مع سور القرآن الكريم.. تأملات في سورة "آل عمران"

مع سور القرآن الكريم.. تأملات في سورة "آل عمران"

يواصل فضيلة الإمام الأكبر رحلته القرآنية، فيلقي الضوء على بعض ما في سوره من دروس وتوجيهات إيمانية.

1- سوره " آل عمران" هي السورة الثالثة في ترتيب المصحف، إذ تسبقها في الترتيب سورتا الفاتحة والبقرة، وتبلغ آياتها مائتي آية، وهى مدنية باتفاق العلماء.

وسميت بسورة (آل عمران) لورود قصة آل عمران فيها ، بصورة فيها شيء من التفصيل الذي لا يوجد فى غيرها. والمقصود بآل عمران: عيسى، ويحيى، ومريم، وأمها، والمراد بعمران : والد مريم الذي ينتهي نسبه إلى سيدنا إبراهيم، وقد ذكر العلماء أسماء أخرى لهذه السورة الكريمة منها :

أ- أنها بسورة "الزهراء" لأنها كشفت عما التبس على بعض الناس من أمر عيسى- عليه السلام .

ب- وتسمى بسورة "الأمان " لأن من عمل بتوجيهاتها أمن الخطأ في الأحكام لاسيما التي تتعلق لبعض الأنبياء.

ج- وتسمى بسورة "الكنز" لتضمنها الأسرار التي تتعلق بعيسى- عليه السلام-.

د- وتسمى بسورة "المجادلة" لنزول عدد كبير من آياتها في شأن الجدال الذي دار بين الرسول- صلى الله عليه وسلم- وبين نصارى نجران.

هـ- وتسمى بسورة "طيبة" لجمعها الكثير من أصناف الطيبين في قوله تعالى: "الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار ".

2- قال الإمام القرطبي- رحمه الله- عند تفسيره لهذه السورة ما ملخصه: "وهذه السورة ورد في فضلها آثار وأخبار، فمن ذلك ما جاء في صحيح مسلم عن النواس بن سمعان الكلابي قالت: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: يؤتى بالقرآن يوم القيامة وبأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه سورة البقرة وآل عمران....

ثم قال الإمام القرطبي: وصدر هذه السورة نزل بسبب وفد نجران، وكانوا قد وفدوا على رسوله الله- صلى الله عليه وسلم- إثر صلاة العصر، عليهم ثياب الحبرات- أي: ثياب جميلة . قال بعض الصحابة: ما رأينا وفدا مثلهم جمالا وجلالة. وحانت صلاتهم، فقاموا فصلّوا في المسجد إلى المشرق، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: دعوهم، ثم أقاموا بها أياما يناظرون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في شأن عيسى- عليه السلام وكان رد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يرد عليهم بالبراهين الساطعة، نزل فيهم صدر هذه السورة إلى نيف وثمانين آية، إلى أن دعاهم رسول الله- صلى الله عليه. وسلم- إلى المباهلة".

قسمان واضحان

3- والمتأمل في سورة (آل عمران) يراها تكاد تنقسم إلى قسمين واضحين:

يراها في القسم الأول منها تتحدث عن أهل الكتاب حديثا مفصلا ، يحكي الرد على شبهـاتهـم وعلى أقوالهم، ويدعوهم إلى اتباع الحق الذي جاءهم به رسول الله- صلى الله محليه وسلم. ويراها في النصف الثاني تتحدث عن أحداث غزوة أحد، بتفصيل لا يوجد مثله في سورة أخرى، وهذا لا أحد يمنع أن السورة الكريمة قد ذكرت موضوعات أخرى مهمة، ولكن ليس بالتفصيل الذي ذكرته عن أهل الكتاب، أو عن غزوة أحد.

4- لقد افتتحت سـورة آل عمران بالثناء على الله- عز وجل-، وبإقامة الأدلة على وجوب إخلاص العبادة له. سورة آل عمران، الآيات: 1ـ 4 آلم، الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق ، مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان "الآيات من 1- 4 "

وبعد أن مدحت الراسخين في العلم،الذين يؤمنون بمحكم القرآن و متشابهه،، والذين يتضرعون إلى خالقهم بقولهم: سورة آل عمران، الآية:8 ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.

وبعد أن حذرت المغرورين والجاحدين بسوء المصير، إذا ما استمروا في غدرهم وفجورهم، وبيّنت للناس جميعا، أن الله- عز وجل- سورة آل عمران،الآية:13 يؤيد بنصره من من يشاء.

بعد كل ذلك وضحت لأولي الألباب أن ما أعدّه الله تعالى للمؤمنين الصادقين خير من شهوات الدنيا فقال تعالى: سورة آل عمران، الآيات:14ـ 15 زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري مـن تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد" 14 , 15" .

جدال وبشرى

5- ثم نراها في الربع الثاني منها بعد أن تسوق ألوان من المجادلات مع الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ومع الذين قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات، نراها تأمر كل عاقل أن يوقن بأن كل شيء في الكون إنما هو ملك لله- عز وجل- وأن قدرته سبحانه- لا يعجزها شيء وأن خير دليل على ذلك هو المشاهدة لما يجري في هذا الوجود، من قوة وضعف، ومن غنى وفقر ومن قيام لدول ومن زوال لأخرى قال تعالى : سورة آل عمران، الآيات: 26 ـ 27 قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب "26، 27".

فإذا ما طالعت- أيها القارئ الكريم- الربعين الثالث والرابع من سورة "آل عمران " وجدت فيهما حديثا حكيما، فقد تحدثت السورة الكريمة، عما قالته امرأة عمران- أم مريم- عندما أحست بالحمل في بطنها، وعما قالته عندما وضعت حملهـا.

كما تحدثت عن الدعوات الخاشعات التي تضرع بها زكريا- عليه السلام- إلى ربه- عز وجل-، سائلا إياه الذرية الطيبة، وكيف أن الله تعالى أجاب له دعاءه، فبشره بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين . كما تحدثت عن اصطفاء الله لمريم، وتبشيرها لعيسى- عليه السلام-، وتعجبها من أن يكون لها ولد دون أن يمسها بشر، وكيف أن الله تعالى قد ردّ عليها بما يزيل عجبها سورة آل عمران، الآية: 47 قالت ربّ أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون." 47" .

كما تحدثت بشيء من التفصيل عن الصفات الكريمة، والمعجزات الباهرة التي منحها الله تعالى لعيسى- عليه السلام-، وعن دعوته الناس إلى عبادة الله وحده وعن موقف أعدائه منه، وعن صيانة الله- عز وجل- له من مكرهم وعن تشابه عيسى وآدم- عليهما السلام- في شأن، خلقهما دون أب، وكيف أن الله تعالى أمر نبيه محمدا- صلى الله عليه و سلم- أن يتحدى كل من يجادله بالباطل في شأن عيسى فقال تعالى سورة آل عمران، الآيات: 59 ـ 62 إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون . الحق من ربك فلا تكن من الممترين. فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين. إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم . "59-62".

ثم وجهت السورة الكريمة أربعة نداءات إلى أهل الكتاب، دعتهم فيها إلى عبادة الله تعالى وحده، وإلى ترك الجدال الذي لا فائدة من ورائه، وإلى الحوار بالعقل والمنطق، لا بالجهل والوهم. قال تعالى: سورة آل عمران، الآية: 64 قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبدإلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله... "64". سورة آل عمران، الآية: 65 يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم، وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون "65". سورة آل عمران، الآيات: 70 ـ 71 يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون، يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل، وتكتمون الحق وأنتم تعلمون " 70 ، 71".

6- ثم واصلت سورة "آل عمران " في الربعين الخامس والسادس منها حديثهـا عن أهل الكتاب، فمدحت القلة المؤمنة منهم، وذمّت مـن يستحق الذم منهم، وحكت بعض الرذائل التي عرفت عن أشرارهم، وعن فريق من علمائهم، فقال تعالى: سورة آل عمران، الآية: 78 وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب، لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون . "78".

ثم ساقت السورة الكريمة بعض الشبهات التي أثارها اليهود حول ما أحله الله وحرّمه عليهم من الأطعمة، وردّت عليهم بما يفضحهم ويثبت كذبهم، ووبختهم على كفرهم وعلى صدهم الناس عن طريق الحق وحذرت المؤمنين من مسالكهم الخبيثة التي يريدون من ورائها تفريق كلمتهم، وفصم عرى أخوتهم ، واعتصامهم بحبل الله، وذكرتهم بنعمة الإيمان التي بسببها نالوا ما نالوا من الخير، فقال تعالى: سورة آل عمران، الآية: 103 واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها... "103" .

