المسرح وتجاربه

المسرح وتجاربه

ماذا أضافت المهرجانات للمسرح العربي؟!

التجريب المعاصر في المسرح. في العالم وفي الوطن العربي على السواء ليس سوى أحد تجليات القدرة التي اختص بها الخالق الإنسان، سعيا إلى التجدد المواكب لتجدد الواقع الاجتماعي "المعرفي" التكنولوجي والسلوكي الذي يكتسح العالم ومجتمعاتنا وإنساننا العربي في عصرنا الجياش بالحركة وبالتغير.

في إحدى المداخلات المعارضة للتجريب المسرحي التي طرحت في الندوة المصاحبة للدورة الحادية عشرة " سبتمبر 1999 " لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، التي عقدت حول محور: "المسرح العربي: تبعية أم تثاقف ".. قيل إن المسرح المصري: "عرف- قبل المهرجان المكرس للتجريب- تطورا طبيعيا نابعا من تطور العالم في شتى الميادين، وكان التجديد في مختلف مراحله التاريخية ملبيا لاحتياجات المجتمع والجمهور والحركة المسرحية.. الأمر اختلف تماما بعد التجريبي.. " (ورد هذا النص في جريدة الجمهورية القاهرية يوم الاحد 5 سبتمبر" ولعله الاعتراض الوحيد الذي يحمل "فكرا" قابلا للمناقشة بين الاستنكارات المتوفرة للمهرجان المسرحي المخصص لعرض مبتكرات التجريب المسرحي في العالمين العربي والأجنبي في عاصمة مصر العربية، القاهرة.

ولأننا نكرس هذا الاستعراض السريع لاستكشاف ما حققه المهرجان عبر أحد عشر عاما للمسرح العربي- في بعض مراكز إنتاجه على امتداد الوطن، ومن خلال ما نلمس، سنة "أحيانا للفرق ذاتها" من تطور نتيجة تفاعل عملي "تثاقف" Accclturation ولا نكرس حديثنا هذا لأي غرض آخر، فإننا قد نحتاج إلى التعرف على أصول تحول التجريب من الاستجابة التلقائية لـ: "تطور العالم في شتى الميادين " إلى هدف يحدده الوعي الفنى- الفكري والإبداعي- بناء على إدراك واع لطبيعة ذلك التطور في العالم "الواقع" وتجلياته عندما تنعكس على المسرح.

تجارب في الفن

ففي الموسيقى، لم يبدأ "التجريب" إلا في نهاية الأربعينيات، وأصبحت " الموسيقى التجريبية " هي الموسيقى الشائعة في الولايات المتحدة في الخمسينات- كانت هذه هي الموسيقى التي انطلقت من تفاعل- نظري أو حتى: "علمي " مع الموسيقى الطليعية الأوربية التي كانت قد بدأت في العشرينيات. ولكن التجريب الموسيقي الأمريكي "الذي ربما يكون قد رسخت أقدامه اجتماعيا مع اكتشاف- واشتهار- ألفيس بريسلي، المغني الأسطورة- في بداية الخمسينيات " ذهب إلى أبعاد أوسع بكثير مما ذهب إليه الطليعيون الأوربيون، على يدي المؤلف الموسيقى " الموسيقار" الأشهر جون كيج " أول تلميذ أمريكي للنمساوي، الفذ أرنولد شوينيرج- مؤسس الطليعية الموسيقية الأوربية، بأسلوبه- أو تعبيره- الموسيقي الذي عرف باسم: الموسيقى المسلسلة Serial، ولكن كيج تأثر أكثر بمواطنه العبقري هنري كويل مخترع أسلوب العزف المركب الذي أدى إلى الثورة التجريبية في شكل العزف على البيانو بالقبضة أو بكل الأصابع دفعة واحدة لمجموعة نغمات Tones مختلفة في كتلة- دفعة صوتية واحدة ". وباختصار تمكن جون كيج من تحرير.

الموسيقى من السيطرة المطلقة التي تمتع بها المؤلف "الموسيقار" في الموسيقى الكلاسيكية، وأطلق العنان لحرية العازف " المؤدي " و" الجمهور الذي يستجيب العازف ".. ولحرية " الصوت " نفسه " راجع: الموسيقى التجريبية. كيج وما بعده- م. نيمان- نيويورك- 1974 ".

وفي السينما بدأ التجريب في فرنسا في العشرينيات من هذا القرن من خلال تفاعل مجموعة من العوامل المعرفية " الثقافية/ الفكرية " والفنية والتكنولوجية، يشهد على ذلك أن الكثيرين من رواد السينما الطليعية الأوربية وخاصة في فرنسا ثم ألمانيا جاءوا إلى صناعة وإبداع الأفلام من مجالات إبداعية فنية أخرى- على رأسها فنون الرسم "التصوير" النحت والأدب التي كانت قد تأثرت بتطورات علمية وفكرية حاسمة في مجالات علوم الضوء والكيمياء "أثرت في تصور واستخدام الألوان والمنظور والهندسة" ونظرية النسبية "مفاهيم الزمن والمكان " وفي علوم اللغة والنفس وفسيولوجيا المخ "الذاكرة".. وحين بدأ هؤلاء "الرواد" من رسامين "مصورين " أو أدباء في إبداع أفلامهم، حاملين كل هذه المعرفة وما ترتب عليها من إعادة بناء تصورهم للعالم الواقعي، وجدوا أن الفيلم "السردي " أو الروائي السائد آنذاك- تجاريا- ليس هو النوع الملائم للتعبير عن ذلك التصور الجديد للعالم تماما مثلما فعل كبار رسامي ذلك العصر: هانس ريختر وفايكنج إيجلينج وسالفادور دالي وفرناند ليجير الذين كانوا يواصلون إبداعاتهم في إطارات التيارات التجريدية والتعبيرية والسيريالية. واهتم ريختر وليجير بشكل خاص باستخدام فن "وتكنولوجيا" السينما لتحويل لوحاتهما التجريدية إلى"حياة متحركة"- هكذا أبدع ريختر فيلمه المشهور: "ايقاعات 21"عام 1921 مستخدما تبادلات الأبيض والأسود في اشكال هندسية/ عضوية حية، وقام ليجير بتحريك الأشياء العادية والبشر حركة ايقاعية شبه ميكانيكية في فيلمه الأكثر شهرة "الباليه الميكانيكي"، غير أن السينما التجريبية لم تبدأ نضجها - بوصفها فنا دراماتيكيا متكاملا- لا يكتفي بمجرد استعراض إمكانات الكاميرا- إلا على يدي المخرجة الأمريكية "روسية الأصل " مايا ديرين في فيلمها: "شراك ما بعد الظهيرة" عام 1943 الذي جاء في صورة ترجمة ذاتية تمزج الحلم بالحقيقة الواقعية، وتتابعت بعد ذلك إبداعات زملائها: كورنيس هارينجتون وكينيث آنجر وتلاهما كثيرون خرجوا من إطار فيلم السيرة الذاتية إلى آفاق الدراما الإنسانية الرحبة التي يتمرد بناؤها الفني على السرد الحكائي الساذج وتسعى بنجاح إلى التوظيف الواعي لمنجزات العلوم " المعرفة " التي سبق " ذكرها- والتكنولوجيات التي أسفرت عنها الثورة الإلكترونية- وخاصة في مجال الضوء واللون والحركة وعلم النفس والاجتماع الثقافي والنقد الفكري "راجع: فرانك بيفر: قاموس المصطلحات الفيلمية- نشر ماكجرو- هيل- نيويورك- 1983 ".

جماعات فنية

الأهم من ذلك- في تصورنا أن حركة التجريب في السينما لم تتخذ شكل المبادرات الفردية "مثلما قد يحدث في الإبداع الأدبي " وإنما تحولت بسرعة إلى شكل الجماعات المنظمة "تحول بعضها إلى مؤسسات للبحوث وشركات للإنتاج " واتخذت أسماء: السينما السرية، السينما الضد، الفنانون المتحدون وغيرها ذلك أن الفن الذي تبدعه " جماعة"، الذي يحتاج إلى قاعدة اجتماعية/ معرفية وتكنولوجية لا يستطيع أن يترك نفسه لتلقائية الصدفة، ولا لفقر إمكانات الفنان الفرد. وحتى على مستوى إبداع النص اللغوي- الذي قد يكون عملا فرديا- كما جرى في مسرح الخمسينات والستينيات الطليعي والمتجدد- فقد يكون من السذاجة تصور أن الكتابة الطليعية كانت مجرد استجابة فردية- من أفراد موهوبين- لمستجدات العالم في المجالات المختلفة المعرفة والتطبيقية، فقد كان هؤلاء الافراد ينبغون وتصقل مواهبهم من خلال مؤسسات تعليمية وتثقيفية واجتماعية- داخل وخارج إطار الدولة. وهذا هو ما تكرر- حرفيا تقريبا وعندما بدأ المسرح العربي مسيرة تجدده في الخمسينات والستينيات فللتجريب- وإن كان تلقائيا دون تخطيط مسبق- جذوره الخاصة والمتميزة إذن في إطار التاريخ المعاصر للمسرح العربي، سعيا إلى التجدد أو إلى ابتكار لغات تعبيرية فنية متساوقة مع ما لحق: " العقلية " و" الذائقة " الفنيتين/ الفكريتين- في الوطن العربي على اتساعه من تغير في عصر تمازجت فيه وتفاعلت عوامل كاسحة التأثير شتى: تصاعد حركة الاستقلال الوطني والحركة القومية التي أيقظت الشعور العملي بأصالة الثقافة العربية القومية وتجلياتها الفرعية المحلية ودفعت إلى البحث عن الجذور وإحيائها الحياتي والتطبيقي من جديد، وتصاعد الاحتكاك الندي- على قدم المساواة أحيانا بالثقافات الأخرى "على رأسها دائما تأتي الثقافات الغربية "، والتوسع في استخدام وتوظيف أدوات الترفيه والاتصال الجماهيرية "التي تعتمد على الصورة وعلى الدراما التجسيدية أو التمثيلية أساسا او التعليمية أو التسجيلية أو الإشارية أحيانا" كالتليفزيون والسينما الراديو والصحافة.. القراءة "بدلا من الثقافة القولية اللغوية الشفاهية غالبا".

لم يكن المبدعون "الأفراد" معزولين عن هذه المؤثرات الكاسحة، ولم تكن المؤسسات- الرسمية أو الأهلية- بعيدة عنها ولا معزولة.

تجريب الكتابة والإخراج

ولكن الأكثر أهمية هو أن- المؤلفين منهم- وتصورات المخرجين وأساليب أداء الفنانين "الممثلين " الجديدة كلها ما كان يمكن لها أن تصل إلى منصات المسارح دون "المؤسسة" الاجتماعية، وفي بلادنا- كانت هذه المؤسسة هي "الدولة" وليس غيرها- التي تبنت التجدد والانفتاح على التجارب الكبرى المعاصرة والتجديد الأسلوبي والتعبيري والفكري- معنويا وماديا- دون أن تطلق عليه اسمه الرسمي: المسرح التجريبي. لنتذكر في مصر- مثلا- كيف ظهر- أو تجلى- أكثر من تيار منذ أوائل الستينيات- تعبيري وعبثي وملحمي وتسجيلي- تعليمي في كتابات نجيب سرور وصلاح عبدالصبور ويوسف إدريس وسعد الدين وهبه وميخائيل رومان ومحمود دياب وعبدالرحمن الشرقاوي ورشاد رشدي وألفريد فرج وشوقي عبدالحكيم بل وتوفيق الحكيم نفسه، وفي التصورات الإخراجية عند نبيل الألفي وعبدالرحيم الزرقاني وحمدي غيث وكمال ياسين وسمير العصفوري وسعد أردش وجلال الشرقاوي وكرم مطاوع وأحمد عبد الحليم وأحمد زكي وغيرهم، ولنتذكر أن "الإلهام" لم يكن دائماً من الغرب- رغم قوة تأثير اكتشاف "التيارات الغربية "- ولكن تأثير اكتشاف الاصول القومية لفنون العرض المحلية- في أسلوب الإخراج لدى الطيب الصديقي ثم الطيب العلج في المغرب ومظفر النواب ومنير أبودبس ونضال الاشقر وروجيه عساف في لبنان وسعد الله ونوس وحود الأسدي في سوريا وإبراهيم جلال ثم محمد قاسم في العراق والمنصف السويسي وعز الدين المدني في تونس وفؤاد الشطي عبدالعزيز السريع في الكويت، أو تأثيرا كتابات محمد عزيزة- في تونس عن: الإسلام والمسرح وكتابات على الراعي في مصر عن تاريخ فنون العرض التمثيلية المحلية وغيرها كثير، كان تأثيرا حاسما منذ منتصف الستينيات في إخراج الفن المسرحي العربي بشكل عام من قيود مبدأ: مضاهاة المسرح للواقع بوصفه شريحة من الحياة أو صورة في مرآة منتصف أمام الحياة- إلى رحابة الابداع " المتجدد لكي يكون إبداعا موازيا للحياة نفسها- مثلما حدث مع كل الفنون الإبداعية الأخرى التي تفاعلت مع منجزات "المعرفة" الجديدة ومع منجزات عصر الانفتاح الحر والتفاعل بين ثقافات الإنسانية في كل عصورها وفي كل مراكز إنتاجهـا دون استثناء، ومع معطيات عصر وسائل الترفيه والاتصال المرتبطة بالصورة الدراماتيكية وبالتجريد وبالتوعية غير المباشرة، وفي عصر البحث عن الجذور الأصيلة للثقافة الشعبية ويقظة- أو إحياء- الثقافات القومية العامة والمحلية على السواء".

الانفتاح الثقافات

غير أن هذه العوامل ذاتها يمكن أن تؤدي- بل لقد أدت بالفعل في مواطن كثيرة إلى الجمود من ناحية وإلى سيادة: "نماذج الاحتذاء"- بتعبير فوزي فهمي المحتشد بالدلالات- من ناحية أخرى، وحينذاك ينبغي أن يتحول التجريب سعيا لاستمرار التجديد وكسر الجمود وإلى مواصلة الابتكار والتساوق مع تغير "الحياة"- إلى سياسة للمؤسسة- والمؤسسات- التي تبنت منذ البداية سياسة تحرير مجتمعاتها- وثقافتها- من "التبعية" في ناحية ومن الارتداد إلى الماضي في ناحية ثانية ومن التجمد عند لحظة بعينها من لحظات التطور في ناحية ثالثة ومن عشوائية الارتباط بحاضر يقع تطوره تحت حصار تقلبات اجتماعية/ ثقافية عاتية في عالم تحللت ثوابته- التقليدية والحداثية على السواء- ولم يتمكن بعد.

من بلورة قواعد "مرنة" جديدة قادرة على إمداد التطور بالحد الأدنى المطلوب من الثبات. وبالقدر الضروري من الوعي بحقيقة أن التغير لا الثبات- هو ما يكسب رهان التحكم في مستقبل "التاريخ الإنساني".

فالانفتاح على الثقافات الأخرى- في عشوائية- غالبا ما يتوقف عند الثقافات الموصوفة بالتفوق "التكنولوجي الكمي والغزارة النوعية الفكرية على السواء " أي الثقافات الغربية.. الأمر الذي يؤدي إلى إعادة تأكيد التبعية لا الأصالة، والبحث عن الجذور وإحيائها- مع سيادة سياسات " المحلية" قبل " القومية " قد يؤدي إلى مزيد من الارتداد للماضي "التقليد الجماعي أو الشعبوي " متخذا أشكالا أو قوالب تبدو: "ما بعد حداثية" وهي في جوهرها- دلالاتها المضمونية- ردة إلى عصور الجمود والقولبة الشفاهية الخرافة المتوارثة والتشرذم القبائلي أو الطائفي، والتوقف عن التوظيف التكنيكي لوسائل التعبير- ومساعداتها- التكنولوجية المتطورة أو التأثر بوسائط التوصيل والتعبير الصورية المعاصرة- قد يؤدي إلى التوقف عند الحدود الشكلية لهذه الوسائط والوسائل بما يحول "الفن المسرحى" إلى مجرد: "سيرك "أو ملهى بالشكل الذي تحول به الفن المسرحي من العصر الاتيكي "عصر سوفوكل ويوروبيديز" إلى العصر الروماني، أو بالشكل الذي كاد يتحول به عصر التجدد المسرحى الأمريكي في العشرينيات حتى الستينيات إلى عصر الملهى الليلي الراقص وما يسمى "خطأ" بالفودفيل الأمريكي، أو تحول عصر التجدد العربي- في الخمسينيات والستينيات- إلى سيادة النموذج الهزلي "التجاري فيما يسمى بالخطأ أحيانا".

وجاء إقرار: مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي- قبل أحد عشر عاما- جزءا من خطة ثقافية اجتماعية شاملة لتحدي وكسر حصار هؤلاء: " الأعداء " الأربعة: التبعية ونماذج الاحتذاء والارتداد إلى الماضي والجمود، وخامسهم: النموذج الهزلي الهابط.

يقول فاروق حسني وزير الثقافة المصري- الذي خطط للمهرجان وغرس فكرته وخاض تجاربه في كلمة تقديمه للدورة الحادية عشرة التي أقيمت في سبتمبر الماضي في القاهرة:

"عندما بدأنا التبشير بالتجريب قبل عشر سنوات، كنا نستهدف وصل ما انقطع في مسيرة المسرح المصري من تنوع ابداعاته، لأننا على يقين بأن المصنوعات هي التي تتكرر أما الإبداعات فلا تتكرر أبدا، ولأنها مختلفة فهى تتحدى المعهود، وتخترق الحصار لتحفز وتثير المعروف والمألوف، وتضع حدا للتصلب وتدفع للانخراط في التجديد.

إننا نستهدف الإبداع الأصيل الصادق، ونقف في مواجهة أقنعة التزوير وضد التشريق والتكلس، وكل ما يعطل الخيال بل وكل من يقيم الأصنام إن دعوتنا للتجريب تعني فك القيود وفتح طريق التفكير لابتكار صيغ الإبداع التي تقرأ أما لم يقرا بعد في واقعنا وما يتجدد فيه، فتجسد مختلف إحساسات الإنسان، إيمانا بأنه لأبد وأن ندع كل الإبداعات تتجاور، لتحاور حتى نوفر مناخ توليد الجديد المفتوح على الاختلاف.

وإذا كانت الإبداعات التي قدمتها الفرق الأجنبية على خشبات المسرح المصري خلال السنوات العشر الماضية، قد جاءت إلينا برغبتنا، فإن رهاننا كان ومازال يتركز على محورين رئيسيين هما: ألا نقلدها وألا نستبعدها، بل نبحث عن كيفية الحوار معها لابتكار إبداعات جديدة تحرر طاقة الخيال المسرحي".

المسرح والتنوير

ويستكمل فوزي فهمي رئيس المهرجان التصور الفكري المبدئي ذاته في تقديمه لـ: "إصدرات" الدورة الحادية عشرة "التي تصدر عن أكاديمية الفنون المصرية مصلحة للمهرجان- وبلغت هذا العام 120 كتابا عن معظم لغات العالم الحية تتناول كل تيارات المسرح المعاصر في العالم وقضاياه تقريبا".

يقول فوزي فهمي:

"بدأ المهرجان في دوراته المبكرة كعمل تنويري يظهـر الاختلافات بيننا وبين غيرنا، وصحيح أن العلوم الاجتماعية تعتبر التنوير نوعا من التغيير، لكننا كنا ومازلنا نؤمن مع من يرون أن التنوير محدث للتغيير باعتباره صانع "الفكرة القوة"، أما التغيير فيتطلب آليات تفجر طاقات الإبداع الجديد، والتي ترتكز أساسا على أن الوعي بالذات يعني الحفاظ على التمايزات الثقافية، ويقف حائلا ضد التلفيقية، ويكرس للابتكار الأصيل في مواجهة النموذج الجامد، وللإبداع ضد التحنط. إننا ننفتح لا لندمر ذاتنا، ولا لنلغي "هنا" و" الآن "، ولكن لنحفز ونحرض الوعي كي لا يغيب أو يتلاشى أو يكتب، فيتقولب الإبداع ويعلب، إننا ننفتح استهدافا لأن تبقى الحياة دائما تحت الضوء الكاشف للإبداع المجدد المطور لأدوات تعبيره والمدرك في الأساس لعصره.

رسخت دورات المهرجان بعروضها وندواتها وإصداراتها اتصالا حيا بيننا وبين مختلف إبداعات مجتمعات العالم، فأفرزت تحولات وتغيرات تحققت عبر نضالات وصدامات، رسمت خطا عميقا في مواجهة كل تعصب وانغلاق، وكل ترهل وجفاف في ينابيع الإبداع، وتجلت هذه التحولات والتغيرات في إبداعات شبان الحركة المسرحية المصرية من خلال وعيهم بذواتهم وعصرهم وامتلاكهم رؤاهم المتحدة، وكان الوعي هو المحفز والمحرك لتصوراتهم والمضيء لمواقعهم، فدفعهم ألا يكونوا ظلا ممتدا لغيرهم، لا يمتلكون إضافة ولا يدركون إيقاع تعاقب الأزمنة ولا يولدودن تجليات لها كيفية وجود خاصة كنتاج لفكر نقدي مبدع له قدرة التواصل مع من حولهم ".

وبقدر صدق هذه الكلمات في تعبيرها عما لحق بـ "وعى" الحركة المسرحية فى مصر خلال تفاعلاتها- الموضوعية أو الذاتية، إيجابيا وسلبا- مع ما تخلفه رياح المهرجان كل عام وسيوله في عقول ووجدان مكونات هذه الحركة " مبدعيها وفنييها ونقادها وجمهورها ومتابعيها الإعلاميين أو من وسط الجمهور الذي لا يذهب إلى المسرح ولم يكتسب هذه العادة بعد".. مع صدق هذه الكلمات في التعبير عن تأثر الحركة المسرحية في مصر بمعطيات المهرجان، فإن رحم المتابع الموضوعي يجد نفسه قادرا على أن يفهم كل ضمائر المتكلم في السطور التي اقتطفناها من كلمتي فاروق حسنى وفوزي فهمي على أن تعود إلى: "واقعنا العربي " لا المصري وحده " على اتساعه وتحديات الحركة المسرحية فيه وإبداعاته ووعيه بكل من: ذاته وعالمه. غير أنه سيكون من قبل الادعاء السطحي وتجاهل الحقائق والبعد عن موضوعية أي تفكير علمي أن نزعم أن المهـرجان التجريبي في القاهرة وحده كان الدافع إلى منجزات الظاهرة "الظواهر" المسرحية العربية في سبيل مقاومة التبعية ونماذج الاحتذاء والجمود والارتداد إلى الماضي والنزوع العشوائي الهزلي، "التجاري" ففي مواقع كثيرة على اتساع الوطن العربي استمدت الظاهرة المسرحية العربية وعيها بضرورة التجدد الاصيل واستمر السعي إلى الإبداع المتساوق مع تغيرات الواقع- المحلي والقومي والعالمي من جذورها ومن تجاربها المحلية الخاصة: في المغرب وتونس والجزائر كما في لبنان وسوريا والكويت "لا نعرف عما لحق بالظاهرة المسرحية في العراق إلا ما أصاب الكثيرين من مبدعيها من تشتت، وما أصاب الظاهرة- محليا- من انغلاق أو جمود ومن نزوع دعائي في جانب او نزوع شكلاني في أفضل الحالات من جانب آخر".

ندوات وبحوث

ومع ذلك فإننا سنجد أصداء قوية للتأثير الايجابي لتجربة: " خوض " المهرجان- بصرف النظر عن الوجود على هامش المسابقة أو في داخلها. سنجد تلك الأصداء في بحوث المحورين الاول والثاني من محاور ندوة الدورة الحادية عشرة، وخاصة في تعليقات الأستاذ الدكتور عبدالرحمن بن زيدان " من المغرب" الذي أدار المحور الأول "تحت عنوان: التجريب في المسرح العربي: تبعية أم تثاقف؟ " وفي بحوث وتعليقات زملائه في هذا المحور: بول شاؤول من لبنان وعبد الكريم برشيد من المغرب ومحمد مبارك الصوري من الكويت. وماري الياس من فلسطين ومخلوف بوكوح من الجزائر ومفيد الحوامدة من الأردن ومحمد المديوني من تونس.

وفي المحور الثاني للندوة "تحت عنوان: التجريب في المسرح العربي: تجليات الحاضر وإمكانات المستقبل" الذي أداره الاستاذ الدكتور سمير سرحان " من مصر" لبحوث وتعليقات إبراهيم غلوم "من البحرين " ومحمد مبارك بلال "من الكويت " وشكيب خورى "من لبنان " ويوسف الحمدان "من البحرين " وصالح لمباركيه "من الجزائر" وصبري حافظ "من مصر" قيمة كبرى في إضاءة الأهمية الرئيسية للتجارب المحلية أولا، ثم لخوض تجربة "التجريب" المخطط "الواعي بما يفعله" من خلال المشاركة في المهرجان، وفي استطلاع "شروط " تضمن بقاء المسرح العربي كعنصر فاعل في مسيرة تطور- وتحديث- الثقافة العربية المعاصرة ككل.

تجليات في النقد

وإذا كان النقاد التطبيقيون، والكتاب النظريون- المصاحبون للحركة المسرحية العربية ورواد تجددها قد أجمعوا تقريبا على حقيقة ذلك التفاعل الحي- إيجابا وسلبا- مع وجود مختلف التجليات المحلية "الإقليمية أو القطرية" للظواهر المسرحية العربية في اطار المهرجان التجريبي، إذا كالت ذلك هو ما شهدناه في الإطار النقدي والنظري، فان العروض المسرحية ذاتها تشهد بأن: " حالة" المشاركة في المهرجان قد مثلت تحديا للمسرحيين العرب يواصلون مواجهته بالإبداع المسرحي المتجدد ذاته- سواء انطبقت عليه أي تصورات مطروحة، مألوفة أو غير مألوفة حتى الآن- عن: "التجريب " أو لم تنطبق.

وسواء استخدم العرض أسلوبا "أو: بناء" شاملا- مثل الأسلوب أو البناء الاحتفالي التوثيقي "مثلما فعل مبدعو العرض السوداني: سلمان الزغرات، سيد سنار، لعلي المهدي " أو استخدم أسلوبا فرديا "في شكل عرض الرجل الواحد" كما فعل مبدعو العرض البحريني: ضوء/ ظل لسلمان العريبي، أو لجأوا إلى الأسلوب التعبيري "أول اساليب التجريب المسرحي المعاصر في الغرب لكسر جمود المسرح/ المرآة المحاكي للواقع أو الأرسطي " كما فعل مبدعو العرض الأردني: ملهاة عازف الكمان لحكيم حرب أو حتى باللجوء الى الاسلوب الحركي- للصورة السينوجرافية مع بنائه بالاداء الاحتفالي والاطار الضوئي التعبيري- كما فعل مبدعو العرض الفلسطيني: سيف ديموكلجس لمازن غطاس، سواء استخدمت العروض هذا الأسلوب أو ذاك.. فإن الظاهرة التي تلفت النظر- خصوصا خلال الدورات الثلاث الأخيرة أن المهرجان التجريبي قد بدأ بالفعل يثمر تلك الحالة من الاستنفار بعد حالة: التحريض- الإبداعي التي مثلتها الدورات الثمانية السابقة لإعادة الحركة المسرحية العربية إلى التفاعل الحي مع "ذاتها القومية" المحلية والعامة من ناحية ومع التجدد في الساحة العالمية من ناحية ثانية.

أفضل العروض

أشاد رئيس لجنة التحكيم في تقرير اللجنة بعدة عروض وذكر أنها لا تقل جسارة وقيمة فنية وتجريبية من العروض التي فازت بأغلبية الأصوات، وتوقف عند العرض البحريني : ضوء/ ظل- لفرقة مسرح الصواري، وعند العرض المجري هادئ كما هو لفرقة وسط أوربا الراقص والعرض الإسباني: فويتسك "نظرة حضارية " لفرقة الجلوتيتاترو، والعرض المصري: طبول فاوست لفرقة الغد التجريبية وإخراج انتصار عبد الفتاح الذي فاز في العام الماضي بجائزة أفضل عرض عن مسرحية: مخدة الكحل.

حول الدورة الحادية عشرة لمهرجان القاهرة
الدولي للمسرح التجريبي

شاركت في الدورة الحادية عشرة للمهرجان 29 دولة أجنبية و 12 دولة عربية- ولم تصل إلى القاهرة الفرقة التركية "مسرح أزميت " كما أنها لم تعتذر، حيثما كانت أزميت نفسها هدفا للزلزال المروع الذي أصاب تركيا، ولم تصل الفرقة الباكستانية: فرقة أكاديمية الدراما P.N.E.A رغم وصول " ديكوراتها" إلى القاهرة وتجهيز المسرح المخصص لها "مسرح: ميامي- بوسط القاهرة".

- قدمت الفرق المشاركة 37 عرضا أجنبيا و 17 عرضا عربيا خلال أيام المهرجان الاحد عشر " 1- 11 سبتمبر".

- الدول العربية المشاركة: "تونس، سلطنة عمان، سوريا، فلسطين، قطر، لبنان، الاردن، البحرين، الجزائر، السودان، ليبيا، مصر".

- لفتت الانظار غياب الفرق: المغربية والكويتية والسعودية من المشاركة في هذه الدورة.

- بعض الدول العربية شاركت بأكثر من عرض واحد هي: تونس وسوريا وفلسطين والأردن ومصر.

الجوائز:
  • من أجلك أفعل ذلك- فرقة: السيرك غير المنسجم، فرنسا، أفضل عرض.
  • لويس جوبان عرض: نظرة حضارية، إسبانيا، أفضل مخرج.
  • ليلى طوبال، صبرة الهميسي بالمشاركة في عرض: حب في الخريف، تونس، أفضل ممثلة.
  • سامي العدل "عرض: طبول فاوست "، مصر، أفضل ممثل.
  • دريتان براهيملاري " عرض: فويتسك "، إسبانيا.
  • البوابة: العرض البولندي، أفضل سينوجرافيا "تقنية ".

 

سامي خشبة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




البردية- مصر أول عرض مسرحي عربي يسعى لاستحضار الروح الأسطوري الفرعوني





مسك الغزال- فلسطين مأساة المرأة تساوي مأساة الوطن





المربع الأرجواني- اليمن تجربة الأسطورة العربية القديمة





الجدار الأخير محاولة جادة لإدماج الكلمة بالصورة والحركة دون التخلي عن المعنى





برمة الحوض لبنان اعادة اكتشاف عالم المرأة العربية بالحركة والموسيقى فقط





طبول فاوست- مصر اعادة بناء السطورة الاوروبية في اطار عربي- إسلامي





المورسطان- الجزائر ليس أصعب من تمثيل الجنون دون أن يكون الضحك هو الهدف