مساحة ود

 مساحة ود
        

حبةُ فطر

          كانت تبدو كحبة فطر من بعيد، بمنتصف الطريق المعبدة كمنحدر ضيق بين المنازل يصل بين شارعين رئيسيين بشكل مختصر، وعندما اقتربت منها وجدت أنها طفلة صغيرة بل صغيرةٌ جدًا، لطالما اعتقدت أننا لسنا في أوربا حيث ينمو الفطر في الشوارع وبهذا الحجم.

          كانت في الثالثة أو الرابعة من عمرها، تجثو على قدميها الصغيرتين متخذةً وضعية القرفصاء وهي تلتقط بيديها كرةً صغيرة وتتأملها جيدًا غير آبهة للمركبة القادمة من أسفل الطريق المنحدر، والتي كادت أن تدوسها في عتمة المساء فهي بالكاد تبدو لمن يترجل على قدميه. انحنيت نحوها بعد أن أشرت لتلك المركبة بالتمهل وأمسكتها برفق بكلتا يدي فوقفت بسرعة فائقة، تأملت ملابسها المتسخة من اللعب وشعرها الناعم الذي يبدو أنه لم يسرح منذ الصباح تعبث خصله في الاتجاهات المختلفة حول رأسها. أزحتها بلطف عن الشارع في حركة ٍ بدت مقبولة منها وهي ترمقني بصمت. أومأت برأسي شكرًا  للسائق الذي كنت على صواب عندما اعتقدت أنه لم يرها، حيث كانت في جلستها تلك أدنى بكثير من أسفل مقدمة المركبة.

          وقفت لجانبها للحظات وقلت لها: لا تلعبي بمنتصف الطريق صغيرتي، أومأت برأسها كنايةً  عن الموافقة، ومضيت مبتعدة عنها لبضع خطوات، حيث كان يقف قبالتي شقيقها الذي يكبرها بثلاث أو أربع سنوات، وهو يراقب ما حدث بصمت هو الآخر. عاد من صمته ليذكر شقيقته باللعب قائلاً لها بصوت مرتفع: هيا ألقي بالكرة نحوي، وبينما كانت خلفي قالت بهدوء، نعم سأفعل لكننا لن نلعب في منتصف الطريق!

          لم أقاوم ابتسامتي عندئذ، ورحت في تفكير بعيد أبعد بكثير من هذا الموقف الذي استمر لبضع لحظات فقط، كم هي بريئة ٌ تلك الطفولة، كم تبدو كالأوراق البيضاء الناصعة عقول أولئك الأطفال، كم نستطيع أن نزرع فيهم كمًا هائلاً من المبادئ والقيم، فلتوها طفلة صغيرة كادت أن تدهس تحت إطارات مركبة، وبقليل من الانتباه وبفضل الله عز وجل قبل كل شيء أنقذت وعادت للعب من جديد، وبشيء قليل من التحذير ابتعدت عن منتصف الطريق مبعدة شقيقها معها، وبقليل من الحب والاهتمام أدركت أنني أود حمايتها، وعدت أتساءل من جديد: كم أننا نستطيع بناء أجيال واعية! وكم أننا نستطيع أن نحمي أبناءنا من شرور الدنيا ونبعدهم عن جادة الدمار والضياع قبل فوات الأوان، بكثير من الانتباه، وكثير من الحذر، وكثير من الثقة، وكثير وكثير من الحب والاهتمام والعطاء.

 

مرام النابلسي