ثم بشرت السورة الكريمة المؤمنين بأنهم خير أمة أخرجت للناس، وأنهم هم الغالبون ما داموا معتصمين بدينهم، سورة آل عمران، الآية: 110 كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله... . (110).

غزوة أحد

8- لقد بدأت سورة آل عمران حديثهاعن غزوة أحد، بتذكير المؤمنين بما فعله- الرسول صلى عليه وسلم- قبل بدء المعركة من إعداد وتنظيم للصفوف، وبما هم به بعضهم من فشل، وبما تم لهم من نصر على أعدائهم في غزوة بدر. الكبرى التي سمّاها القرآن بيوم الفرقان.

استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكي كل ذلك بأسلوبه المعجز المؤثر فيقول: سورة آل عمران، الآيات: 121 ـ 123 وإذ غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم. إذ همّت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون. ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون . "121-123".

وفي هذا الربط بين الغزوتين، تذكير للمؤمنين بأسباب انتصارهم في غزوة بدر، وبأسباب هزيمتهم في غزوة أحد، حتى يسلكوا في مستقبل حياتهم السبيل التي توصلهم إلى الظفر، ويهجروا الطريق التي تقودهم إلى الفشل. ثم حضّتهم على الألفاظ بسنن الله في خلقه. وأمرتهم بالتجلّد والصبر، ونهتهم عن الوهن والضعف، وبشرتهم بأنهم هم الأعلون، وشجعتهـم على مواصلة الجهاد في سبيل الله، فإن العاقبة لهم، وأخبرتهم بأن ما أصابهم من آلام وجراح في غزوة أحد، قد أصيب أعداؤهم بمثلها، وأن الأيام دول،وأن هزيمتهم في تلك الغزوة، من ثمارها: أنها ميّزت قوي الإيمان من ضعيفه، لأن المصائب كثيرا ما تكشف عن معادن النفوس، وخفايا الصدور، واتجاهات العواطف كان عاقبة المكذبين. قال تعالى: سورة آل عمران، الآيات: 137 ـ 141 قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين. إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين. وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين "137- 141".

9- ثم بينت السورة الكريمة أن الآجال بيد الله وحده وأن محمدا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد خلت من قبله الرسل، وسيدركه الموت كما أدركهم، وأن الأخيار من أتباع الـرسل السابقين كانوا يقاتلون معهم بثبات وصبر من أجل إعلاء كلمة الله فعلى المؤمنين في كل زمان ومكان أن يقدموا على الدفاع عن عقيدتهم، وعن أنفسهم، وعن أرضهم وعن أعراضهم، بكل ثبات وقوة، لأن الإقدام لا ينقص شيئا من الحياة، كما أن الإحجام لا يؤخرهـا. وأخبرتهم بأنه سبحانه وتعالى قد صدق وعده معهم حيث مكنهم في أول معركة أحد من الانتصار على أعدائهم، ولو أن المؤمنين جميعا اتبعوا ما أوصاهم به نبيهم- صلى الله عليه وسلم- لتمّ لهم النصر. قال تعالى: سورة آل عمران، الآية: 152 ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه، حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين . " 152 ".

ثم ختمت السورة الكريمة حديثها عن غزوة أحد، ببيان فضل الشهداء، وببيان ما أعده الله تعالى لهم من ثواب جزيل، ومن عطاء عظيم، فقال تعالى: سورة آل عمران، الآيات: 169 ـ 170 ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهـم يرزقون. فرحين بما آتاهم الله من فضله . ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون . " 169- 170".

وكما أثنت السورة الكريمة على الشهداء، أثنت أيضا على الذين عاشوا بعد غزوة أحد وهم ثابتون على عهودهم رغم ما أصابهم من جراح فيها، والذين لم يغرهم وعيد، بل كانوا كما أثنى عليهم خالقهم بقوله: سورة آل عمران، الآيات: 173 ـ 174 الذين قال لهم الناس إن إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم . "173-174".

ثم تحدثت السورة الكريمة في أواخرها عن تلك الدعوات الخاشعات التي تضرع بها أولو الألباب إلى خالقهم، وكيف أنه سبحانه أجاب لهم دعاءهم ببركة إخلاصهم وصدقهم . قال تعالى: سورة آل عمران، الآية: 195 فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض...(195).

