جمال العربية

جمال العربية
        

حمزة شحاته ومعشوقته «جَدّة»

          في ديوان الشعر السعودي الحديث يحتلّ حمزة شحاته مكانًا ومكانة متميزين. هو شاعر مغاير لنسق الشعر السعودي كلّه، كأنما غادر أرضه وسماءه ليحلق في أفقه وحده، رومانسيّ اللغة والخيال والصورة الشعرية، نافذ النظرة في كلّ ما حوله من أمور الحياة والناس، مازجًا بين انتمائه لنشأته الأولى وتخوم تكوينه النفسي والفكري في السعودية، وتأثره بمناخ القاهرة الثقافي والشعري الذي تقلب فيه طيلة إقامته فيها، بعد أن اختارها مقرّا وسكنى حتى حلول النهاية.

          ولد حمزة شحاته في مكة المكرمة سنة 1328هـ/1910م، وسرعان ما فاح عطر نبوغه وشاعريته المبكّرة، ومفارقات اختلافه عن أقرانه ورفاقه. وبالرغم من أنه اعتصر روحه وعقله في العديد من آثاره الشعرية والنثرية، فإنه آثر عدم نشرها، وظل بعضها متداولاً يعرفه أصدقاؤه ومحبوه ومريدوه، ويرددونه فيما بينهم، ولم يجرؤ أحد على جمعها أو نشرها إلا بعد رحيله (توفي في القاهرة عام 1393هـ/1973م)، وصدر ديوانه الذي يضم بعض ما عثر عليه من أشعاره بعد وفاته بخمسة عشر عامًا، كما صدرت مطولته الشعرية «غادة بولاق» في ديوان صغير مستقل.

          جاء حمزة شحاته إلى القاهرة، والحياة الأدبية والشعرية فيها تموج بمرحلة ما بعد شوقي وحافظ وإسماعيل صبري ومن بعدهم بوقت طويل خليل مطران. وكان شعراء أبولو الذين جسّدوا خصائص القصيدة الرومانسية يتربعون على عرش الشعر، وفي طليعتهم: علي محمود طه وإبراهيم ناجي ومحمود حسن إسماعيل، بالإضافة إلى أقرانهم من الشعراء العرب وأنبغهم هو أبو القاسم الشابي في تونس، الذي ظلّ تأثيره أمدًا طويلاً على أجيال الشعر منذ رحيله عام 1934م وحتى خمسينيات القرن الماضي. ومالت بحمزة شحاته فطرته الشعرية وحسّه النقدي وذائقته المرهفة إلى تراث الرومانسيين، ممتزجًا بالإرهاصات الأولى لتيار الشعر الجديد الذي حمل معه النزعة الواقعية، والرؤية النقدية، والرغبة العارمة في التجديد والخروج على المألوف، وبهذا التكوين الرومانسي الواقعي معًا، أصبح شعر «حمزة شحاته» مثيرًا للاهتمام والتعقب، مُتعبًا لمن يترصدونه ويحاولون قراءة بنيته التحتية، لعلهم يجدون فيها ما لم يُفصح عنه من رأي مغاير أو فكرة جديدة أو انتقاد خفيّ.

          من هنا تجيء أهمية الدراسة الرائدة والكاشفة عن شعر حمزة شحاته التي أنجزها الناقد السعودي الدكتور عبدالله الغدامي باعتبارها درسًا في التحليل والنفاذ إلى عالم الشاعر والكشف عن أبعاده وطبقاته، وتأمل بنيته الشعرية، من خلال منهج شديد العصرية، وقدرة على النفاذ إلى أعماق النص. وهي الدراسة التي لفتت أنظار كثيرين إلى شعر حمزة شحاته وأهميته، ومدى تفرّده في ديوان الشعر السعودي الحديث، باعتباره رمزًا ثقافيًا وفكريًا، بالإضافة إلى قامته الإبداعية السامقة. والذي يتأمل قصيدته «جدة» يدرك على الفور حجم العاطفة التي تشّده إليها وعمقها في وجدانه، ويدرك في الوقت نفسه أن رؤية الشاعر للمدينة المعشوقة لا تحجب عنه شعورًا آخر يجاذبه شعوره الأول ويعارضه، الخليّون من الهموم والشواغل ودواعي الفكر - وهي شتى - يرونها مَراحًا للعين والقلب، ومجلى للحسْن والجمال. أما هو فيراها شقاءً عذْبًا وأسرًا أنيقا. بل هي بالنسبة إليه صراع بين ما يمور في العقل وما يمثله الحجى من ناحية والأماني التي تشاغله ويتطلع إليها ويتمنى تحقيقها من ناحية أخرى.

