من المكتبة الأجنبية: السوق الحمراء

من المكتبة الأجنبية: السوق الحمراء

عرض: د. محمد المنسي قنديل**

هذا الكتاب هو حصيلة تحقيق صحفي استمر على مدى خمس سنوات، تنقل فيه كاتبه بين العديد من البلدان، ويتتبع أثار تجارة بدأت حديثا في الازدهار، ولكنها خفية ومرعبة، أطرافها عصابات لا تعرف الشفقة، وعيادات مجهزة بأحدث التقنيات، وزبائن من الطبقات العليا، ويأخذ الكتاب القارئ في رحلة مرعبة إلى الأماكن التي تتم فيها هذه التجارة وينفق من أجلها ملايين الدولارات، وقد فاز مؤلف هذا الكتاب «السوق الحمراء» الصحفي الأسكتلندي سكوت كارني بجائزة بوليتزر الأمريكية التي تخصص لأفضل عمل صحفي يكشف عن وقائع حقيقية.

إنها سوق جديدة لم نعهدها من قبل، ولكنها آخذة في الانتشار وعابرة للحدود، ومثلما تدل السوق السوداء على الاتجار في البضائع غير القانونية كالسلاح والمخدرات، فإن تعبير السوق الحمراء يدل على الاتجار في اللحم البشري: الكلى، الكبد، القلب، القرنية، الدم، العظم، وحتى بويضات الإخصاب، تجارة بعيدة عن الحياة الواقعية، مثل أفلام الرعب، تذكرنا برواية الكاتب الياباني كازيو اشيجورو «لا تتركني أرحل» (2005) وهي تصور مستعمرة سرية يتم فيها استنساخ الأطفال ليكونوا مصدرا للأعضاء البشرية، ولكن التفاصيل الواقعية في الحقيقة مثيرة للغثيان أكثر من الرواية، فهي تشمل خطف الأطفال، وبيعهم للأغنياء القادرين، وتمتد إلى بيع الدم، واستئصال الكلى، وتجميد البويضات المخصبة.

تجارة العظام

وقد واتت المؤلف فكرة هذا الكتاب عندما كان يقيم في الهند، وقرأ في الصحف أن الشرطة هاجمت مزرعة في مدينة صغيرة على الحدود، وحررت 17 شخصا كانوا مسجونين فيها، وكان يتم سحب الدم منهم مرتين أو ثلاثًا أسبوعيا لتوفير كميات لا بأس بها للمستشفيات في المدن الكبرى، وعلى الفور سافر ستيوارت لهذه المنطقة، وعقد صداقة مع مسئولي الأمن هناك ليحصل على المزيد من المعلومات، وقال له أحدهم إنهم يضبطون كل يوم العديد من البضائع المهربة، وأخذه إلى غرفة جانبية ليريه عينة من هذه البضائع، يقول المؤلف: «كنت أعتقد أنني سأجد فيها بعض المخدرات أو السجائر أو الخمور، ولكني وجدت الغرفة حافلة بكل أنواع العظام البشرية، سيقان وأذرع وجماجم، وعرفت فيما بعد أن بعض المزامير التي تشارك في الطقوس الدينية، لا تصنع إلا من هذه العظام»، من هذه الواقعة بدأ يمسك خيوط هذه التجارة الغربية.

فعلى مدى 200 عام كانت كل العظام التي تتوافر للدراسة في كليات الطب المختلفة في أمريكا وأوربا قادمة من الهند، وهناك عصابات منظمة من حفاري القبور في البنغال الغربية، يقومون بتعرية العظام من بقايا العضلات العالقة بها، يقتحمون المقابر وينبشونها ويستخدمون الأطفال لإتمام هذا العمل، وعن طريق وكلاء متخصصين لهم يستطيعون بيعها لأي كلية طب تحتاج إليها، ولا تتوقف التجارة في الهند على هذه البضاعة الجامدة، ولكنها تمتد للأعضاء الحية، فهناك معسكر للاجئين الذين ضربهم إعصار «تسونامي» وحطم بيوتهم في عام 2004 يطلق عليه «كيدني فاكام»، أو مدينة الكلى، لأن، تقريبًا، كل واحد من السكان الذين يعيشون في هذا المعسكر قد قام ببيع واحدة من كليتيه، وفي العادة تتكلف تجهيز الكلية الواحدة حوالي 3 آلاف دولار، لا يصل منها لصاحبها إلا أقل القليل، ولكنها أفضل من لا شيء، فبالنسبة لهؤلاء الناس الذين فقدوا كل ما كانوا يملكونه لم يبق لهم إلا بيع أعضائهم الحية، هذا هو الخيار الوحيد المتاح لهم.

اتجاه واحد

تكون هذه التجارة شبكة التواصل الحرجة التي تسود العالم، فبعض الناس يتشاركون في أعضاء آخرين لم يعرفهم ولم يرهم قط، ومن الغريب أن يتم التواصل بين البشر الذين تفرقهم الثقافات والحدود بهذه الطريقة، ولكن خطورة هذا الأمر أن القوانين والإجراءات في العديد من دول العالم أقل شأنا من أن تقاوم هذه التجارة الواسعة الانتشار، كما أن القيم الخاصة بالأفراد خاصة الأغنياء منهم لم ترتق لمرحلة عدم الاستفادة من هذه التجارة والتصدي لها، و تقول إحصاءات منظمة الصحة العالمية إن 10% من حركة نقل الأعضاء حول العالم تتوافر من تجارة السوق الحمراء، حتى في أرقى المستشفيات تمسكا بأخلاقيات المهنة، ومن المؤكد أن ما رصدته منظمة الصحة هي نسبة متواضعة للغاية، فحركة هذه التجارة أكثر اتساعا من كل الأرقام المعلنة، وهي تحقق ربحا أكثر من أي بضاعة أخرى، وقد أثرت العولمة والتقدم التكنولوجي في ازدهارها بدرجة كبيرة، وأصبح نقل الأعضاء يتم بسرعة وتوافرت طرق الاستئصال والأجهزة التي تساعد على الاحتفاظ بها في حالة جيدة. مما ساعد على تضخم هذه التجارة، يقول الكاتب: «إن للسوق الحمراء، جانبها الاجتماعي القذر، فاللحم يتجه دائما للطبقات العليا، ولا يهبط أبدا للطبقات السفلى من المجتمع، وحتى إذا لم تكن هناك محرمات قانونية، فإن المستفيدين من هذه السوق يبدون مثل مصاصي الدماء الذين يظهرون على شاشة السينما، يمتصون الصحة والقوة من الأكثر فقرا بسبب ثرائهم».

سياحة الإخصاب

ويمتلئ الكتاب بالقصص المرعبة عن العديد من الأفراد اليائسين والمحبطين الذين يضحون بأعضائهم الحيوية من أجل حفنة من الدولارات، وهي نقود تظل عاجزة عن تغيير مسار حياتهم المحتوم، وعلى سبيل المثال، ففي قبرص توجد واحدة من أشهر عيادات الإخصاب في أوربا، وهي تستعين بالبويضات التي تستخرجها من المهاجرات الشابات من أوربا الشرقية، وهن يسعين لبيع البويضات بأي سعر، وأحيانا يتم استئصال المبيض بأكمله، لا يتقاضين أكثر من مائة أو مائتي دولار، بينما يدفع الزبون في مقابل العملية مبلغا يتراوح بين 8 إلى 14ألف دولار، ورغم ذلك فإن عيادات قبرص هي الأقل سعرا عن مثيلاتها في أوربا وأمريكا بحوالي الثلث، كما أن العولمة قد خلقت مايمكن أن نطلق عليه «صناعة سياحة الإخصاب» خاصة إلى الهند، يقول المؤلف: «لقد تم الإعلان في عام 2002 عن القيام بعمليات قانونية كنوع من تنشيط السياحة الطبية»، ففي عيادة «أكانكاشا» للإخصاب، وقد تم إلقاء الضوء عليها في برنامج «أوبرا» الشهير يقوم وكلاء محليون بتوفير عمليات التخصيب للنساء الراغبات في الحمل في سرية تامة، ويتم زرع البويضات في الرحم دون أن تعرف المصدر، ولكن السيدة تكون متأكدة أنها من نوع جيد، وقبل الهند كان هذا الأمر قاصرا في أمريكا على الطبقات العليا فقط، ولكن مع انتشار هذه العيادات الهندية، وتدني التكلفة أصبح في إمكان الطبقات الوسطى الاستفادة أيضا.