10- هذا، ونستطيع بعد هذا العرض المجمل لأهم المقاصد التي اشتملت عليها سورة آل عـمران، أن نسمتخلص ما يلي:

أ- أن السورة الكريمة قد اهتمت بإثبات وحدانية الله تعالى وإقامة الأدلة الساطعة على ذلك، وإثبات أن الدين الحق الذي ارتضاه الله لعباده هو دين الإسلام، الذي أرسل به نبيه محمدا- صلى الله عليه وسلم-.

وقد ساقت السورة الكريمة لإثبات هذه الحقائق آيات كثيرة، منها قوله تعالى: سورة آل عمران، الآية: 2 الله لا إله إلا هو الحي القيوم ... وقوله سبحانه. سورة آل عمران، الآيات: 18 ـ 19 شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم. إن الدين عند الله الإسلام ..(18 : 19) وقوله عز وجل: سورة آل عمران، الآية: 85 ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين. " 85 ".

ب- أن السورة الكريمة قد عرضت أحداث غزوة أحد عرضا حكيما زاخرا بالعظات والعبر، وفصلت الحديث عنها تفصيلا لا يوجد في غيرها من السور، وساقت ما دار فيها بأسلوب بليغ مؤثر، يخاطب العقول والعواطف، ويكشف عن طوايا القلوب ونوازعها، وخفايا النفوس وخواطرها، ويعالج الأخطاء التي وقع فيها بعض المسلمين حتى لا يعودوا لمثلها، ويشجعهم على المضي في طريق الجهاد، حتى لا يؤثر في عزيمتهم ما حدث لهم في غزوة أحد، ويبشرهم بأن الله تعالى قد عفا عمن فرّ منهم، ويذكرهم بمظاهر فضل الله عليهم خلال المعركة وبعدها، ويبصرهم بسن الله التي لا تتخلف، وبقوانينه التي لا تتبدل، وبتوجيهاته وبأحكامه وبتشريعاته التي من سار عليها أفلح وانتصر، ومن أعرض عنها خاب وخسر ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا.

نداءات سبعة

ج- أن السورة الكريمة قد اهتمت بتربية المؤمنين تربية، ينالون باتباعها النصر والسعادة في الدنيا، والفوز والفلاح في الآخرة. فقد وجهت إليهم سبع نداءات، أمرتهم فيها بتقوى الله، وبالصبر و المصابرة والمرابطة، ونهتهم عن طاعة الكافرين وعن التشبه بهم، كما حذرتهم من اقتراف ما يتنافى مع أحكام دينهم ومع آدابه وتوجيهاته، وهذه النداءات السبعة نراها في قوله تعالى:

1- سورة آل عمران، الآية: 100 يأيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين "100".

2- سورة آل عمران، الآية: 102 يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون"102 ".

3- سورة آل عمران، الآية: 118 يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً، ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفوههم و ما تخفي صدورهم أكبر، قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون (118) .

4- سورة آل عمران، الآية: 130 يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون .(130) .

5-  سورة آل عمران، الآية: 149 يأيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين . "149".

6- سورة آل عمران، الآية: 156 يأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا "156".

7- سورة آل عمران، الآية: 200 يأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون . "200".

وبجانب هذه النداءات التي اشتملت على أسمى ألوان التربية الفاضلة، والتوجيه القويم، نرى السورة الكريمة تسوق للمؤمنين في آيات كثيرة منها، ما يهدي بهم إلى الخير والرشاد، ويبعدهم عن الشر والفساد. فهي تحكي لهم من الدعوات التي يتضرع بها الأخيار من الناس لكي يتأسوا بهم، وتبين لهم أن حب الشهوات طبيعة في الناس، إلا أن العقلاء منهم يجعلون حبهم لما يرضي الله فوق أي شيء آخر، وتحرّضهـم على الاعتصام بحبل الله، وتحثهم على المسارعة إلى الأعمال الصالحة التي توصلهم إلى رضا الله تعالى. إلى غير ذلك من التوجيهات الحميمة التي زخرت بها سورة آل عمران، والتي من شأنها أن تزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهـم، وأن تهديهم إلى الصراط المستقيم.

 

محمد سيد طنطاوي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات