عقلية التطرف

عقلية التطرف

يحمل الشيخ عبد المجيد بو الأرواح- في رواية "الزلزال" للطاهر وطّار- صفات النموذج البشري للمثقف التقليدي الذي ينقلب إلى متعصب ديني، متعصب ينطوي في داخله على رغبة تدمير العالم المدني الذي لا يستجيب إلى نواهيه. ولا تنبع هذه الصفات من كون الشيخ درس سنوات سبع بجامعة "الزيتونة" وإنما من انحيازه إلى تيارات النقل الجامدة، وآلية تفكيره الذي يقصر الحق على ما انتهى إليه، والباطل على ما انتهى إليه المختلف عنه، مقرناً الحق بالحقيقة التي ينجو من يتبعها، والباطل بضلالة المعصية المفضية إلي النار.

ويتأرجح وعي هذا الشيخ ما بين قطبي الوعيد بالنار والوعد بالجنة، لا وسط أو توسط بين النقيضين، فالحدية عنصر تكويني لافت في عقلية هذا الشيخ الذي لا يعرف سوى الانتقال من النقيض إلى النقيض، ومن الأقصى إلى الأقصى، نافراً من الوسطية وأنصاف الحلول، وذلك بحكم تكوينه الذي بدأ من "ذهنية ريفية متخلفة، تنتقل من النقيض إلى النقيض في أقصر وقت"، وانتهى إلى نزعة اتباعية متعصبة وحيدة الاتجاه هكذا، ظلت عقلية الشيخ بعيدة عن إمكان التوسط بين المتقابلات، لا ترى في الآراء إلا المختلف المفروض والمتفق المقبول، ولا تبصر في الأفعال الإنسانية إلا معصية تفضي إلى النار أو طاعة تفضي إلى الجنة، ولكن هذه العقلية في سوء ظنها الذي لا يفارقها بما حولها لا ترى سوى المعصية، ولذلك فإن وعيد الشيخ أكثر من وعده، ما ظل يرى في تغير العالم المحيط به بدع الضلالة التي لابد أن تفضي إلى كارثة تزلزل العاصين زلزالاً شديداً.

وقد تعلم هذا الشيخ من تكوينه العلمي التقليدي إيثار الاتباع على الابتداع، فانحاز إلى من قضوا على المعتزلة والمتفلسفة، وظل نافراً من أهل الرأي، سائراً في الطريق التي عبدها السلف من أهل التقليد الجامد، لا يكف عن تأكيد "أن كل إثارة للتشكك فيها دفع للمارقين والملحدين وأصحاب البدع" ومن هذا المنظور، فالسؤال ضلالة ومعصية عند هذا الشيخ، شأنه شأن "إعادة النظر في العادات والتقاليد وحتى الخرافات"، لأن إعادة النظر في أمر من الأمور تشجع على المضي بعيداً في ريق الضلال، و"المارقون يستغلون صيحات المخلصين من رجال العلم والدين فيذهبون بعيداً" فيما يقول الشيخ الذي يرى" أن كل ما يربط العامة بالله جائز شرعاً حتى ولو كان عبادة الأوثان".

ويعني ذلك اختلاط معنى السلفية الحدية بمعنى الأصولية الجامدة في خطاب الشيخ الذي لا يكف عن تكرار شعاراته منذ البداية إلى النهاية:" الدين الإخلاص للسلف. وكل بدعه ضلالة"، وللبدعة معان تتسع لتشمل كل مالا يدخل في دائرة التأويل النقلي للشيخ شأنها شأن الضلالة التي تقع على أفعال المغايرة والاختلاف التي اتسعت فشملت كل شيء، واغتربت بالشيخ في عالم لا يقبل أكثره إلا صفة الضلالة المفضية إلى النار، الدالة على كثرة المارقين والملحدين وأصحاب البدع.

العودة من الماضي

والعودة إلى صورة بعينها من الماضي المؤوّل سمة أساسية في خطاب الشيخ، تلزم عن هذا الاختلاط فهو خطاب لا يرى إطاره المرجعي إلا فيما مضى، ولا يصف بالإيجاب إلا ما سبق، ويعكف على الماضي بما يحول بينه وإدراك بعض الإيجاب في متغيرات الحاضر التي هي موصومة سلفاً بما يفضي إلى النار. والمستقبل الواعد في منطوقات هذا الخطاب هو المستقبل الذي يستدير إلى الماضي كي يستعيده، وكي يرده على ما كان عليه بواسطة عملية تأويل تجعل من الحاضر سالباً، دائماً، بالقياس إلى الماضي، ولذلك فإن قسنطينة الفرنسيين في خطاب الشيخ أفضل من قسنطينة الاستقلال، إذ "كانت الأمور لا تختلط مثل هذا الاختلاط "، و "كان الناس يحافظون على الأقل على الحدود الفاصلة بينهم " مقتنعين بأن الله عز وجل، خلق الناس درجات ومراتب "، ويلزم عن ذلك على نظرة ارتكاسية للتاريخ لا يخلو منها الخطاب، نظرة ترى في التاريخ حركة منحدرة إلى الأمام، حركة هبوط لا مفرّ منها، وتقدمها هو نوع من العودة على البدء.

ومن هذا المنظور، فإن ما تفعله عقلية التطرف المنتجة لهذا النوع من الخطاب هو تغطية مقاصدها النفعية بتأويلات دينية، لا تكف عن إنتاجها بهدف إيقاع المطابقة بين مصالحها- اقتصادية أو سياسية- وما تراه على أنه صحيح الدين، وعندئذ، يغدو كل ما يدعم مصالحها داخلاً في دائرة الهدى والحق والخير، وكل ما خالف مصالحها واقعاً في دائرة البدعة والضلالة والباطل، ويعني ذلك الإبهام بالتطابق بين خطاب هذه العقلية وخطاب الدين، ومن ثم تحويل المتطرف إلى ناطق رسمي باسم الدين الذي اتحد به وصار إياه.

وبالطبع، يسهل كشف المقصد الحقيقي من وراء التأويل برد خطاب التطرف على المصالح الاقتصادية أو السياسية التي يؤديها وظيفياً، وهي المصالح التي تتجلى في حالة الشيخ بو الأرواح حين نسمعه- خلال تدفق تيار وعيه- يقول لنفسه. إن الشعب الحقيقي "هو التجار.. وليس العمال والخماسة والرعاة"، وكذلك حين يصرخ محتجاً: "إذا صار ابن الراعي معلماً فما تراه يكون ابن الغني وابن الطبيب و المهـندس، ومن يبقى يصنع الفريك والسمن ويجمع البيض ويصنع الصوف؟ هكذا فجأة واحدة ، من القعر، من أسفل سافلين إلى أعلى عليين، يا لها من وقاحة"، ونسمع في موضع آخر: "هذا هو النفاق.. هذا هو إفساد الشعب، لا يعطونهم العمل، ويعطونهم الدواء والتعليم، ما سيكون دور من يتمكن من هذا الحي من دخول الثانوية أو الجامعة، إنهم بهذا يخرّبون الدين والأجيال يجمعون بين أبناء الأغنياء والفقراء في ثانوية أو جامعة واحدة، ويعطونهم معلومات واحدة، إنهم يناقضون إرادة الله، ويقفون عرضة لها، ويفسحون المجال إلى الخارج ليصدّر أفكاره الهدامة إلينا".

ونسمع أخيراً:" إن الله عز وجل خلق الناس درجات ومراتب"، و"الشيء لمن يملكه وارد في القرآن"، و"الناس راضون بوضعيتهم، قانون بما جاد به الله عليهم من فيئه، وبما قسم عليهم مقسّم الأرزاق"، و" أن الأرض يرثها عبادي الصالحون" و"ملكية الأرض لا تأتي لكل واحد، كالموهبة .. كالبكاء .. كالعبقرية". والتأميم هو"المساس بالنظام الربّاني السرمدي "، و"كل منكر يمكن يأته المارقون إلا أن.. يخرجوا عن ناموسه "، الأصل في كل هذه التداعيات الحجاجية- بالمعنى المستخدم في علم النفس التحليلي عند فرويد- هو المصلحة الشخصية التي تبين عن نفسها بقول الشيخ: "لن ينتزعوا مني أرضي، أنا صالح، أنا من عباد الله الصالحين، أورثني أرضه، ورفعني في الرزق درجة ".

لغة التكفير

والآخر الأجنبي قرين المختلف المحلي أو المغاير الوطني في هذا الخطاب، يقع الجميع في منطقة الرافض، اختلافهم مصداق ضلالتهـم، وشدة مباينتهم باعثاً على الحكم بكفرهم، والحكم بكفرهم وسيلة الإقصاء والاستبعاد والإزاحة في نهاية الأمر، ولذلك يستبدل الخطاب لغة التكفير بلغة التفكير، ابتداء من إشارة إلى سكان المدينة بوصفهم "نسل السوء" و" بذور الشر"، والإشارة إلى دولة الاستقلال بوصفها "دولتهم الملحدة"، والنص على أن "الاشتراكية منكر" والحكومة هي "حكومة الكفار والملحدين "، والتأميم "مشروع إلحادي خطير"، ولا تفترق عن ذلك كثيراً أوصاف المذاهب المخالفة في التراث، حيث كتابات ابن خلدون الذي يوصف بأنه "زنديق ذكي " وجد طريقة خبيثة لإعلان زندقته دون أن يلحقه ضر". وصورة المرأة في خطاب عقلية التطرف زرية، فالمرأة أصل الشر في الكون، خلقها الله لإشباع شهوة الرجل وفتنته في آن، وهي حبالة إبليس وجرثومة الإثم والمتطلعة من عيون النساء السافرات، خصوصاً الشابات والأوانس اللائي يتميّزن بعيون نهمة، ونظرات مشحونة بالفضول والتطفل، ولذلك هن: " بقرات إبليس" اللائي "لا يليق لهن إلا الكهوف والمغاور". وتلك وصية مؤكدة من وصايا النقل الجامد، تحديدا في تأويلاته المتعصبة التي نقرأ فيها شيئاً من قبيل: "عليه الصلاة والسلام تزوج عائشة في التاسعة، أراد عليه الصلاة، والسلام أن يقول لأمته إن غواية الأنثى كأنثى تبدأ من يوم ولادتها". ويكشف هذا المنحى من الخطاب عن وعي الشيخ المتطرف بالمرأة، خصوصاً في علاقته المتعارضة بها من حيث هي مناط رغبة حفظ النوع، ومصدر الغواية المفضية إلى النار، ومن ثم يكشف الخطاب عن سلوك متناقض مع المرأة، سلوك أفضى إلى اقتران الجنس بالموت أو القتل في حالة الشيخ بو الأرواح، فقد كان تفجّر الرغبة ينطوي على هواجس الامتلاك، والشعور بالإثم يدفع إلى التخلص من المرأة الممتلكة والمنتهكة بالخنق، وذلك في مفارقة لم تخل من عدالة شعرية تجسّدت في العقم الذي لم يفارق الشيخ رغم تعدد حريمه .

والاستشهاد بالآيات القرآنية عملية دالة في تكوين خطاب التطرّف في أدائه لوظائفه المرتبطة بمصالح فاعل الخطاب، وهي ملمح لا يفارق الحاجة التخييلية التي تقوم على إيهام المتلقي بسلامة مضمون الحاجة أو مقول قولها، وذلك بإضفاء طابع الشرعية على التأويل المصلحي المغرض، ذلك التأويل الذي لا يعبأ باقتطاع الآية من سياقها، وصرف كلامها عن وجهه المراد في أصل النص الديني، وتبدأ عملية الاستشهاد في رواية "الزلزال " بالآية التي تغدو دالاً متعدد المدلول، أعني الآية الثانية من سورة "الحج " التي تقرأ فيها: سورة الحج، الآية: 2يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، وهي الآية التي تغدو بمنزلة "القرار" الثابت لكل التنويعات النغمية التي تنطق منها البنية الدلالية للرواية، ولا تتباعد عنها لكي تعود إليها بمجلى دلالي مواز لمدلولات"الزلزال" المتعددة في النص. وسواء كان المركز الدلالي للزلزال هو الوعيد، أو الإرهاص بالنهاية، أو وصف الشعور الذي يزلزل النفس في أقسى وأقصى درجات توترها، فإن النتيجة واحدة من حيث وظيفة الاستشهاد بالآية القرآنية التي تتحول إلى وسيلة من الوسائل التي تتحقق بها عملية المحاجة التخييلية لوعي التطرف.

وإذا كانت الآيات المستشهد بها تنطوي على نوع من رؤيا النهاية الهولية التي تنذر بزوال العالم الآثم في عنف ردّ الفعل التأويلي إزاءه، فإن هذه النهاية ينطقها خطاب الشيخ على أنها النتيجة الطبيعية للإثم الذي ملأ الأرض، والذي لن يفارقها إلا بعد أن يطهرها الله منه بزلزال عظيم، زلزال يهدم البدع والضلالات، ويزلزل الأرض بالملاحدة والكفّار، فمن علامات قيام الساعة أن يتطاول الحفاة العراة، رعاة الشاة في البنيان، وأن تلد الأمة ربتها، وأن ينقلب الأسفل على الأعلى، ولا يبقى هناك أسفل وأعلى، تلك هي علامات قيام الساعة التي تفضي إلى الزلزال أو تغدو إياه، لأنها من حيث المعنى مقترنة به: (1) اقتران السبب بالنتيجة على نحو ما تدل علاقة التناص التي تومئ إليه الآية (214) من "سورة البقرة": سورة البقرة، الآية: 214 مستهم البأساء والضراء وزلزلوا... ، والآية (11) من "سورة الأحزاب ": سورة الأحزاب، الآية: 11هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديداً . (2) واقتران النظير بنظيره على نحو ما تدل الآيتان الأوليان من "سورة الحج ": سورة الحج، الآيتان: 1 ـ 2 يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم. يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.

بين المشروع القومي والديني

ولكن، كيف يتحقق الحلم المرجوّ؟ وعلى أي شيء يتحد أشراف الأمة على امتداد ديار الإسلام لإقامة يوتوبيا الشيخ بو الأرواح؟ البداية هي مناقضة المشروع القومي بالمشروع الديني، واستبدال التحديث المدني (النزّاع إلى العدل الاجتماعي والحرية الفكرية السياسية التي تنبني على التسليم بحق الاختلاف والتعددية واحترام الآخر) بالصحوة الأصولية التي تنبني على تأويل ديني مغلق، يحقق مصالح دعاته، ويسهم في قمع المغايرين والمخالفين بنفيهم إلى خارج دائرة الدين، ويوازي هذا الاتفاق العمل التنظيمي السري بعيداً عن أعين الحكومة وسمع الكفار والملاحدة، ويكون هذا العمل بالتنسيق والتكاتف بين القوي التي تسعى إلى تقويض الدولة المدنية، في منظومة انقلابية متكاملة، تشمل التبشير في " الزوايا " و " المدارس" و "الجمعيات الدينية" لجلب الشباب الذين يمكن تحويلهم إلى قنابل موقوتة للعنف، كما يمكن تدريبهم لكي يغدوا جند دولة الإرهاب الديني التي تسعى إلى استعادة العالم الاعتقادي والطبقي للشيخ المتطرف.

هذه المنظومة الانقلابية يلفتنا إليها خطاب الشيخ بو الأرواح في تدافع تيار وعيه الذي يبدأ بالزوايا الدينية الباقية، من حيث هي "إمارات أمل في الحياة" وفي أن يكون العالم "مقراً لعبادة الصالحين.. منقذاً إياهم من شر المارقين الآثمين الملحدين "أما المدارس، فهي معمل التفريخ الذي ينقلب على خطة الحكومة الإلحادية في إشاعة التعليم المدني، وينسفها من جذورها، خصوصاً حين تتحول هذه المدارس ومن ثم الجامعات- إلى بؤر لنشر أفكار التعصّب والتطرف، وتعليم ثقافة التقليد والنقل والاتباع لا ثقافة التجديد والابتكار والابتداع ولا غرابة والأمر كذلك- في أن يقول الشيخ بو الأرواح "هذا هو الوقت المناسب للعمل الجاد، ومهنة" التعليم بالذات، والإشراف على، مؤسسة تعليمية كبرى يعني ما يعني. يجب محاربة العدو بكل الأسلحة، وفي ثانويتي، يجري العمل باستمرار على قطع خط الانحراف والمروق أمام عدد كبير من شبّان يتأهلون للقيادة في جميع المجالات، وأكثر من ذلك. للدخول إلى الجامعة لمواجهة طغمة الشيوعيين ". ولكن لن تتحقق الخطة الانقلابية التي ينطوي عليها عقل الشيخ بو الأرواح وينطقها خطاب وعيه المتوتر، ولن يتحقق للخطة هدفها في المدارس الجامعات إلا بفاعلية العنصر الثالث من المنظومة الشاملة، حيث الدور الذي تقوم به جمعيات التطرف التي تتخذ لنفسها عناوين خادعة وشعارات براقة، كي تخفي وراءها الهدف الحقيقي من نشاطها الذي يعمل على تقويض أركان المجتمع المدني.

محاربة المفكرين

ومنطقي أن يفضي ذلك إلى خنق حرية الفكر والإبداع، ومحاربة المفكرين والمبدعين ما ظل تفكيرهم وإبداعهم رافضاً لأن يسجن في المدار المغلق للنقل الجامد والتعصب المقيت، وليس مصادفة، والأمر كذلك، أن تشير تداعيات الشيخ بو الأرواح إلى الكاتب الروائي الكبير لنجيب محفوظ، ضمن حديث الشيخ عن حي سيدي مسيد في قسنطينة، ذلك الحي الذي يبدو- فيما يقوله- كحي الجرابيع في رواية "أولاد حارتنا " لنجيب محفوظ، وهي كتاب ذلك الكافر الذي "جبن المصريون عن قتله بسبب ما فيه من كفر وإلحاد وسخرية بالأنبياء والمرسلين والملائكة"، ولن نتوقف عند مفردات التفكير في الكلام عن نجيب محفوظ، وهي المفردات التي لم تكف عقلية التطرف عن إنتاجها على نحو متصاعد في الأربعين سنة الماضية، فالأهم هو لفت الانتباه إلى تحقق ما طالب به الشيخ بو الأرواح، بعد نشر رواية " الزلزال " بحوالي عشرين عاماً.

وكان ذلك حين حاول شاب في الخامسة والعشرين من عمره تقريباً، شاب من الذين ضللتهم أفكار تشبه أفكار الشيخ بوالأرواح، اغتيال نجيب محفوظ بعد حصوله على جائزة نوبل بست سنوات،" كما لو كان يقوم في مدينة القاهرة المصرية بتنفيذ الفتوى التي أصدرها الشيخ بو الأرواح في مدينة قسنطينة الجزائرية، داعياً إلى عهد من الإرهاب الذي مازلنا نعيشه إلى اليوم باسم الدين الذي يبرأ من إرهاب التعصب والتطرف، ولولا صدأ السكين التي غرسها ذلك الشاب في عنق نجيب محفوظ، مساء يوم الجمعة الرابع عشر من أكتوبر 1994، وسرعة بديهة الصديق المرافق لنجيب محفوظ، ووقوع محاولة الاغتيال أمام مستشفى من مستشفيات القاهرة، لانتهى عميد الرواية العربية الذي جاوز الثمانين من عمره إلى المصير نفسه الذي وقع للكاتب المسرحي الجزائري عبد القادر علولة وأقرانه الذين اغتيلوا بأيدي شباب، تعلّموا في المدارس الثانوية التي أدارها أمثال الشيخ بو الأرواح، وتلقوا دروس التطرف في "زوايا " مثل تلك التي تحدث عنها، وتابعوا تعلم مبادئ التعصب في الجمعيات الدينية التي أقامها قرناء الشيخ ليحققوا الهدف من مخططهم الانقلابي الذي أعلنه بو الأرواح عندما قال: "يجب محاربة العدو بكل الأسلحة".

وقد نجح هذا المخطط الانقلابي الذي وسم كل المخالفين له بالكفر الذي تستوي فيه الشيوعية والليبرالية والوجودية والقومية، فكلها بدع فاجرة وردت إلينا من الغرب الملحد، ولا بد من مواجهتها بما يقضي عليها، ويحقق الانتصار لدين الله كما يراه أمثال الشيخ ويتأولونه لصالح وتحقيق مصالحهم، وسيلتهم في ذلك إشاعة التقليد وإلغاء العقل، وزرع التعصب الأعمى في أدمغة الشباب، وقمع المخالفين بما يردع الجميع، ويخيفهم من اقتراف إثم المخالفة أو بدعة المغايرة أو ضلالة المباينة، ومن ثم اجتناب كل ما يدخله الشيخ وأمثاله في دائرة الزندقة والإلحاد التي لا بد من مواجهتها بالعنف الوحشي، هذا العنف هو ما دعا إليه الشيخ بو الأرواح في صرخات تهديده التي لم يسمعها غيره في ذلك الوقت، وفي مخططه الانقلابي الذي أعلن عنه واثقاً من نتائجه بقوله: "سيقيض الله لدينه من يستعيد عزّته وقوّته في النفوس، لا في الجزائر فقط، وإنما في ديار الإسلام كلها، فحيثما حل المرء، الآن، بالمغرب أو بتونس أو بالشام أو بمصر، وجد مظاهر الزندقة والإلحاد ".

 

جابر عصفور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات