ومنصور فهمي وأحمد أمين زملاء في مدرسة ثورة 19، وأنه ينتمي للمدرسة الليبرالية التي أقامتها ثورة 19.

          وأخذت أتساءل: لماذا تولى أحمد زكي رئاسة تحرير مجلة الهلال، ولم يكتب اسمه رئيسًا لتحريرها؟

          لقد واجه مصاعب جمّة، وعانى كثيرًا من تقلبات السياسة، بعد أن أخذت حكومة الثورة على المفكر الكبير أنه تولى الوزارة قبل الثورة، وأنه أحد السياسيين السابقين الذين لا تطمئن الثورة إليهم، وحسبت عليه مواقفه عندما كان مديرًا للجامعة ولم يقبل، لا فصل الأساتذة ولا تدخل الشرطة خلال أزمة مارس.

          كما أن أخاه محمد عاكف كان طيارًا خاصًا للملك فاروق بالرغم من أنه «لا تزر وازرة وزر أخرى».

          وعندما جاءه عرض مجلة العربي، كان قد بلغ الستين، وكان يريد أن يعيش في هدوء، وأن يتفرّغ للثقافة في واحة هادئة.

          وجاءته فرصة أن يسترد هدوءه، وأن يقدم لقرّائه ما يريد، وأن يفتح أمامهم آفاق العلم والمعرفة، بما توفره الكويت من واحة آمنة.

          وبعده رأس تحرير مجلة العربي أحمد بهاء الدين، بعد أن ضاقت به ظروفه السياسية والصحية، فكم من المفكرين يدفعون غاليًا ثمن مواقفهم والظروف السياسية في بلادهم.

          ويحكي أحمد بهاء الدين في أوراقه ما جرى:

          «في أوائل سنة 1975، بدأت توجهات سياسية جديدة في البلاد، مع تزاحم المشكلات عندما كنت رئيسًا لتحرير الأهرام، وأصبت بجلطة دماغية، وطلب مني ألا أبرح الفراش شهرين، وأمضيت ما يقرب الشهرين منومًا في حجرة مظلمة لا أقابل فيها مخلوقًا».

          وقبلها نقل بصورة تعسفية من دار الهلال إلى روز اليوسف، ورفض تنفيذ هذا القرار، وعمل بالأهرام، ثم فصل مع نحو 120  صحفيًا وكاتبًا.

          يكمل بهاء: «نصحني الأطباء ألا أعود إلى عمل مرهق كرئاسة تحرير الأهرام في مرحلة بالغة الحساسية والتوتر والتعقيد.

          وأخذت ألح على الرئيس السادات البحث عن رئيس آخر للتحرير بعد أن قررت نهائيًا ألا أعود إلى هذا المنصب، ويكفي أن أعود كاتبًا لمقالات سياسية، مسئولاً عما يحمل توقيعي.

          وظل هذا الأخذ والرد يتكرر دون استجابة من الرئيس، وأنا لا أتعب من العمل الصحفي، بل أشعر في نهاية أي يوم بنشوة وراحة نفسية، وأظن أن هذا هو حال مَن يزاول عملاً يحبه».

          ويستعرض بهاء العوامل التي دفعته إلى الرحيل:

          «بدا أن الوضع الاقتصادي في البلاد بدلاً من أن يأخذ طريقه إلى تصحيح وتجديد وانفتاح مثمر، أخذ يتفكك تحت مطارق قوية، أجنبية ومحلية، وكأن المقصود هو مجرد تفكيك هذا الاقتصاد وتركه مبعثرًا عاجزًا عن الحركة، وليس المقصود إعادة صياغته تحت أي عنوان مفهوم، رأسماليًا كان أو اشتراكيًا أو مختلطًا.

          ويبدو أن هدف الموجة الجديدة إنهاء محاولة إقامة اقتصاد وطني يستطيع الوقوف على قدميه والتعامل مع الدنيا طبقًا لقواعد مقبولة، وإعادة هذا الاقتصاد إلى التبعية الكاملة للخارج، مما يذكّر بما حدث في أواخر عهد الخديوي إسماعيل، ثم تحت حكم اللورد كرومر والخديوي توفيق!

          وكنت أحار في فهم الظاهرة، هل هذا جزء من الثمن السياسي المطلوب دفعه لأمريكا حتى تساعد في فك الحبل من حول عنق مصر، وحول أي حاكم مصري، بالضغط على إسرائيل للانسحاب؟!، أم هو فساد يستشري ويجد فرصته في مرحلة انتقال؟!

          لا يريدون لمصر أن تقف على قدميها من جديد، ففي كل مرة وقفت على قدميها صارت هي العامل المؤثر في المنطقة، وأخذ غموض الرئيس يتزايد والمساحات التي لا أعرفها في فكره تتسع.

          وشعرت أن بقائي رئيسًا لتحرير الأهرام، إن كان قد صار صعبًا من الناحية الموضوعية المجردة، فإنه لن يلبث أن يكون مستحيلاً.

          وذهبت إلى العلاج في مستشفى البحرية الأمريكية، وفي أمريكا قال الأطباء إن نجاتك أمر لا يتكرر، وعليك أن تتجنب تكرارها، وقالوا لولا أنك صغير السن لطلبنا منك أن تتقاعد لأن مهنة الصحافة في منطقتكم لاشك قاتلة. واقترحوا علي أن آخذ إجازة لا تقل عن سنتين بشرط أن تكون خارج بلدي، وسألتهم: كيف؟

          قالوا: عش حياة هادئة مدة سنتين»!!

          كان هذا هو الموقف، عندما اتصل به الأستاذ عبدالعزيز حسين، وكرّر عليه دعوة الكويت لتولي رئاسة تحرير مجلة العربي.

          قائلاً: إن رئاسة مجلة ثقافية شهرية في بلد تعرفه هو أقرب تلبية لطلب الأطباء، ففيه البعد عن التوتر النفسي والعصبي.

          «ولم يكن هذا العرض هو الأول، فقد سبق وحمل إلي الأستاذ عبدالعزيز حسين خطابًا من الشيخ صباح الأحمد سنة 1972، عندما فصلنا الرئيس السادات من العمل الصحفي يعرض العرض ذاته...».

          وتسلم بهاء رئاسة تحرير مجلة العربي في أول يناير سنة 1976.

          ومثلت رئاسة تحرير مجلة العربي في الحالتين، مع د. أحمد زكي ومع أحمد بهاء الدين، الملجأ والمنقذ للمفكر من الحصار والقمع.

 

مصطفى نبيل