          وينجح هذا الشعور وهذا الموقف معًا، متآزرينْ، في بلورة رؤيته لجدّة باعتبارها وِرْدًا للنقائض، ومأوى لمياسير جاهلين، ومهازيل كالضفادع، وشباب بعيد عن الطموح وأخْذ الحياة بالجدّ، لأنهم أسارى مناعم العيش. ولا يتردد شاعرنا في أن يعلن قُرب ختام قصيدته عن نظرته للهوى الذي يؤثر العزّ، ويدعو إلى أخذ الحياة بالجد، والبعد عن اللهو والنّزق، فهل يدري الآخرون أيّ لون من  الهوى يقود خطاه، ويتحكم في موقفه، ويلون نظرته إلى مدينته المعشوقة: جدّة؟ إن تردد مُفردة «الجد» وهو يتحدث عن «جدّة» يؤدي بنا إلى الجِذْر البعيد الذي يركز الشاعر على دلالته وظلال معناه، وكأنه يأخذ بتصوراتنا إلى أفُقٍ سامٍ من آفاق الحب، تصبح فيه المدينة والمعشوقة وجهين لمحبوب واحد، من غير أن يرقى إلى هذا الأفق ذلك اللون الرخيص من الغرام المباح الذي هو في نظر الشاعر شرّ الجنايات، وأكثرها إفسادًا للنفوس، وقتْلا لحقيقة الجمال.

          يقول حمزة شحاتة:

النُّهى بين شاطئيْك غريقُ والهوى فيكِ حالمٌ ما يفيقُ
ورؤى الحبِّ في رحابك شتّى يستفزُّ الأسيرَ منها الطليقُ
ومغانيكِ، في النفوسِ الصديّاتِ إلى ريّها المنيع رحيقُ
إيه يا فتْنةَ الحياة لصب عهدُهُ في هواكِ عهدٌ وثيقُ
سحرتْهُ مشابهٌ منكِ للخلْدِ ومعنىً من حُسْنِه مسروقُ
كم يكرُّ الزمانُ، متّئدَ الخطْوَ وغصْنُ الصّبا عليكِ وريقُ
ويذوبُ الجمالُ في لهب الحبّ إذا آبَ وهو فيكِ غريقُ
عُدْتِ ملفوفةً به، في دجى اللّيلِ وقد هفْهَف النّسيمُ الرقيقُ
مُقبلاً كالمُحبِّ، يدفعهُ الشوقُ فيثنيهِ عن مُناهُ العقوقُ
حمّلتُهُ الأمواجُ أغنيةَ الشطّ فأفضى بها الأداءُ الرشيقُ
نغمًا تُسكرُ القلوبَ حُميّاهُ فمنّهُ صبُوحها والغَبوقُ
فيه من بحْركِ الترفّقُ والعُنْفُ ومن أُفْقكِ المدى والبريقُ
ومن الليل صمْتُه المُفعمُ النفْسِ لُغىً زانها الخيالُ العميقُ
ومن البدر زهوهُ وسناهُ راويًا عنهما الفضاءُ السّحيقُ
قطعةً فذّةً من الشعر، قد ألّف أشتاتها نظامٌ دقيقُ
أنتِ دُنيا رفّافةٌ بمنى الروح وكوْنٌ بالمعجزاتِ نَطوقُ
رضي القيدُ، في حِماكِ فؤادٌ عاش كالطيْرِ دأْبُه التحليقُ
ما تصبّتْهُ قبل حُبّكِ يا جدّةُ دنيا بسحْرها، أو عشيقُ
حبّذا الأسْرُ في هواكِ حبيبًا بهوى الفكر والمنى ما يضيقُ
منهجي فيه مَنْهجُ الطائر الآلفِ ينزو به الجناحُ المشوقُ
فإذا همّ أشغلتْهُ فُروضٌ من هواهُ، وأَثْقلتْهُ حقوقُ
جَدّتي، أنتِ عالمُ الشعر والفتْنةِ يروي مشاعري، ويروقُ
تتمشى فيكُ الخواطر سكرى ما يُحسُّ اللصيقَ منها اللّصيقُ
كلّها هائمٌ بعالمه المخمورِ يهفو به شذاهُ العبيقُ
تتجافى ما يأْلَفُ الخاطرُ الخاطرَ فيه، ولا تبينُ الفروقُ
فإذا أومض الخيال بذكراكِ تداعتْ، بعضٌ لبعضٍ يتوقُ
وحّدَ الحبُّ بينها سُبَل الحبِّ فما عافَ سابقًا مسبوقُ
جدّتي، لا التي يُحبُّ الخليّونَ شقاءٌ عذْبٌ وأسْرٌ أنيقُ
وصراعٌ بين الحجى والأماني يُطلقُ الحسَّ تارةً ويعوقُ
وسهادٌ يهيم في تيههِ العقلُ ويَعْمى عن هدْيه التوفيقُ
وصدىً ما يبلُّه الواكف الهامي وقلبٌ لم تستثرهُ البروقُ
أنت مرتادُ وَحْدتي إن تَبتّلتُ وإن شئْتُ عالَمٌ مطروقُ
ليَ ماضٍ لم أَنْسَهُ، فيك قد غُصَّ بِشجْوٍ، غروبُهُ والشروقُ
تتناجى أصداؤه في روابيكِ إذا عادها الخيالُ الطّروقُ
مُعْولاتٍ، ألْوى بمطْلبها الأينُ فأنفاسُها عليه شهيقُ
مثقلاتٍ حيرى، تُطيفْ بها الوحشةُ والضعفُ عاجزٌ ما يُطيقُ
كيف أُنْسيتهُ وضيعْتِ ذكراهُ؟ وهل يُسْلمُ الرفيقَ الرفيقُ؟
أهو الغدْرُ ميسم الحسن في شرْعِكِ، والعهدُ في هواكِ عقوقُ؟
حبّذا أنتِ لو وفيْتِ وأَجملْتِ ولم يُنْتَهَكْ لديكِ الصديقُ
فوفاءُ الحبيبِ أسْمَى معاني الحُسنِ والطهرُ بالجمالِ خليقُ
لا تكوني خوّانةً يُمْطِلُ الدَّيْنُ لديها، ولا يفوزُ السَّبُوقُ
أو تمنّى النُّعْمى عليَّ، فما آلمَ عيْشًا يضوي به المرزوقُ
أكذا أنتِ للنقائصِ وِرْدٌ يستوي عنده التُّقى والفُسوقُ
بين منْ تمنحينهمْ وِرْدَكِ السائغَ قومٌ ودادُهم ممزوقُ
من مياسيرَ جاهلينَ أضاعوكِ وكلٌّ بما يَشينُ عَلوقُ
ومهازيل كالضفادِع في الظلمةِ، أقصى ما يستطعْنَ النَّقيقُ
قادهم أَخرَقُ الخطى للدّنايا وهو فيهم بما جناهُ مَسوقُ
وشبابٌ غِراسهُ ما زكت فيك، ولا غْرو، فالغراسُ العُروقُ
لعلعت صرخةُ النهوض حواليْكِ وأصواتهم لديْكِ نَعيقُ
ومشى الناسُ للجهاد مُغذّينَ، فهل نصَّ ناعقيك طريقُ
من لهم بالطموحِ، والجدُّ ماأضْناكِ مسعاهُ، والحياةُ مضيقُ
هُمْ أُسارى مناعم العيش والحقْ عليهم، مما أُذيلَ حنيقُ
كم مُعنى مثلي، يُارحكِ الحبَّ فينبو به السّبيلُ الزّليقُ
ودعي، يصطكُّ في فمه القولُ عثارًا، مكانهُ مرموقُ
أمن العدل أن يُشاكلني فيكِ جبانٌ، عمّا أُريغَ فَروقُ
وقُصاراهُ في هواكِ هوانا أملٌ ضارعٌ ووجهٌ صفيقُ
لا تلومي على عتابكِ حُرًّا قلبهُ منكِ بالجراح شَريقُ
أنا للجدِّ، والهوى يُؤثرُ العزَّ وغيري لغيرهِ مخلوقُ
والغرامُ المُباحُ شرٌّ الجناياتِ فهل يقنعُ الجمالُ النزُوقُ؟


          وحمزة شحاته هو الذي يبهرنا في قصيدة ثانية من بدائعه، بما يسري في شرايين أبياته من شجنٍ آسرٍ عميق، ومن إيقاع واضحٍ قويّ، ومن لغة شديدة الصفاء والسلاسة والتدفق، وصور شعرية افتنّ في تشكيلها مُصوّرٌ بارع، حين يقول:

يا قلبُ، غرّك من ماضيك رونقهُ وأنّ حظّكَ فيه كان مُؤْتلقًا
وأنّ مسرح لذّات الهوى شَرعٌ حوى الحياة مدى ضمّ الهوى أفُقا
وأنّ جدولك السّلسالَ مُطَّردٌ على حِفافيْهِ ينمو الزهرُ مُتّسقا
يلقاك بالورد طلْقًا من مناهلهِ وبالمفاتن يَسْبي سحْرُها الحدقَا
رفّت عليه معاني الحسنِ سافرةً فاقت بما ذاق من ألوانها الشّفقا
وأنّ محرابَكِ القُدْسيّ كنتُ به العابدَ الفردَ يحبوك الرضا غدقا
تقيمُ فيه فروض الحبّ خاشعةً ألقى عليها الهوى من صدْقه ألَقا
فاليومَ نُوزعْتَ في مثواكَ حرمته وعدْتَ تشهدُ من عُبّادهِ فَرَقا
وزاحمتْكِ على أركانِه مُهجٌ عبادةُ الحبّ فيه تُشبهُ المَلقَا
والماء؟ لا ماء يا قلبي، فمتْ ظمأً ودعْ مُدّنسهُ يهلكْ به شَرِقا


----------------------------------------

إياكَ يا صديقي يا جملْ..!
إياك أن تيأسَ أو تلينْ
إياك أن تكونَ مثل آخرين
قد عكفوا على الطلولْ..
يندبونها...!!
أو أطفأوا شموعهم..
وخرجوا إلى الرياح..
يلعنونها...!!
كلا...! وأنت رمزُ الصبر يا جملْ!!
لا.. ! لن تكونَ مثلَهم..
ولا أنا....!!

أحمد العدواني

 

فاروق شوشة