الشأفة

الشأفة

على البوابة الخارجية الواسعة المسيجة بشبكة من الحديد التخين، اعترضني فريق كامل من الحرس في ثياب مدنية. من شباك السيارة قدمت لهم بطاقة الدعوة المختومة بخاتم تفحصوه جيدا وتأكدوا أنني لم أقم بتزوير هذه البطاقة. انحنى أحدهم على شباك سيارتي وطالبني ببطاقة تثبت هويتي. بقليل من الزهو قدمت له بطاقتي الصحفية حيث أنني مدعو إلى هذا اللقاء باعتبارى كاتبا صحفيا. لكنه رفض الاعتراف بها. وكنت قد تعمدت أن ألقي نظرة إلى محفظة نقودي بمرجها الجلدي المزدان بعديد من الكارنيهات: كارنيه نقابة الصحفيين، كارنيه اتحاد الكتاب، كارنيه نقابة المهن السينمائية شعبة السيناريو، كارنيه ممغنط لدخول مبنى الإذاعة والتلفزيون. إلا أنه رفض كل هذه الكارنيهات وأصر على البطاقة العائلية أو جواز السفر. وكنت مزوداً بهما معا ولكن في حافظة الأوراق التي وضعتها في الخزنة الخلفية للسيارة. قلت له هذا، فقال: إذن فأرني رخصة القيادة: قلت على سبيل المداعبة:تعترف برخصة القيادة ولا تعترف بالبطاقة الصحفية وبطاقة اتحاد الكتاب؟ قال بخشونة لا مبرر لها: "أريد دليلا صادرا عن وزارة الداخلية!".

أعطيته رخصة القيادة، فتمعن فيها جيدا ونقل البصر بين وجهي والصورة الملصقة عليها ثم أعادها لي قائلا: تفضل.

زحفت السيارة قليلا، اجتازت البوابة في اللحظة التي كنت قد شعرت فيها بشيء من الانسحاق لازدراء الشرطي لبطاقتي الصحفية وبطاقة اتحاد الكتاب. وكنت على يقين من أنني صائر إلى فقدان شخصيتي نفسها بعد قليل، فداهمني الإحباط، فالتمست العزاء لنفسي بأن هذا الذي جرى لي يشمل الجميع، وأن هناك من هم من المقترض أن شخصياتهم قوية ومرموقة في المجتمع يرحبون بفقدانها عن طيب خاطر وأريحية إنهم يتطوعون بنفيها باديْ ذي بدء وإلقائها خلف ظهورهم على عتبة هذه البوابة. راودتني الرغبة في الاستدارة والخروج لعلني أسترد قليلا من الهواء النقي الذي بدأت أفتقده حيث شعرت بأن صدري صار أضيق من ثقب الإبرة، إلا أن الخروج كان مستحيلا، فوجدتني أستجيب لإشارة أحدهم بأن اقترب بالسيارة من هذه المجموعة الواقفة تتحلق جهازا غامضا متمددا على الأرض. أمروني بأن أزحف بالسيارة فوقه ثم أنزل منها، كانت أنكفئ على بوزي وأنا أنسلت من بين عجلة القيادة والكرسي لأتجه نحو من أشار لي بالاقتراب. الجهامة على وجهة تكاد تقنعني بأنني مجرد حشرة يمكن سحقها باخذاء وتسويتها بالأرض.

راح يفتشني، يتحسس جيوبي، وتحت إبطي،وبين ساقي المرتعشين. خاطر مسكين مرهق يطل في حذر شديد من تحت طيات الظلام المتراكم فوق رأسي يقول لي بهمس وبحروف متآكلة: أنت لم تطلب هذا اللقاء ولم تسع إليه مطلقا بل طلبت له فما المبرر لكل هذا؟!.. إلا أن هذا الخاطر كان كشعلة عود الثقاب تحت ريح عاصفة سرعان ما انطفأ مخلفا رائحة خانقة، وصفرة الريح في أذني قائلة: يكفيك شرف اللقاء كما أنك لست أقيم من كل هؤلاء الذين تنط السعادة من وجوههم.

أمروني بركوب السيارة والاتجاه بها إلى المركن. الفرحة بوجود مساحة للركن بسهولة كانت أكبر من فرحتي باجتياز المضيق الخانق، ذلك أننا لم نعد نفرح بشيء جديد يضاف إلينا، ليس فحسب لأنه لم يعد ثمة من جديد على الإطلاق، وإنما لأن الفرحة بالخروج من مأزق أو من ضائقة أصبحت أملا من الآمال الصعبة يتمناها المرء طول حياته حتى وإن كان الخروج من مضيق يعني الدخول في مضيق تال.

بعد أن أمضيت بضع خطوات توجست من لص مجهول يفتح خزنة السيارة ويسرق حافظة الأوراق الجلدية متوهما أنها تحوي نقودا، ثم تذكرت أنني يجب أن اعتاد عدم السير في الشارع أو التوجه إلى أي مكان إلا وبطاقة الهوية مشرعة في يدي. وغضبت من نفسي لأني أصبحت استثقل حمل أي حقيبة حتى ولو كانت مجرد حافظة لا تتسع إلا لنوتة وقلم وبطاقة وجواز سفر ومقالة تحفظها من العرق ربما أسلمها للجريدة التي أعمل بها. تأبطتها شاعر الأول مرة أنها بلا ثقل على الإطلاق بل وشعرت- ربما لأول مرة أيضا- أنها يمكن أن تكون أنيقة وأن حملها ضروري كالثوب الذي أرتديه سواء بسواء. قرب باب القاعة التي سيتم فيها اللقاء المأمول المرتقب استوقفني بملابس مدنية تشبه ملابسي بالضبط، أعادوا النظر والتدقيق في بطاقة الدعوة، ثم أعادوا تفتيشي بشكل أسرع، ثم أطلقوا سراحي، فمضيت كالفرخ الدائخ. على الباب واجهني مستطيل من الخشب بأربعة قوائم، وعلى مقربة منه جهاز كبير غامض رابض كالمصيبة المتوقعة، يتحلقه بضعة رجال أشداء، طالبوني بتسليمهم سلسلة المفاتيح والساعة والخاتم الفضي. فعلت لك مجتهدا قدر الطاقة ألا تظهر علي وجهي شبهة التذمر أو الامتعاض. طالبوني كذلك ببطاقة، أية بطاقة تثبت أنني الشخص المدعو للقاء.في هذه المرة شعرت بقليل من اللذة في التحدي بإبراز بطاقتي الصحفية والادعاء بأنني لا أحمل سواها لعلهم يحققون رغبتي الخفية ويمنعونني من الدخول، لكنهم تفحصوها وأفرجوا عنها وعني بابتسامة شاحبة. لحق بي صوت أحدهم مستدركا:

-"الشنطة لو سمحت!"

سلمته حافظة الورق ووقفت، فتحها مرر بيده في كل ثنية من ثناياها، ثم توقف عند القلم المشبوك في أنشوطة جلدية مخصصة له. صار ينقل نظراته بيني وبين القلم في استمرارية واضحة مخيفة ولسان حالة: يقول :" وقعت في يدي أيها المجرم العتيد". فسقط قلمي على الأرض وتهشم مثل كوب زجاجي. تسمرت في وقفتي حتى لا أهمس على شظية من شظاياة المتناثرة على الأرض بحذر وارتعاش، مد أطراف أصابعه وشد القلم من أنشوطته، صار يقلبه بإمعان وقد شحب وجهه وارتبك لدرجة أن زملاءه استرابوا في الأمر فصاروا ينظرون في القلم بفضول واستثارة. ضحكت ضحكة هستيرية قصيرة جوفاء، فالقلم ثمين، تحفة فنية، أعتز به ولا استخدم غيره طوال ما يقرب من ربع قرن من الزمان، فما الذي اكتشفوه فيه الآن يا ترى؟!

هاهم يقلبونه في حذر وخوف شديدين، كل واحد يسلمه إلى الآخر فيتلقاه مصدوما يكاد يتراجع إلى الوراء من الرعدة ذلك أن شكل القلم غير مألوف، إذ هو تخين جدا، مقلوظ الرأس بطربوش معدني لميع، يشبه أصبع الديناميت غير أنه شديد الفخامة مصنوع من معدن ثمين أزرق اللون، غطاؤه محزم بدوائر فضية، ومشبكه ذو ميكانيزم دقيق حيث يمكن الضغط على طرفه الأعلى فيرتفع المشبك ليحتوي أية تخانة، ثم إن سنه من البلاتين الخالص، ويعمل بواسطة أنبول جاف يستبدل بغيره كلما نضب، تحت مشبكة باللون الأحمر علامة مسجلة باسم شركة عالمية مسجلة باسم شركة عالمية كبرى اسمها هارلي متخصصة في الموتسيكلات والمصنوعات الجلدية بجميع أنواعها، يباع بحوالي ثمانمائة دولار، ويعطي كهدية لمن يشتري من الفرع الرئيسي بعدة آلاف. كنت أزهو بد دائما، ولا أضعه في جيبي حتى لا أعيره لأحد وحتى لا يضيع، وحينما يستلفت نظر أحد زملائي أثناء كتابتي به أزعم أنني اشتريه بحر مالي في إحدى سفرياتي المزعومة.

طال تفحصهم القلم حتى صفيت كل أنبولات الدم الداخل عروقي. ولما رأيتهم يفتحونه ويفكون أوصاله قطعة قطعة في جدية هائلة خفت منه، خفت من قلمي الذي عاشرني ربع قرن على الحلوة والمرة أبثه أشواقي ولواعجي وأسراري وأمنياتي وآمالي وأفراحي وأحزاني، أقدمه وأدرك أنه الشيء الوحيد المحترم في هذا العالم، الوحيد الذي يليق بأن أجلس أمامه عاريا كما ولدتني أمي، الوحيد الذي يليق بي أن أعترف له وأن أعطيه ظهري وأنا آمن. الآن أشعر بأن هذا القلم اللعين لابد قد خدعني في شيء ما، بشكل ما، وأنه دبر للإيقاع بي وعما قليل قد يوردني موارد التهلكة. صرت أضحك بشكل هستيري ضحكات شاحبة مزعجة فارغة من المحتوى كخبط الصفيح في الصفيح، فيما رحت أهذي كأنني أتبرأ منه:

"ها. هىء.. ظننته والله تحفة لطيفة تثير الإعجاب!!" آسف! لم ألاحظ أن شكله مزعج !! أصله جاءني هدية من صديق يقيم في أمريكا!! لم أدفع فيه مليما! ربك والحق هو حمار شغل ليس مثله بين الأقلام الحديثة!! لهذا فحسب أحمله معى في حافظتي!! على فكرة إنه قلم لطيف.. يمكنني أن أستغني عنه لأحدكم إن كان يروق لكم!! عندي أقلام كثيرة! كثيرة جدا!! تفضل خذه لو أردت!

صحيح صدقني! لقد سئمت منه وأريد تغييره وهذا كل ما في الأمر!!

لكنه أعاده لي مفكوكا. وكان متجهما لدرجة أشعرتني كأنني مازالت تلميذا صغيرا غرا في المدرسة الإبتدائية أمام مدرس ابن امرأة غير فاضلة لا يرحم. مددت يدي فتلقيت أشلاء قلمي. من فرط الشعور بالغيظ والمهانة رفعت يدي لأرمي بالأشلاء على طول ذراعي وقد خيل لي لحظتها أنها صارت مجرد أشلاء يستحيل وصلها، وأن القلم قد انفض سره وانفك سحره ولن تقوم له قائمة بعد الآن.. فإذا بقبضه حديدية تقبض علي يدي، وصوت حديدي يأمرني بغلظة وحدة:

-"ضعه في جيبك! إياك أن ترمي بأي شيء هنا!"

دسست أشلاء القلم في جيب الحافظة. عبرت المستطيل الخشبي إلى الداخل حيث استرددت سلسلة مفاتيحي وساعتي وخاتمي الفضي. مضيت نحو القاعة أتعثر وأتخبط أمام نظرات فضولية لا حصر لها كانت تتابع الموقف في شغف عجيب تفوح منه رائحة الشر النفاذة. أخذت النظرات ترمقني في استرابة، توسع لي الطريق كأنني وباء معد، حتى الذين أعرفهم ويعرفونني من زملاء وأصدقاء أشاحوا وجوههم عني.

ارتميت على أول مقعد قابلني رحت في غيبوية كاملة انقطعت خلالها صلتي بكل شيء حولي. وحين أفقت فجأة فاتحا عيني بصعوبة كانت كتل الزحام تدفعني نحو الباب إلى المستطيل الخشبي وكانت الشمس تزحف إلى المغيب، لكن الوجوه من حولي كانت كلها جديدة تماما، لم أتعرف على أي وجه. على أن شعاعا ضئيلا جدا من الضوء انبثق في رأسي ثم انطفأ كلمعة عود الثقاب العاجز عن الاشتعال تحت ريح عاصفة. على ضوئه الخافت تبينت أنني قد دخلت هذه القاعة على نحو ما منذ حوالي سبعة عشر عاما وها أنذا أخرج منها، تيقنت من صحة هذا الآن نفس الخاطر المألوف لي قد راح يراودني مكررا نفس العبارة التي لم تتحقق أبداً: هذه آخر مرة أحضر فيها مثل هذا اللقاء.

 

 

خيري شلبي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات