اللغة حياة

اللغة حياة
        

عَوْد إلى صيغة فُعالة

          وَعَدْنا في المقالة السابقة أن نبيّن معاني صيغة «فُعالة». والحقّ أنّ بعض القدماء تناولوا معانيها بمنظور صرفيّ قريب من الدقّة، ولعلّ أوّلهم في ذلك أبو عليّ الفارسيّ الذي نسب إليه ابن سيده القول إن «فُعالة» لا تكون لـ«مصادر محقّقة، وإنما هي موضوعة موضع المفعول، وهي تدلّ على ما تدلّ عليه الفعيلة» أي أنّها نظير «مفعول» بمعنى «فَعِيل». لكنّ الفارسيّ نفسه ينـزلق، مع ذلك، نحو الفكرة التي قال بها سيبويه ومن تابعه في شرح معنى هذه الصيغة، فيرى أنّها تدلّ على البقيّة. بيد أنّ ابن سيده، حين يدرس الاشتراك بين «فُعالة» و«فِعالة» يبتعد عمّا قرّره مجمع اللغة العربيّة، فيضرب المثل بالدُِواية؛ وهي الطبقة الرقيقة التي تعلو اللبن الحليب بعد أن يبرد، والرُِغاوة والرُغاية؛ وكلّها يعني الزُبْد؛ كما يضرب المثل بالخُِفارة وهي الذِمّة.. إلخ، ولم يضرب مثلا واحدا على معنى النُفاية أو البقيّة أو النثار؛ ومثل ذلك دراسته لـ«فُعالة» و«فَعالة»، إذ ضرب مثلا بالرفاعة والطلاوة، بضم أولهما وبفتحه، وهما يدلاّن على الارتفاع والجمال.

          والحقيقة أنّ الغالب على الصيغة الصرفيّة لـ«فُعالة» هو أنّها اسم مأخوذ من الفعل للدلالة على أثر ذلك الفعل في الشيء، من حيث الصورة الماديّة أو النتيجة المعنوية؛ فهي، بكلمة مختصرة، تدلّ على محصول العمل. فالنشر هو قطع الحديد أو الخشب بمنشار له أسنان، وعمل هذه الأسنان تفتيت المادة التي تصطدم بها، وفُتاتها يسمى نُشارة؛ والضغط بالأصابع أو بآلة ما على شيء فيه سائل كالفاكهة، يؤدّي إلى خروج ذلك السائل منه، ويسمى السائل المستخرج عُصارة، وكَنْس الأوساخ عن الأرض يؤدّي إلى اجتماعها في ما يسمى كُناسة، وعلْث الأَقِط (اللبْنة عند اللبنانيّين) بالسمن أو الزيت، أي خلطه به، يؤدّي إلى العُلاثة. وهذه الصورة الماديّة قد تستعمل مجازًا للأشياء المعنويّة أو شبه المعنويّة، فيقال لأجر العمل عُمالة، ولأجر العِمارة عُمارة، وللقِسم الذي يخصّ به القاسِم نفسَه من رأس المال قُسامة، وللقِسم الذي يخصّ به الجزّار نفسه من الذبيحة جُزارة؛ كأنّ الأجر يستخرج من العمل أو من العِمارة أو من القِسمة أو من الذبح. والعُصارة قد تتعدى السائل لتدلّ على المحصول العقليّ، مثلا، فنقول: هذه عُصارة فكره، بمعنى أنه اجتهد في استنباطها.

          أما المعاني اللغويّة الخاصّة التي لهذه الأسماء فناجمة عن طبيعة العمل نفسه الذي يدلّ عليه الفعلُ، أو الاسمُ الذي لا فعل له، أو الذي أُهمل فعله، وليس عمّا تدل عليه صيغة «فُعالة» نفسها؛ فالنثار المتساقط أو المتطاير والمعبَّر عنه بالنُشارة والنُحاتة والبُراية وأشباهها، متأتٍ من معاني الأفعال نفسها: النشر والنحت والبري، لا من زنة الكلمات؛ أما التُرابة فمأخوذة من التراب، وكأنّها واحدته. ومعنى البقيّة الذي تعبّر عنه الفُضالة والصُبابة والثُمالة، ونحوها، متأتٍ من معاني الأفعال التي اشتقت منها تلك الكلمات، أو ممّا هو كناية عن تلك الأفعال. أمّا الهُناءة فمن الهِناء (وهو القطران). كما أن معنى النُفاية والقُمامة والخُمامة متأتٍ من النفي والقَمّ والخَمّ، والأخيران يعنيان الكَنْس.

          ويغلب على «فُعالة» أن تكون اسم جمع لأشياء صغيرة أو غير متجانسة، مثل: الجُثالة والرُذالة والحُثالة والبُرادة والجُماعة والحُباشة والأُشابة؛ أو مفردا لاسم جنس جمعي، مثل: الجُذاذة واحدة الجُذاذ، والمُرارة واحدة المُرار، والمُشاشة واحدة المُشاش، والثُمامة واحدة الثُمام، والطُغامة واحدة الطُغام، إذا صحت شروح أصحاب المعاجم. بل إنّهم لجأوا إلى التعبير عن الواحدة أو الواحد من الحيوان والحشرات بزنة «فُعالة»، حاذفين من الكلمة ما لا يسمح ببناء هذه الصيغة، أو معوّلين على صفة من صفات المسمّى، فقالوا ثُعالة، للثعلب، وذُؤالة وأبو جُعادة للذئب، وأُسامة للأسد، وعُكاشة للعنكبوت. بل جعلوا منها أعلامًا للناس مثل: جُنادة، وعُبادة، وزُرارة، وخُراشة، وخُزاعة، وقُدامة؛ وأعلامًا للأماكن والأشياء، مثل: أُوارة، وخُضارة (البحر لخضرته)؛ وأعلامًا للصفات، مثل: خُباطة (علم للأحمق، من التخبّط). ولكثرة الأعلام التي على فُعالة، تبدو تلك الصيغة أحيانًا صيغة للعلميّة؛ فلا غرابة بالتالي أن يعاملوا بعض أسماء الحيوانات والأشياء التي على هذه الزنة معاملة الأعلام الممنوعة من الصرف، وكأنّهم قاسوها على أعلام الناس. والملحوظ أنّهم تصرّفوا بأسماء الحيوانات والحشرات، ليس بالحذف فحسب، بل كذلك بتبديل بعض الأحرف، إذ أبدلوا اللام من الباء في ذُؤالة، والميم من الدال في أُسامة، والشين من الباء والتاء معا في عُكاشة، وكأنّهم يعبثون أو يتحبّبون.

          وفكرة الواحدة توحي معنى الضآلة والقلّة أحيانا؛ ولذلك أدّت «فُعالة» هذين المعنيين وأشباههما، فكانت الهُناءة مثلا هي الهِناء القليل؛ والظاهر، وليس مؤكّدا، أنّهم عبروا بها عن بقيّة الهِناء لقلته؛ والقُلامة دلّت على القطعة أو القطع الصغيرة من الأظفار المقطوعة وأشباهها؛ ودلّت البُرادة على دُقاق الخشب أو الحديد المبرود.. إلخ.

          لكنّ معنى «فُعالة» الصرفيّ لا ينحصر بهذا، بل يتعدّاه إلى معنى المصدر، خلافا لاعتقاد أبي عليّ الفارسيّ؛ وأوّل دليل على ذلك تناوب الضمة والفتحة والكسرة على أوّل بعض الأسماء التي على زنتها، وهو ما أوحى به ابن سيده حين قارن بين فُعالة وفِعالة وفَعالة. والدليل الثاني أنّ فُجاءة هو مصدر فعل فجأ أو فَجئ؛ وقد تكون أسماء مصادر، أو مصادر مرة، مثل: دُعابة، ومُزاحة، وبُداهة، وفُكاهة، وزُوارة (زِيارة) وخُفارة. وقد تكون صفات مثل: كُثارة بمعنى كثير أو كثيرين، ورُقاقة، بمعنى رقيق، وتستعمل للرغيف المنبسط الواسع؛ وفُقاقة، أي أحمق ثرثار. وقد تكون أسماء جنس لأشياء متعدّدة، مثل: المُلاءة، وهي من الثياب؛ والخُرابة، وهي ثقب في الورك؛ والصُؤابة، وهي بيضة النمل؛ والفُتاحة وهي الحُكم أو المحاكمة؛ والصُبارة، وهي الحجارة؛ والظُهارة، وهي القوة؛ واللُعاعة، وهي الكلأ الخفيف؛ والأُمامة، وهي الثلاثمائة من الإبل؛ والرُصافة، وهي المنبت في السواد، وهي الريش أيضا. وقد تكون مؤنّثا لما وزنه «فُعال»، مثل: لُبابة، مؤنث لُباب، وغُلامة، مؤنث غُلام، وفُلانة، مؤنث فُلان. ويغلب في هذه الحال أن تكون فعالة واحدة الفُعال. وفي النتيجة فإنّ صيغة «فُعالة» ليس لها معنى لغويّ خاصّ، بل هي كسائر الصيغ الصرفيّة، ذات معنى صرفيّ يشير إلى حدود خاصّة للمعنى اللغويّ؛ لكنّ العرب قد تستبدل حدود بعض الأوزان من حدود أوزان أخرى، أو تتصرّف بحدودها، فتتعدّد الحدود الصرفيّة وتتنوّع؛ ولذلك رواحت حدود «فُعالة» بين محصول العمل، ومصدر الفعل، واسم مصدره، ومصدر المرة منه، واسم الجمع، ومفرد اسم الجنس الجمعي، وغير ذلك.

 

مصطفى الجوزو