عودة أشهر قاتل في التاريخ

عودة أشهر قاتل في التاريخ

برغم التقدم التقني المذهل في علوم العصر، تسجل الكائنات الدنيا وانتصارات تحيّر العلم والعلماء.

مرة أخرى ، وخلال فترة ليست طويلة ، يعود بنا ميكروب السل ( السدرن) Mycobacterium- tuberculosis- أشهر قاتل في التاريخ- ثانية إلى الوراء، إلى قمة أجندة الصحة العامة ، فبعد أن استسلم لنهبة ألف مليون شخص خلال هذا القرن والقرون السابقة، وما تلا ذلك من تفاؤل بالخير والثقة والرضا الصحي العام تجاه، يفاجئنا الميكروب من جديد، ومنذ منتصف العقد الماضي، بزيادة عدد الحالات الجديدة المصابة ، وارتفاع نسبة الوفيات بمرض السل Tuberculisis خاصة بين الشابات في سن الإنجاب- 15 و 44 عاماً ، ليس هذا في موزمبيق أو تنزانيا ولكن في أمريكا ذاتها، ذلك بعد أن كنا قد أوشكنا على نسيان هذا الميكروب اللعين، وعددناه من الميكروبات التي أمكن السيطرة عليها وترويضها ، فهل يا ترى استطاع العلم أن يحسم معركته مع مرض السل لصالحه، بحيث يمكن القول باطمئنان أنه حتى مع هذه الزيادة لا يوجد هناك داع للخوف من ميكروب السل، أم أن فترات التفاؤل والثقة كانت مجرد هدنة مؤقتة مع عدول لعين، قد تكون عواقبها وخيمة ومفجعة؟

الكارثة

في أكثر بلدان العالم تقدّما ، الولايات المتحدة الأمريكية ، سجلت حالات السل معدل انخفاض سنوياً حوالي 6% ، في الثلاثين سنة التي سبقت عام 1985 ، لدرجة أن المضاد الحيوي الستربتوميسين Streptomycin المكتشف في أمريكا- عام 1943 والمستخدم في علاج مرض السل، لم تكن هناك أي زيادة في إنتاجيته على حسب الدليل الشهري للأدوية المستخدمة ( MIMS ) بأمريكا وذلك في بداية هذا العقد، ليس ذلك فقط، بل إن إنتاجه في ذلك التاريخ قد انخفض لأدنى مستوى له ، مما جعل الحصول عليه من الصيدليات أمراً ليس سهلاً حتى في أمريكا البلد الذي اكتشفه وقدّمه للعالم، إلا أنه منذ نحو عام 1985 زاد عدد الحالات الجديدة المريضة بالسل سنوياً إلى 16% ، وقد أشارت منظمة الصحة العالمية ( WHO ) في عام 1997 إلى أن هناك 900 مليون شابة في عمر الإنجاب حاملة لميكروب السل ، ومن المتوقع أن تظهر الأعراض المرضية على 2.5 مليون منهن خلال العام الحالي، ومن المتوقع أن يموت منهن أكثر من مليون امرأة خلال العام الحالي أيضاً، وإذا استمرت معدلات الزيادة الحالية في أعداد مرضى السل على ما هي عليه منذ عام 1985 ، فإن ذلك سيمثل- بالقطع- أمراً خطيراً.

وإذا جاز لنا أن نلقي باللوم على أحد في زيادة انتشر ميكروب السل، فيجب أن نلقي باللوم على زيادة مقاومة الميكروب للعقاقير في محاولاته المستميتة للبقاء وللحفاظ على نوعه من الإنقراض، وعلى طبيعته التركيبية الخاصة ، وعلى الاستخدام السيني للأدوية، وعلى عدم رغبة معظم مرضى السل في شتى بلدان العالم في تناول أدويتهم، خاصة أن مدة تعاطي الدواء د تطول في العادة إلى 6-18 شهراً بسبب بطء نمو الميكروب ، وعلى الهجرة المتزايدة للأفراد المرضى من بلدان يتفشى فيها المرض بآسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية وأوربا الشرقية ، على سوء حال السجون والملاجئ والبيوتات الفقيرة في كثير من منطاق العالم حيث يعاني الأفراد بهذه الأماكن من التغذية السيئة والدخول المنخفضة، والرعاية الطبية الناقصة، والانتشار المتزايد للميكروب ، والافتقار إلى المناعة الجيدة، كذلك ترجع الزيادة في انتشار الميكروب إلى زيادة متوسط عمر الإنسان، ومن ثم زيادة أعداد كبار السن، وهو إن كان أمراً لا يخلوا من طرفه، إلا أنه يستند إلى حقيقة أن ميكروب السل يهاجم كبار السن بخاصة في المجتمعات الفقيرة ، وأخيراً فقد ساهمت الزيادة الحالية في أعداد مرضى الإيدز AIDS في زيادة أعداد مرضى السل، حيث إن هناك علاقة طردية واضحة بين المرضين ، فالسل هو المرض الرئيسي الذي يصيب الأفراد الحاملين لفيروس الأيدز، وهو أمر لا يبشر بخير بسبب الزيادة الحالية المستمرة في أعداد مرضى الإيدز.

وعلى الرغم من الأبحاث العديدة التي أجريت في الفترة الماضية من قبل علماء شتى على ميكروب السل، فإن مرض السل نفسه الذي يسببه هذا الميكروب لم ينل حظه الكافي من البحث والدراسة كأمراض أخرى كثيرة ، ففي الوقت الذي ركزّت فيه الأبحاث على اكتشاف كيف ينقل الميكروب المرض، وكيف يستجيب للعقاقير الموجودة بالأسواق؟ وعلى ظروف نشأة السلالات المقاومة منه ، يجد أن السنوات الأخيرة لم تشهد تطوير أي عقاقير محسنّة ضد مرض السل، كما أن الأبحاث لم تطرق بكثرة وجدّية نواحي معينة، مثل تحديد الجينات المسئولة عن المرضية في الميكروب كما هو الحال مع ميكروبات أخرى كثيرة أقل خطورة منه، ومرجع ذلك- بالقطع- إلى أن النظرة لمرض السل قد تغيرت، فقد أصبح ينظر إليه على أنه لم يعد تلك الكارثة الاجتماعية الخطيرة التي طالما أقضت مضاجع البشرية في معدلات المرض، ولذلك فقد أصبح مرض السل هامشياً سواء كهدف للمهتمين بأمور الصحة العامة، أو كتحد للعلوم الطبية الحديثة.

ميكروب مثابر

يتميز ميكروب السل بوجود طبقة من الدهن والشمع حول الخلية تجعله مقاوماً للجفاف، ومن ثم يمكنه أن يبقى حيّاً لشهور طويلة باحثاً عن مكان ما بعيداً عن ضوء الشمس المباشر، ولذلك فقد استطاع هذا الميكروب أن يثابر لسنوات وسنوات بأعداد قليلة ، في البيئة، وفي الأفراد المعرّضين للخطورة كمدمني المخدرات، حتى أمكنه أن يبقى حيّاً حتى يومنا هذا، على الرغم من أن هناك أموراً عدة ساهمت في وقف هجوم الميكروب ، ومن تراجع المرض اللعين، مثل التغذية السليمة ، وتقدم المعرفة بكيفية المحافظة على الصحة، والتطعيم، والعلاج بالعقاقير وبخاصة المضادات الحيوية كالستربتومسين، واستبعاد شأفة المرض من قطعان الماشية، وبسترة اللبن.. وغير ذلك كثير.

وربما لم يكن مرض ما تأثير على الآداب والفنون مثل ما كان لمرض السل، ومرجع ذلك- بالتأكيد- للمقدرة غير العادية للميكروب على إحداث المرض لفترات طويلة قد تصل إلى سنوات عدة، مؤثراً بصورة قاسية على كل جزء من الجسم السقيم، الصورة الشائعة لمريض السل هي صورة شخص يعاني من الهزل القاسي المزمن والمدّمر، إلا أن ميكروب السل يمكنه أن يحدث نزفاً شديداً وحادّاً للرئة، وقد ركزّت الروايات والأفلام السينمائية على تصوير أشكال مرض السل وهو السل الرئوي ، على الرغم من أن ميكروب السل يمكنه أن يهاجم بشدة أي جزء من الجسم ابتداء من الجلد الخارجي وحتى المخ والمفاصل والعظام، وذلك في حال وصوله إلى شخص من شخص آخر عن طريق الهواء أو من جراء تناول كوب من لبن ملوث بالميكروب.

لقد ارتكزت الاستراتيجية الناجحة للبرنامج الأمريكي لمقاومة السل على ثلاثة أمور : أولاً: اختبار الجلد للكشف عن أي شخص قد يتكون تعرّض للميكروب، وثانياً : علاج المريض علاجاً طويلاً الأمد باستخدام عقاري الـ Isoniazide 1NH والريفاميسين Rifamycin ، وأخيراً عام من العلاج الوقائي باستخدام الـ (1NH) لأي شخص على اتصال لصيق بمريض ما للسل ، إلا أن ظهور سلالات من الميكروب مقاومة للعلاج بهذين العقارين ، ناهيك عن طول مدة العلاج، والتي تجعل من المرضى مستودعاً دائماً لانتقال الميكروب ، كل ذلك أدى إلى وقف معدل النقص في أعداد الحالات المريضة بالسل والذي شهدته الفترة من عام 1950 وحتى عام 1985 .

ماذا يحمل القرن الحادي والعشرين

أثبتت الدراسات أن عقار 1NH- العقار الرئيسي المستخدم في علاج مرض السل في الوقت الراهن- يتحول بصورة طبيعية داخل خلايا سلالات الميكروب الحسّاسة له إلى مواد أيضية سامة، هي- بلا أدنى شك- المسئولة عن تثبيط وموت الميكروب، أما سلالات الميكروب المقاومة للعقار، فليس بمقدورها تمثيل العقار إلى مكوناته السامة، ولذلك يأمل الاختصاصيون بالميكروبات أن يكون بمقدروهم في المستقبل القريب استبدال العقار بنواتج تمثيله السامة ، كعلاج قياسي لمرض السل، يقضي على السلالات المقاومة.

ويتوقع أن يكون علاج مرضى السل في القرن القادم من النوع قصير المدى بعد نجاح التجارب التي أجريت عليه في بلدان شتى خلال عام 1997 ، ويحتاج هذا النوع من العلاج إلى فترة تقل عن ستة أشهر، وإن كانت تكاليفه مازالت مرتفعة.

كذلك يأمل العلماء في التعرّف على جينات ميكروب السل المسئولة عن إحداث مرض السل تمهيداً لاستخدام أساليب الهندسة الوراثية في العلاج.

نعود مرة أخرى إلى إجابة السؤال الذي طرحناه في البداية، فالواضح للعيان حتى الآن- على الأقل- أن العلم لم يكسب معركته مع وباء السل العتيق، ومازال الميكروب من أكثر الميكروبات الممرضة خطراً على كوكب المرض.

حيث يقتل حوالي ثلاثة ملايين شخص كل عام على حسب ما أوردته منظمة الصحة العالمية ، كما أرتفع عدد الذين يحملون عصويات السل من خمس إلى ثلث سكان العالم.

وفي النهاية، هناك العديد من الأسئلة التي تطرح نفسها لعل أهمها : هل أعددنا العدة في بلادنا لمقاومة هجوم الوباء الأبيض، وقد أصبحنا في عالم بلا حدود أو حواجز؟

 

محمود السواح

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات