تخبئ الأرض شهادتها عمّا مرّ على سطحها ومضى لكن الأيام والعلم يكشفان عن الخبيئة الشهادة.
ظهرت بوادر اكتشاف البعد الحضاري لدولة الكويت في عام 1937 حين عثر بطريق المصادفة في جزيرة فيلكا على حجر نقشت عليه كتابة يونانية أطلق عليه اسم حجر سويتلوس، غير أن الكشف الفعلي والتنقيب الأثري العلمي بدأ عام 1958 حين عهدت دولة الكويت لبعثة دانماركية القيام بعمليات استطلاعية تبين فيها أن هناك تلالاً أثرية مهمة في جزيرة فيلكا يعود بعضها إلى الألف الثالث ق. م. الذي يعرف حضارياً بالعصر البرونزي.
وكما هو معروف، فإن أهمية أعمال التنقيب تنبع من إسهامها في الدراسات التي تبحث في منجزات الإنسان المتمثلة في المعالم الأثرية التي خلّفها على مر العصور، ووضع هذه المنجزات في إطارها البيئي والعقائدي والاجتماعي والاقتصادي، ومن ثم تكوين رؤية واضحة لتتابع تسلسل الأحداث التاريخية ، مما يساعد على كتابة تاريخ الشعوب أو مراجعته أو تصحيحه بالاستناد إلى أسس مادية سليمة، وبذلك زودتنا الحفريات الأثرية في دولة الكويت بمكتشفات ألقت ضوءاً على حياة الإنسان الذي عبر هذه الأرض، أو سكنها واستقر فيها.
ومنذ أواخر الخمسينيات ومطلع الستينيات من القرن العشرين، عمدت دولة الكويت بدعمها المادي والمعنوي إلى تكوين فريق آثاري كويتي، يشارك مع بعثات عربية وأجنبية متخصصة بالمسح وبالكشف الأثري، حيث قاموا ومازالوا يقومون خلال مواسم سنوية، بالبحث عن الآثار بأرض الكويت عامة. وبجزيرة فيلكا بوجه خاص.
ثم توافدت إلى دولة الكويت بعثات آثارية من أقطار عديدة شملت، بالإضافة إلى البعثة الدانماركية سالفة الذكر، بعثات من الولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا والمملكة الأردنية الهاشمية وبريطانيا وفرنسا.
قامت البعثات الأجنبية بكتابة التقارير، وبإصدار الكتب والدراسات عن نتائج حفرياتها.
مؤشرات الاستقرار
أسفرت عمليات التنقيب الأثري التي تم إجراؤها منذ البداية حتى اليوم، عن عدة مواقع أثرية مهمة، اشتملت على أدوات صوانية وحجرية وأخرى فخارية وزجاجية وبرونزية، إضافة إلى المباني المعمارية. وتنتمي هذه الآثار المكتشفة إلى مراحل تاريخية متفاوتة تبدأ بالعصور الحجرية، مروراً بعدد من الحضارات، إلى أن تصل إلى عصور الحضارة الإسلامية، أي أنها تمتد على مدى زمني يقارب الثمانية آلاف سنة.
عثر حول برك القار في حوض برقان، جنوب دولة الكويت على صوانيات من العصور الحجرية، وهي عبارة عن أدوات صوانية اشتملت على رءوس سهام وسكاكين ومكاشط للخشب وجلود الحيوانات، كما عثر على المزيد من هذه الأدوات في موقع تل الصليبخات قرب مدينة الكويت بالإضافة إلى تلال القرين، وتؤلف هذه الصوانيات أقدم المكتشفات في دولة الكويت.
بعد مرحلة التجوال، ظهرت مؤشرات بسيطة من الاستقرار الحضاري كانت موسمية الطابع، وذلك في فترة حضارة العبيد (الألفين الخامس والرابع ق . م.) حيث عثر في موقع بمنطقة الصبيّة في بر الكويت، إضافة إلى الأدوات الصوانية وأثقال شباك الصيد، على كسر فخارات مميزة لهذه الحضارة، التي وجد منها أيضاً في أكثر من خمسين موقعاً في البحرين، وعلى امتداد ساحل الخليج العربي الغربي، ابتداء من شمال المنطقة الشرقية من شبه الجزيرة العربية حتى دولة الإمارات، يؤكد هذا الانتشار على التواصل الحضاري بين سكان منطقة الخليج العربي منذ أقدم الأزمان.
تعود أدلة الاستقرار الحضاري الدائم في الكويت إلى العصر البرونزي (الألفين الثالث والثاني ق. م.)، وقد جاء معظم هذه الأدلة، حتى الوقت الحاضر، من جزيرة فيلكا التي تبعد حوالي 20كم عن بر الكويت، وجاء النذر اليسير من جزيرة أم النمل الصغيرة القريبة جداً من بر الكويت.
أجمع الآثاريون على تسمية الفترة الأولى من هذا العصر (البرونزي) في الخليج العربي "حضارة دلمون"، وتبدأ في الكويت، حسب الشواهد الأثرية المتوافرة لدينا حتى الآن بعد 2200 ق. م. وتنتهي في العصر الكاشي في القرن الخامس عشر ق. م.
عرفت منطقة الخليج العربي في هذا العصر اسم دلمون، وقد أجمع معظم الباحثين والآثريين والمؤرخين على أن جزيرة فيلكا كانت أحد مراكز حضارة دلمون التي ضمت في الألفين الثالث ومنتصف الثاني ق. م. كلا من البحرين، كمركز رئيسي، وساحل الجزيرة العربية الشرقي (الإحساء والقطيف). ونجد بين هؤلاء المؤرخين والآثار بين من يمد حدود هذه الحضارة جنوباً إلى قطر والإمارات، وحتى حدود عمان الشمالية.
استطاعت "دلمون" بما فيها جزيرة فيلكا، أن تلعب دوراً بارزاً في تاريخ الحضارات المتعاقبة التي شهدتها المنطقة منذ أقدم العصور التاريخية، وذلك بفضل موقعها على امتداد الساحل الغربي من الخليج العربي، وبفضل مركزها كإحدى المحطات على الطريق البري الممتد من قلب الجزيرة العربية عبر ثاج وادي الرافدين فسوريا، حيث كانت صلة الوصل بين حضارات الشرق القديمة (موهجودارد، وهارابا- الباكستان) وحضارات الغرب (إيبلا- شمال غرب سوريا) عبر جنوب وادي الرافدين، واستمر هذا الدور بين انتعاش وركود منذ الماضي البعيد في الألف الثالث ق. م.
وقد ردت إشارة لـ "دلمون" في نهاية الألف الرابع قبل الميلاد في نصوص الوركاء العتيقة التي عثر عليها في أحد معابد المدينة، والتي أرخت بـ 3200- 3000 ق. م.، حيث ظهرت علامة دلمون في القوائم اللغوية والاقتصادية، وفيما بعد ، ذكرت دلمون في الكتابات المسمارية مقترنة بأسماء مواد وبضائع مختلفة مثل "فأس دلمون" ، "نحاس دلمون" وغير ذلك، ثم تكرر ورود الاسم في هذه الكتابات المدونة على رقم طينية اكتشفت في مدن جنوب بلاد الرافدين. فمنذ منتصف الألف الثالث وحتى منتصف الألف الثاني يرد الاسم في قوائم تصدير واستيراد مثل "نحاس دلمون" و "كتان دلمون"، و "قار دلمون" وغير ذلك من السلع. كما جاء أيضاً أن سفن دلمون في العصر الأكادي (حوالي 3250- 3150 ق.م.)، كانت تصل ميناء أكاد وترسو فيه.
ظلت هذه الحركة التجارية نشطة، إذ واصلت سفن دلمون تموين مدينة لاجاش بوادي الرافدين بالأخشاب.
وذلك حسب ما جاء في نقش على تمثال للملك جودي حاكم مدينة لاجاش (حوالي 2060 ق.م.).
تشير النصوص أيضاً إلى أن هذا النشاط قد امتد شمالاً، حيث اتجهت قوافل تجارية دلمونية فبلغت مدينة ماري (تل الحريري)، شرقي سوريا على نهر الفرات، وذلك حسب ما أشارت إليه محفوظات القصر بهذه المدينة من تبادل تجاري كان قائماً بينها وبين دلمون. ويستدل من نصوص رقم طينية أخرى، أن نشاط دلمون التجارية قد امتد إلى أبعد من هذه الحدود، فوصل مدينة إيبلا الواقعة في الشمال الغربي من سوريا، حيث نجد اسم دلمون قد اقترن، إضافة إلى النحاس و القصدير الدلموني بـ"قيثارة دلمون" وبـ"شجرة دلمون" التي قد تكون شجرة النخيل، هذا إلى جانب استخدام مدينة إبيلا لوحدة وزن تسمى "شيقل دلمون".
هذا ما أوردته الشواهد الكتابية المكتشفة خارج حدود دلمون عن حضارتها وازدهارها الاقتصادي والتجاري.
أما الشواهد المحلية فهي كثيرة في منطقة دلمون ذاتها، سواء كانت في البحرين أو المنطقة الشرقية أو في جزيرة فيلكا ومن الشواهد التي تخص الكويت وتؤكد على أن جزيرة فيلكا كانت جزءاً لا يتجزأ من الحضارة الدلمونية العريقة، تلك النقوش الكتابية المحفورة على قطع وأختام من الأحجار شبه الكريمة كالعتيق وغيره، وعلى كسر من الحجر الصابوني والفخار التي عثر على كسرة إناء من الحجر الصابوني تحمل عبارة "إله دلمون". "الإله إنزاك"، ونقش يذكر "معبد إنزاك" عثر عليه عند أطلال المعبد في المدينة الدلمونية في موقع فيلكا 3 (F3) محدداً هوية المعبد وتاريخه بعصر دلمون، حيث إن الإله "إنزاك" هو لقب الإله الذي ارتبط بأرض دلمون وذلك استناداً إلى نصوص عقائدية وأسطورية من وادي الرافدين.
منذ 2000 قبل الميلاد
تجدر الإشارة هنا إلى أن معظم النصوص التي ورد فيها اسم الإله "إنزاك" كشف عن 90% منها، على الأقل، في جزيرة فيلكا.
هذه النماذج من الأدلة الأثرية الملموسة تشكل أساساً للمقولة بأن فيلكا كانت أحد المراكز الحضارية في المنقطة التي عرفت باسم دلمون.
تركزت مستوطنات هذه الحضارة، العصر الرونزي، في جزيرة فيلكا في الزاوية الجنوبية الغربية من الجزيرة في كل من التلين الأثريين فيلكا 3 (F3) وفيلكا 6 (F6)، اللذين يقعان بالقرب من الشاطئ، وقد تعاقبت عليهما فترات سكنية عدة منذ حوالي 2000 وحتى 1200 ق. م. تقريباً ، تظهر في F6 وبخاصة موقع "قصر الحاكم" أولى مراحل الاستيطان في الجزيرة التي تعود إلى بداية الألف الثاني ق. م. ، وقد أكد ذلك ما عثر عليه من جرار فخارية حمراء تماثل ما عرف بفخاريات دلمون المبكرة أو فخاريات بربار، التي عثر عليها في موقع قلعة البحرين في معبدبربار في المدينة الثانية التي تعود إلى بداية الألف الثاني ق. م . كشف في هذا التل (F6) أيضاً عن مبنى كبير أطلق عليه اسم "قصر الحاكم" وهو مكون من مقدمة القصر التي تضم غرفاً يحتمل أنها استخدمت للاستقبال والإدارة. أما القسم السكني فيقع في الجزء الخلفي من القصر، ويتكون من فناء أو ساحة تحيط بها غرف يبدو أنها استخدمت للسكن والتخزين، حيث كشف عن مستودع مليء بجرار تخزين متوسطة الحجم يصل عددها إلى ما يقارب السبعين جرة، ووجد بالقرب من الموقع أحواض لصهر المعادن وما تبقى فيها من خبث تخلف بعد عمليات صهر المعادن، مما يشير إلى قيام صناعة معدنية في هذا العصر.
وجدت في تل آخر في جزيرة فيلكا، وهو (F3) بقايا استيطانية أطلق عليها اسم "المدينة الدلمونية"، حيث كشف عن آثار مبان سكنية مشيدة من الحجارة البحرية المحلية استخدم فيها الطين كمادة رابطة. أما الآثار المنقولة التي تعود إلى "حضارة دلمون" في العصر البرونزي، فمن أهمها الكمّ الكبير من الأختام الذي بلغ حوالي الستمائة ختم من طراز الأختام الدائرية الشبيهة بشكل الزر المقبب من الخلف والتي تميزت بها أختام الخليج، وأطلق عليها الآثاريون اسم أختام دلمون. وتعبر هذه الأختام، مع فخار بربار الأحمر، من أهم العناصر المميزة لحضارة دلمون.
وتعبر هذه المجموعة التي وجدت في فيلكا من أكبر المجموعات التي عثر عليها في العالم.
ومما يشير إلى أن الغالبية العظمى قد صنعت محلياً وجود عدد كبير منها خال من الزخارف بانتظار زخرفتها على أيدي الصنّاع المحليين، هذا إلى جانب العثور على أدوات الحفر الخاصة بالقرب من الأختام. تشير هذه الأختام إلى رقي المجتمع في دلمون الذي وضعت فيه أسس تنظيم الحياة الاجتماعية والاقتصادية، بما فيها من المعاملات والعقود التجارية المبرمة محلياً وخارجياً، فقد استخدمت لختم الممتلكات الخاصة وختم العقود والبضائع التجارية.
كما يشير إلى ازدهار دلمون وتواصلها مع الحضارات المحيطة وجود أختام اسطوانية تمّيزت بها حضارة وادي الرافدين وبعض المناطق السورية، وأختام مربعة تمّيزت بها حضارة وادي السند.
من بين اللقي التي عثر عليها في مواقع العصر البرونزي في فيلكا، عدا الأختام والفخاريات، كسر من أواني الحجر الصابوني، وأدوات نحاسية وأخرى برونزية كالتماثيل الصغيرة ورءوس الرماح والتروس وأدوات الحفر والصنابير والدبابيس والإبر والملاقط. وكان النحاس الخام يستورد من عمان (ماجان) التي وجدت فيها معظم المناجم إذ كانت تصدّره إلى المناطق الحضارية المجاورة والبعيدة.
وعلى الرغم بما لحق بتجارة دلمون الدولية المزدهرة من التدهور فيما بعد، فقد استمرت التجارة المحلية بين المراكز الرئيسية في المنطقة قائمة.
وظلت حضارة دلمون هي السائدة في المنطقة حتى حوالي منتصف الألف الثاني ق.م . (1500 ق . م.) حين تغيرت الصورة الحضارية في جزيرة فيلكا آنذاك أثناء اتصالها بالحضارة الكاشية ما بين القرن الخامس عشر- والقرن الثالث عشر ق . م . ، وفي هذه الفترة، نشطت أعمال البناء بعد ذلك التدهور المرحلي الذي أصابها.
فشيّدت بيوتا سكنية فوق البيوت القديمة حسب طرز معمارية تختلف عن طرز البيوت السابقة، ولم يقتصر التغيير الحضاري في الفترة الكاشية على العمارة فقط، بل مس أيضاً صناعة الأختام حيث قل استخدام الأختام الدلمونية الدائرية المنبسطة المميزة لأختام الدلمونية الدائرية المنبسة المميزة لأختام الخليج، وساد استخدام الأختام الأسطوانية. وعلى الرغم من هذا التغير في صورة الحضارة، فقد رمم المعبد الدلموني بتقوية جدارنه، وظل الإله إنزاك، كما كان عليه سابقاً، كبير آلهة دلمون، وحوالي 1200 ق . م. هجر السكان المستوطنة فجأة مخلفين وراءهم العديد من الأواني الفخارية إلى جانب سلع أخرى.
شهادة الإسكندرية وبطليموس
ذكر المؤرخ أريان (حوالي 170م)، نقلاً عمن سبقه أن الإسكندرية أمر أن يطلق اسم "إيكاروس" على جزيرة فيلكا، تيمّناً بجزيرة إيكاروس الإغريقية الأصلية الواقعة في بحر إيجه. وقد ذكر الجغرافي بطليموس (100- 178م) جزيرة إيكارا (أي إيكاروس) ضمن الجزر الواقعة في الخليج.
ورد أقدم ذكر لـ"إيكاروس" عند المؤرخ سترابو، الذي كتب في نهاية القرن الأول ق. م. مستقيا معلوماته من الجغرافي إيراتوشنيس الذي عاش في القرن الثالث ق. م. اعتمد إيراتوشنيس على ما جاء عند إيراتوشنيس الذي كان قد أرسله الإسكندر مع أسطوله إلى الخليج، حيث ذكر ملاح السفينة أنه رأى جزيرة إيكاروس والمعبدين الموجودين عليها. جاء بعد سترابو المؤرخ بليني الكبير (توفي 79م) وأخذ معلوماته عن إيكاروس من الحملة التي أرسلها الحاكم السلوقي أنطيوخوس الرابع إلى الخليج في نهاية حكمه حوالي 165 / 164 ق. م.
حين كتب المؤرخ أريان (حوالي 170م) عن حملات الإسكندر التي أرسلها إلى الخليج (وذلك بعد مضي حوالي 500 عام على تلك الحملات)، ذكر أن جزيرة إيكاروس (فيلكا) كانت مغطاة بمختلف الأشجار، وأنها كانت مرعى للماعز البري والغزلان التي حرّم صيدها، لأنها كانت تقدم قرابين للإلهة أرتمبس في الهيكل المكرّس لها على الجزيرة.
وفي نهاية القرن الثالث للميلاد، أعاد الفيلسوف إيليان وصفاً مشابهاً للوصف أعلاه المتعلق ببيئة جزيرة إيكاروس الطبيعية وبمعتقدات أهلها الدينية.
تركز الاستيطان خلال العصر الهيلينستي في بعض مناطق العصر البرونزي في مواقع تل الخزنة F5 ، وتل F6 ، وموقع B6 في تل F4 ، وبالقرب منها عثر في جزيرة فيلكا على آثار قلعة مربّعة تعود إلى الفترة الهلينستية (330- 150 ق. م.) وهي محصّنة عند زواياها الأربع بأبراج، ولها بوابتان، وكشف في داخلها عند معبدين أ ، ب. بني المعبد"أ" أو الهيكل على الطراز الإغريقي من حجر ذي سطح مستو، ويكتفه عمودان يمثل تاجاهما طرازاً غريباً وهو الطراز الأيوني الإغريقي، وتمثل قاعدتهما طرازاً شرقياً هوالطراز الأخميني الفارسي . وقد وجد أمام هذا المعبدلوح حجري منقوش عليه نص كتابي يوناني ورد فيه اسم الجزيرة "إيكاروس"، ومن ثم أطلق عليه الآثاريون اسم "حجر إيكاروس"، تكمن أهمية الحجر بالنسبة لعلماء الآثار والتاريخ في نصّه الصريح الذي دل على أن إيكاروس هي جزيرة فيلكا، والنص عبارة عن خطاب موجّه من إيكاديون (قد يكون حاكم سوسة السلوقي) إلى انكزارخوس (الذي ربما كان حاكم جزيرة إيكاروس)، الذي أصدر تعليماته بنقش الخطاب الذي تسلّمه على حجر ونصبه أمام المعبد ليقرأه سكان جزيرة "إيكاروس".
يتضمن النقش الكتابي تعليمات بنقل معبدالآلهة أرتميس من مكانه، وإقامة مسابقات رياضية وثقافية وغير ذلك من الأمور المتعلقة بحق ملكية الأراضي الزراعية وإعفاء المزارعين من الضرائب، وعدم السماح لهم بتصدير محاصيلهم خارج الجزيرة، بل وتخزين الفائض منها احتياطياً لمواجهة أي نقص غذائي مفاجئ.
إن مثل هذه المعلومات والقوانين لا تصدر، دون شك، إلا في مجتمع حضاري مستقر، خاصة أن الكشف الأثري أسفر عن آثار مبان سكنية بالقرب من المعبد الهلينستي، وعن مبنى آخر متعدد الغرف يعتقد في الغالب أنه مصنع لعمل التماثيل الطينية المشوية إذ عثر بداخله على قوالب طينية قديمة تستخدم في صنع تماثيل ذات أنماط شائعة في العالم الهلينستي، هذا إضافة إلى صنع الجرار الفخارية بمختلف الأشكال والأحجام. ومما يشير أيضاً إلى الاستقرار والازدهار الذي تمتعت به إيكاروس، مجموعة من القطع النقدية اليونانية القضية التي عثر عليها مدفونة عند الجدار الخارجي للمعبد"أ" ، وعددها ثلاث عشرة قطعة من فئة الأربع درخمات، تعود إلى عهد أنطيوخوس الثالث السلوقي الذي حكم ما بين 223- 187 ق. م. .
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هناك المزيد من المواقع الأثرية التي تعود إلى الفترة الهلينستية في كل من جزيرتي عكاز وأم النمل القريبتين من مدينة الكويت.
ولابد لنا، ونحن بصدد هذه الفترة التاريخية، أن نذكر بأول أثر عثر عليه بطريق الصدفة عام 1937، وهو حجر سوتيلوس الذي يحمل نصّاً كتابياً يونانياً، موجهاً من المواطن الأثيني سوتيلوس إلى الآلهة أرتميس والإلهين زيوس (والدها) وبوسيدون (إله البحر والمياه العذبة) المخلصين، ويرجع تأريخه إلى ما بين القرن الرابع وأوائل القرن الثالث ق . م.
آثار من العصر الهلينستي
لقد نقل الإغريق كثيراً من ملامح حضارتهم إلى المستوطنة القلعة في جزيرة فيلكا، كما فعلوا في سائر البلاد التي افتتحوها وأقاموا فيها. ويظهر ذلك بوضوح في العناصر المعمارية الموجودة في المعبد، وفي القطع النقدية التي مرّ ذكرها، إلى جانب أشكال الجرار الفخارية وقسمات الوجوه في التماثيل الصغيرة وغير ذلك.
منذ البدء بحركة الاستكشاف الأثري في جزيرة فيلكا وبر الكويت، وحتى عهد قريب، لم يعثر المنقبون على أي أثر لهياكل عظمية آدمية مما أثار تساؤلات كثيرة حول مصير جثث الموتى هناك، فمنهم من اعتقد بأن الجثث كانت تلقي في البحر أو أنها كانت تنقل إلى البحرين لتدفن هناك، وذلك لكثرة ما وجد في البحرين من مدافن جعلت منها إحدى أكبر المقابر الأثرية في العالم. لكن تم الكشف أخيراً، أثناء الحفريات التي أجريت في مواسم أعوام 1984- 1988 ، عن هياكل عظمية آدمية للمرة الأولى في الكويت، حيث عثر في جزيرة فيلكا على اثني عشر هيكلاً عظيماً آدمياً. وجدت هذه الهياكل العظيمة التي تعود، على ما يبدو، إلى العصر الهلينستي، بين أنقاض بناء عام يرجع إلى العصر البرونزي ويقع في تل F6 ، ويبعد حوالي مائة متر عن الموقع الهلينستي في تل F5 . وجد أحد هذه الهياكل العظمية داخل جرة تعود إلى ما بين القرنين 8- 7 ق. م.، ووجدت الهياكل العظمية الأخرى في قبور فردية وأخرى جماعية.
أسفرت الحفريات من العصور السابقة لفجر الإسلام، عن مستوطنة في جزيرة عكاز تعود إلى العصر الفرثي (250 ق .م .- 226م) حيث كشف عن أساسات من صخور البحر وجدران من الطين واللين وكسر فخارية. كما عثر على تماثيل صغيرة وكسر فخارية من العصر الساساني (226- 637 للميلاد) في موقع تل الخزنة في جزيرة فيلكا، وكشف أيضاً في موقع القصور وسط الجزيرة على أساسات كنيسة طرازها شبيه بطراز الكنائس الشرقية، وعلى لوحتين حصيتين ظهر الصليب ضمن نقوشهما. يرجع البعض تاريخ الكنيسة إلى ما بين القرنين الخامس والسادس للميلاد. ولقد عُثر أخيراً على أساسات كنيسة صغيرة في جزيرة عكاز تعود إلى الفترة الإسلامية.
تشير المخلفات الأثرية والنصوص الكتابية على مدى العصور الإسلامية وحتى وقتنا الحاضر إلى استمرار الكويت في المحافظة على حضارتها ومركزها التجاري الذي تبوأته منذ حوالي أربعة آلاف عام.