حكومات مدانة

ولكن هل تقتصر هذه التجارة على الأعضاء الخارجين عن القانون، أم أن هناك بعض الحكومات متورطة في هذا الأمر؟ من المؤكد أن جماعات المتمردين على الحكومات تشارك في هذه التجارة، وقد بنت بعضها عيادات خاصة بها داخل الأدغال، وهي تستغل الأعضاء المنتزعة من الفلاحين من القرى الواقعة تحت سيطرتها، وهذه التجارة بجانب المخدرات تعد مصدرا مهما للأموال اللازمة لشراء الأسلحة، ولكن الأمر ليس بعيدا عن الحكومات، فقد أطلق دافيد كليجور عضو البرلمان الكندي، صيحة تحذير عالية في عام 2006عندما تشارك مع محامي حقوق الإنسان «دافيد ماتس» في إعداد تقرير موثق حول تجارة الأعضاء البشرية التي تنتشر في أمريكا الشمالية ومصدرها الصين في أغلب الأمر، وهي أعضاء حيوية ومرتفعة الثمن، مثل الكلى والكبد وقرنية العين والقلب، ويتم حصدها وجمعها على نطاق واسع من أفراد جماعة واحدة هي «فالن جونج» وهي جمعية روحية تحظر الصين أنشطتها، ومن يثبت عليه الانتماء إليها تقوم بإعدامه على الفور، ولا يمكن الجزم أن الحكومة الصينية تسعى وراء هذه الجماعة من أجل أعضائها الحيوية فقط، ولكن يبدو أنها اكتشفت في السنوات الأخيرة ومع نمو التجارة الصينية مع العالم، أن الاتجار بأعضاء هذه الجماعة طريقة مؤكدة للتخلص منهم وللتربح في الوقت ذاته، لذلك يتم إعدام الشخصيات البارزة من هذه الجماعة بأعلى التقنيات، وداخل مستشفيات عالية التجهيز، بحيث يتم المحافظة على أعضائهم سليمة ومبردة، ويقال إن العديد من الشخصيات الرسمية في الحكومة الصينية قد استفاد من هذه الأعضاء.

مثل الكثير من القضايا الشائكة في عالمنا المعاصر، هل يمكن أن نطرح الأسئلة حول الجوانب الأخلاقية لهذه التجارة، أم أنها مثل غيرها تخضع لعوامل العرض والطلب، إن هناك العديد من الأنشطة القذرة تدور في كواليس عالمنا، ولا تقل تجارة السلاح أو المخدرات في قذارتها عن هذه التجارة، ولكن هناك إحساسًا عامًا أن السوق الحمراء هي أكثرها خسة، لأنها تجارة ذات اتجاه واحد يدفع الفقراء ثمنها من أجسادهم وتجعلهم واقفين على حافة الموت إذا لم تكن سببا في قتلهم.
----------------------------------
* صحفي تحقيقات أسكتلندي
** كاتب من مصر

------------------------------------------

قُومي إذَا نَامَ الخَلِيُّ
فأبِّني عَوْفَ الفَواضِلْ
عَوْفَ الفَوَارِسِ وَالمَجَا
لِسِ والصَّوَاهلِ والذَّوابلْ
يا عَوْفُ أحْلَمَ كلِّ ذي
حلمٍ وأقولَ كلِّ قائِلْ
يا عَوْفُ كنتَ إمَامَنَا
وبَقِيّةَ النَّفَرِ الأوائِلْ

لبيد

 

تأليف: سكوت كارني