إلى أن نلتقي

  إلى أن نلتقي
        

أي صلة بين الفارابي ونزار قباني؟!

          عقد أحد المفكرين العرب الكبار مقارنة طريفة بين الشاعر نزار قباني والفيلسوف العربي الإسلامي أبي نصر الفارابي، فقال إن قيثارة نزار قباني الشعرية تشبه تلك الآلة الموسيقية العجائبية، التي كان الفارابي يعزف عليها أعجب الألحان وأشدها أثرًا في سامعيه، ولدرجة أنه إذا عزف عليها لحنًا ما، جعل السامعين يضحكون، أو يبكون، أو يغطّون في نومهم.

          ففي سيرة الفارابي أنه شوهد يومًا يجلس على أحد الأرصفة في دمشق، فلفتت شخصيته الغريبة المارّة فتحلّقوا حوله يسخرون ويهزأون منه. كان الفارابي يلبس أسمالاً بالية وخفّا قديمًا، وإلى جانبه آلة موسيقية قيل إنه صنعها بنفسه لأنه كان بالإضافة إلى علوّ كعبه في الفلسفة، عالمًا كبيرًا بالموسيقى. لم يعرف أهل الشام الذين مرّوا بالفارابي وهو يجلس على الرصيف - وربما ينام أيضًا- شيئًا عن كفاءته الفلسفية أو الموسيقية، ولعلهم ظنّوا أنه أحد الغجر الغرباء عن مدينتهم. ولم يكن الفارابي معنيًا أيضًا بأن يعرّفهم على شخصه أو على علمه.

          ويبدو أن كل ما عناه وهو يجد نفسه موضع سخرية أولئك المارّة، هو أن يبادلهم السخرية على طريقته. أخذ آلته الموسيقية التي كان خبيرًا بكراماتها وعزف عليها لحنًا أضحك سامعيه، ثم عزف عليها لحنًا آخر جعل الدمع يتسلل إلى عيونهم حزنًا وأسى. أما اللحن الأخير الذي عزفه، فكان من مفاعيله تسلّل النوم إلى عيون الذين ضحكوا ثم بكوا، فما أن شاهدهم يستلقون على الرصيف نيامًا حتى حمل آلته الموسيقية ومضى.

          يقول هذا المفكر إنه كان في الشاعر نزار قباني شيء من الفارابي، صاحب «المدينة الفاضلة»، والذي كان يُلقّب بـ«المعلم الثاني». فقد بدأ حياته الشعرية يُضحك قومه عن طريق تلك الأشعار العاطفية الحارّة. ثم أبكاهم بعد ذلك بكاءً مرًا لفرط ما هجاهم، وهجا تاريخهم ومقومات هذا التاريخ. ولم يكن في حاجة بعد ذلك لكي يجلب النوم إلى عيونهم، فقد رآهم يغطّون في النوم، ولا يستيقظون. وهذا ما يلمسه قارئ قصيدته «خبز وحشيش وقمر» على الخصوص.

          ويبدو أن الشاعر نزار قباني ضاق بلقب «شاعر المرأة»، وأنف من «سجن النساء» الذي سجن نفسه فيه، والذي أخذه عليه كثيرون، فأحبّ أن يضيف إليه لقب الشاعر القومي، أو الشاعر الوطني، أو الشاعر السياسي، دون أن تكون لديه عدّة هذا الشاعر، وثقافته وخبرته، وبوصلته، وحتى مفرداته. فهو بدلاً من أن يلجأ إلى تحريض قومه، حرّض عليهم. واستخدم لغة السبّ والشتم حتى استوى شعره السياسي فيما بعد في باب هجاء العرب، لا في باب الحماسة كما كان يُدعى شعر الفخر والوطنية قديمًا، ولا في أي باب آخر يدعو إلى يقظة العرب واستئناف النهضة التي بدأ عصرها في نهاية القرن التاسع عشر، ثم زال نهائيًا من الوجود في أواخر القرن العشرين، وفي بدايات القرن الحادي والعشرين على الخصوص.

          ولأن الشاعر لم يكن بحاجة إلى عزف اللحن الثالث، الذي عزفه الفارابي على رصيف مدينة دمشق، لأنه فيما يبدو كان على مذهب الفيلسوف المغربي الراحل الدكتور محمد عزيز الحبابي، الذي كان يشك بوجود «صحوة» عربية وإسلامية، ويقول: «إنه لا يرى، ولا يسمع، سوى «الشخير»، فقد حمل قيثارته معه، ومضى إلى الأبد، تاركًا القوم حائرين في أمره وأمرهم»!.

 

جهاد فاضل