سدود تركيا: أحلام الخصب ومخاوف الجفاف

سدود تركيا: أحلام الخصب ومخاوف الجفاف

تصوير: حسـين لاري

فوق التل العلي وقفنا نراقب مدينة "هالفتي" الصغيرة كانت نائمة على ضفة نهر الفرات، والصمت يسود جبال كردستان العالية على الضفة الأخرى، كما يسود مياه النهر الرائقة الخضرة.

لا شيء يوحي أن بيوت المدينة تعيش أيامها الأخيرة، فبعد شهور قليلة لن يكون لها وجود تحت هذه الشمس، هذا المسجد القديم ذو المئذنة العثمانية الرفيعة، والمدرسة ذات الحوش الخالي، البيوت الحجرية التي تحيط بها أشجار الفستق، الكتابات المحفورة فوق الأسوار، كل هذا سوف يغرق تحت طوفان من خزان المياه الضخم الذي سوف يحدثه سد بيرجيك عندما يكتمل بناؤه. تساءلت مفزوعا: هذه المدينة سوف تغرق كلها؟ قالت السيدة أديليك المهندسة الزراعية- والتي كلفتها إدارة مشروعات الجاب بمرافقتنا- سوف يغرق الجزء الأكبر منها، ولكن حتى الجزء الذي سيبقى لن يكون مستقراً، لن تغرق مياه السد هذه المدينة فقط، ولكن سوف تغرق 44 قرية أخرى، إنه ثمن التقدم أليس كذلك؟! بدأنا في الانحدار وسط شوارع المدينة الملتوية، تحيط بنا الأسوار الحجرية التي تضم ثروة المدينة من أشجار الفاكهة، توقف زميلي المصور ليلتقط بعضا من الصور لبقايا حمام تركي قديم، ولأسوار القلعة المتكسرة التي كانت تطل علينا من فوق حافة الجبل، وبدأ سكان المدينة في الظهور، الأطفال بعيونهم المتسائلة، والنساء اللواتي يزين أيديهن بالحناء، والعجائز من الرجال الذين يضعون أغطية الرأس الكردية على رءوسهم، الكثيرون منهم كانوا يتكلمون العربية، ففي هذه المنطقة من جنوب الأناضول تتشابك الأعراق العربية والتركية والكردية وتتداخل الألسنة واللغات، قلت لها: ألم يرحلوا بعد؟ قالت: المسألة ليست سهلة إلى هذا الحد، سوف تجلس مع المسئولين عن هذا الجانب من التخطيط العمراني وتستمع إليهم بنفسك.

جلسنا على مقهى صغير أسفل المنحدر، بجانب حافة النهر تماما، صامتين عاجزين عن قول أي شيء، تحيط بنا رهبة الإحساس بلحظات النهاية، عندما تتحول كل تلك الخضرة الداكنة إلى زرقة داكنة، على حد تعبير مدير مشروع سد "بيرجيك" وهو يجيب عن سؤالي عن مدى اتساع خزان السد، قال: إنه سيبلغ خمسين كيلو مترا مسطحا يحتوي على بليون متر مكعب من الماء التي سوف تغرق كل تلك الأماكن التي تحيط بنا، تأملت وجوه العجائز الذين يجلسون صامتين في المقهى، وذلك الصياد الذي يجلس في قاربه لا يفعل شيئا سوى الانتظار، أي ذكريات سوف تغرق تحت الماء، وأي مخاوف سوف يحملها ذلك المستقبل المتغير؟ تأملت مياه النهر الناعمة الخضراء وهي تسير في وهن وسط صخور "كردستان " الشماء، لم أستطع أن أتصورها وهي تنحت الصخور لتشق مجراها الوعر منذ آلاف السنين، كان النهر قد فقد قوته بعد بناء سد أتاتورك الذي يعتبر سادس سدود العالم من حيث الضخامة، نهر الفرات كان شاهدا على واحدة من أقدم حضارات الإنسان، ويرى بعض المؤرخين أن الحضارة التي نشأت على ضفافه كانت أسبق من حضارة وادي النيل، وأنه كان أول من علم ساكنيه الزراعة وأغراهم بالاستقرار.

ينبع الفرات- مثله في ذلك مثل زميله الأشهر نهر دجلة- من جبال هضبة الأناضول في تركيا، وينحدر جنوبا شاقا طريقه وسط هذه الهضبة العظيمة الوعرة حتى يعبر الحدود التركية إلى سوريا ثم إلى العراق، ويبلغ طول نهر الفرات حوالي 2315 كيلو مترا، 400 منها في الأراضي التركية، 485 في سوريا، أما الجزء الأكبر من المجرى- رغم أنه الأقل في حجم المياه- فيقع داخل العراق وطوله 1400 كيلو متر، أما دجلة فهو الأقل طولا والأقل في إيراد الماء من حيث الكمية والنوعية أيضا، إذ لا يبلغ طوله إلا 1718 كيلومتراً، وهو نهر عالي الملوحة، وعر المجرى، ولا يلتقي النهران إلا في منطقة (القرنة) العراقية، حيث يتحدان في مجرى مشترك يصب في نهر (القارون) لتكوّن معاً شط العرب، ولا تسير الأنهار الثلاثة بعد ذلك سوى أميال قلائل حتى تفرغ كل ما فيها من مياه في الخليج العربي.

رحلة صعبة عبر حدود قلقة، ففي حوض النهرين الممتد تجمعت الجنسيات، واختلفت التواريخ، وتشعبت المصالح بقدر ما تشعبت روافد الأنهر، وشهدت ضفاف الأنهر منحنيات حرجة اختلطت فيها ادعاءات السيادة مع الحقوق المكتسبة، كما اختلطت أحلام الخصب مع مخاوف الجفاف، ومشروعات التنمية مع النزاعات السياسية التي لم تجد لها حلا حتى الآن.

أورفا.. مدينة الأنبياء

ماذا سيفعل الناس الذين عليهم أن يدفعوا ثمن التقدم؟

كان علي أن أؤجل البحث عن إجابة هذا السؤال حتى أرى ملامح الصورة كاملة، وأن أبدأ الجولة من خطواتي الأولى في مدينة "شانتي أورفا" أو "أورفا" الباسلة التي قاومت غزوا فرنسيا جاء إليها من الجنوب أثناء الحرب العالمية الأولى، هبطنا في مطارها الصغير في الصباح الباكر قادمين عبر رحلة طويلة قادتنا من أسطنبول إلى أنقرة ومنها إلى أورفا، المطار أقامه مشروع الجاب الضخم ضمن سلسلة من المطارات شملت العديد من المدن المهمة في منطقة الأناضول، "الجاب " هو اختصار لاسم مشروع تنمية جنوب شرق الأناضول، وكان في انتظارنا مندوبة المشروع السيدة أديليكز التي أعطتنا مجموعة ضخمة من وثائق المشروع وكل ما فيه من إنجازات، وفي الحقيقة كان اهتمام الجانب التركي بنا كبيراً، فبالإضافة إلى توفيرهم وسائل الاتصال إلى العديد من الأماكن النائية والوعرة، فقد عقدوا لنا سلسلة من اللقاءات غطت كل جوانب مشروع الجاب سواء جانب المشروعات المائية أو معامل أبحاث المزروعات، وحتى المراكز الاجتماعية التي تدل على مدى تكامل المشروع.

قادتنا السيارة عبر الطريق الأخضر إلى المدينة، وأورفا مدينة قديمة حتى بالمقاييس التركية، فقد ولد فيها أبو الأنبياء سيدنا إبراهيم خليل الرحمن، كما أنها شهدت في بداية الثمانينيات من هذا القرن نمو الحركات الأصولية الإسلامية، حتى أن عمدة المدينة نفسه قد قدم للمحاكمة بتهمة الخروج على النهج العلماني للدولة التركية، المدينة مشهورة أيضا بأمراض المعدة لأن حرارتها الملتهبة تحول أطباق الطعام فيها إلى مزارع للبكتريا، لذلك كنا نصاب برعب حقيقي أنا وزميلي المصور عندما توضع أمامنا أطباق الطعام، ولكن والحق يقال لم نصب بأي أذى، بل إننا تمتعنا بفطائر اللحم التي تحمل اسم أورفا في كل أنحاء تركيا.

ورغم أننا كنا في طريقنا إلى زيارة سد "أتاتورك" الضخم الذي يبعد عن المدينة حوالي 60 كيلو مترا، وهو أضخم المشاريع التركية المعاصرة، فإننا لم نستطع أن نقاوم إغراء التاريخ، فلا أظن أن هناك مدينة يمتد عمرها من زمن الأساطير إلى زمننا مثل هذه المنطقة، فتبعا للروايات كانت أورفا هي المدينة الأولى التي أسسها نبي الله نوح بعد أن نجا بسفينته من الطوفان، كما أن أبانا آدم كان يزرع في سهول مدينة حران القريبة منها، أما النبي موسى فقد رعى أغنامه بالقرب من جبل تيك تيك، وجرب النبي الصابر أيوب آلام البلايا السبع التي اختبره بها الله في مدينة آورفا نفسها، وقد ذاقت مدينة الأنبياء أيضا ويلات الغزاة، حين اتخذها الإسكندر قاعدة شرقية له عندما كان يحارب الفرس، وكذلك فعل بها الرومان، وعندما فتحها العرب جعلوها مركزهم الأساسي الذي ينتشرون منه لفتح آسيا الوسطى، وبعد أن وهنت القوى العربية استولى عليها الصليبيون في طريق غزوهم للأراضي المقدسة، واستعادها العرب منهم مما دعا الصليبيين لأن يشنوا حملتهم الثانية، وظلت في أيدي العرب حتى سحقتها جيوش المغول ثم أصبحت بعد ذلك جزءا من الدولة العثمانية. التاريخ لم يتوقف بجحافله حتى في هذا المكان الصغير المنزوي وسط هضاب الأناضول، ولكن بقي الكثير من قدسية المكان، فهنا يقال إن الله أمر نبيّه إبراهيم بالرحيل هو وأهله إلى أرض كنعان، وعندما عبر بهم نهر الفرات سمّوا العبرانيين، مازال أحفادهم يذيقوننا الويلات حتى الآن، هذا إن كان الذين يحتلون فلسطين هم أحفادهم حقا.

أعظم سدود تركيا

نبدأ رحلتنا إلى موقع " سد أتاتورك " وسط درجة عالية من الحرارة وفوق أرض حمراء مغبرة، وهضاب لا تكف عن الارتفاع والانحدار، منطقة شديدة الجفاف لا تستقبل سوى القليل من قطرات المطر طوال العام، تبدو أمامنا تجمعات من السكان الأكراد الذين سكنوا هذه المنطقة منذ آلاف السنين وأخذوا الكثير من صلابتها، مزارع متناثرة من أشجار الفستق، تزداد كثافتها كلما اقتربنا من موقع السد، تقول لنا المرافقة: مازالت مشاريع الري بواسطة السد لم تكتمل بعد وما يروى الآن هو 11% فقط من مساحات الأرض المخطط لها، ولن تكتمل هذه العملية إلا في عام 2010. تظهر نقاط الحراسة العسكرية فأدرك أننا قد اقتربنا من موضع السد، نجتاز عدة نقاط للتفتيش، وأخيرا يظهر الجسد العملاق للسد واضحا أمامنا، كتل من الصخور المتراكمة تعترض مجرى النهر وتطوعه لإرادتها بعد أن كانت مياهه تفرض إرادتها على تضاريس الطبيعة لآلاف السنين، يقول لنا المهندس جلافي بولت مدير محطة الهيدروليكا التي تحتوي على السد ومرفقاته: إنه سادس سد في العالم من حيث الحجم، وهو أضخم ما بنته تركيا حتى الآن وأهم ما فيه أنه بني بخبرات وأموال تركية خالصة، وهو المفتاح لكل مشاريع تنمية جنوب شرق الأناضول.

لقد اكتمل بناء السد في فترة قصيرة نسبيا لم تتعد 80 شهرا، إذ بدأ البناء فيه في نوفمبر 1983 واكتمل في أغسطس عام 1990، وتم ذلك وفق تقنيات متقدمة استخدمت فيها أجهزة الكومبيوتر لتحديد نسبة خلطة الأسمنت بالصخور لتكوين قاعدة وجسد السد، وأثناء ذروة العمل كان يشارك في البناء حوالي 8 آلاف عامل بينهم 200 من المهندسين إضافة إلى ألف قطعة من معدات التشييد المختلفة.

نصعد إلى جسد السد العملاق، يقول لنا مدير المشروع: أنتم البعثة الصحفية الثانية التي تزور السد من الخارج بعد اليابانيين. في الخلف يبدو خزان المياه الشاسع الذي تبلغ مساحته حوالي 817 كيلو متراً مربعا تحتوي على حوالي 48 بليون متر مربع من الماء، ومن مقدمة السد تبرز أنابيب "التوربينات" الثمانية العملاقة التي يمر منها الماء لتولد بقوة اندفاعها حوالي 9، 8 بليون كيلوات من الطاقة سنويا، بعد ذلك تمضي مياه النهر الخارجة من هذه التوربينات هادئة وطيعة، ولكن سوف يواجهها سد ثان وثالث كما هو مقرر في ذلك المشروع الطموح الذي سيبلغ فيه عدد السدود 22 سدا على كل من نهري دجلة والفرات. لا أستطيع أن أمسك نفسي من السؤال الذي قفز مبكرا على لساني: ولكن ماذا عن جيرانكم التاريخيين وشركائكم في هذه المياه، أعني سوريا والعراق، ماذا سيبقى لهم من المياه بعد بناء كل هذه السدود، ماذا عن شكاواهم وصراخهم خوفا من الجفاف؟، يقول دون أن يستطيع أن يخفي علامات الامتعاض التي ظهرت على وجهه: كلام سياسة، لقد قل منسوب المياه في الفرات لعدة شهور فقط عندما كنا نملأ هذا الخزان، أما الآن فإننا نعطي سوريا 1000 متر مربع في الثانية الواحدة رغم أن الاتفاقية بيننا تنص علي 500 فقط، أي أننا نعطيهم الآن ضعف الكمية، بالإضافة إلى أننا قد حميناهم من أخطار فيضان النهر، بدا الرد منطقيا ولكنه بطبيعة الحال يحتاج إلى التحقق من الجانب الآخر.

ولن يكتمل مشروع ري المنطقة التي تمتد من سهول "أورفا " إلى حران، إلا بعد اكتمال النفقين العملاقين اللذين سيقومان بنقل مياه السد إلى هذه الأجزاء، ويبلغ طول كل نفق منهما حوالي 24 كيلومتراً، سوف تنقل كمية من المياه كفيلة بري 487 ألف هكتار ستغير وجه هذه المنطقة التي كانت من شدة جدبها تطرد سكانه وتدفعهم للهجرة بعيدا.

العولمة.. تصنع سدا

وإذا كنا قد استطعنا فقط الوقوف فوق الحافة التي تشبه الهلال لهذا السد، فإن الظروف قد أتاحت لنا أن ندخل في جوف سد آخر، بل ونهبط إلى تجاويفه السحيقة التي تلامس قاع نهر الفرات، إنه سد "بيرجيك" الذي لم يكتمل بعد، والمقرر الانتهاء منه في أكتوبر عام 2000، وهي نفس الشهور القليلة الباقية من عمر مدينة هالفيتي البائسة، و 44 قرية أخرى سوف تغرق تحت أمواج خزانه الضخم الذي سيمتد على اتساع 50 كيلو مترا، ويحتوي على ما يقرب من 12 بليون متر مكعب من الماء.

المكان خلية من النحل، آلاف من العمال والمعدات، ترفع الكتل الإسمنتية، وتنقل التوربينات العملاقة، ولا يتوقف شرر اللحام المتصاعد أو حقن النهر بحقن من الأسمنت، ندخل في سراديب السد الداخلية مذهولين، نشاهد التوربينات العملاقة عن قرب وهي تأخذ مكانها في قاع السد، ستة توربينات سوف تولد ما يوازي 5،2 بليون كيلو وات من الطاقة سنويا، كما سيقوم السد بري 70 ألف هيكتار من الأرض المزروعة، يصحبنا في جولتنا مدير مشروع سد "بيرجيك " صفوت أتاشي وهو يشرح لنا: يمكن القول إن في هذا السد تجربة جديدة في مجال التمويل، فهو ليس سدّاً تموّله الحكومة كما يحدث في المشروعات الضخمة، ولكن سد قطاع خاص تموّله مجموعة من الشركات كل واحدة منها ساهمت في جانب من جوانب المشروع، فالتصميم والتخطيط وضعته شركة من النمسا والأعمال الإنشائية قامت بها شركتان ألمانية وتركية، وجاءت التوربينات العملاقة من فرنسا، أما مولدات ومحولات الطاقة فقد قامت بها شركة بلجيكية، أقول له مدهوشا: وكيف ستسترد هذه الشركات أموالها؟ يقول: الأمر بسيط جداً، سوف تدير الشركة السد ونبيع الطاقة لشركة الكهرباء التركية لمدة 15 عاما، ثم نسلمه بعد ذلك إلى الحكومة التركية لتديره بنفسها، سوف نسترد ضعف قيمة السد ولكن بالتقسيط.

مثال حي على عصر "العولمة" الذي نعيش فيه وسط جبال كردستان وعلى بعد 30 كيلو مترا فقط من الحدود السورية، فالخزينة التركية المرهقة أصلا لن تتكلف شيئا، ورغم أن البنك الدولي قد رفض تمويل أي من مشروعات "الجاب " لأن تركيا حين بدأت في هذا المشروع دون أن تبالي باستشارة شريكيها في النهرين وهما سوريا والعراق، فإن التمويل بهذه الطريقة قد جعلها تفكر بجدية في بناء السد الثالث على سد الفرات على بعد خمسة كيلومترات فقط من الحدود السورية.

الجاب وأحلام الخصب

أوصاف كثيرة تختلط فيها الأساطير بأحلام التفوق السياسي تطلقها تركيا على مشروع الجاب، فهي تطلق عليه اسم الهلال الخصيب لأنه يذكرها بجزء من إمبراطوريتها القديمة، وهو أيضا مشروع ما بين النهرين استلهاما لميراث حضاري قديم لم تكن تركيا طرفا فيه، فرغم أن النهر ينبع من الشمال، فإن الحضارات القديمة هاجرت إلى الجنوب، كما أن الأهداف المعلنة على درجة كبيرة من المثالية تقوم بها تركيا على قطعة من أرضها لم تشهد منذ سنوات بعيدة إلا القتال والصراع بينها وبين الذين كانت السلطات تعتبرهم متمردين عليها، فهل هي نظرة جديدة للسلطات التركية ترى أنه لم يعد هناك جدوى من القمع العسكري، وأن البديل أمامها هو تنمية تلك المناطق التي أهملتها طويلا؟!

يقدم لنا الصحفي الأمريكي جونثان راندل في كتابه "أمة في شقاق" دروب كردستان كما سلكتها" صوراً مروعة عن مشاهد القمع التي كان يقوم بها الجيش التركي الذي كان مطلق اليد في هذه المناطق، فقد تمكن الكاتب من دخول كردستان من الحدود العراقية بعد أن تراجعت سلطة النظام العراقي إثر هزيمته في حرب تحرير الكويت، وكانت هذه هي الطريقة الوحيدة لأن المناطق في الجانب التركي من كردستان ظلت مغلقة في وجه الأجانب منذ عام 1980، واعتبرت منطقة عسكرية تخضع لقانون الطوارئ يقول راندل: مع حلول عام 1994 بلغت تكاليف الحرب في كردستان تركيا وفقا لوزير الدولة السابق علي شوقي أرك، 2، 8 مليار دولار سنويا، أي ما يوازي 20 في المائة من حجم الموازنة العامة، أو ضعف العجز السنوي فيها، وعمدت القوات التركية إلى استخدام أعداد كبيرة من الطائرات والمروحيات الحربية والدبابات والمدفعية، في عمليات جرى تشبيهها خلال أحاديث خاصة بالمجهود الحربي الذي بذلته الولايات المتحدة في فيتنام، واستهدف حوالي ستة آلاف مقاتل كردي وفقا للتقديرات الرسمية التركية، كانوا لا يملكون سوى أسلحة خفيفة. وإذا كانت تكاليف الحرب منذ اندلاعها وحتى اليوم قد بلغت أربعين مليار دولار وفقا للتقديرات المتداولة، فإنها عرفت تضخما ملموسا منذ العام 1993 بسبب زيادة حجم القوات المشاركة فيها.

طوال رحلتي في تلك المناطق لم أستطع أن أبعد عن ذهني هذه الصور رغم أن الهدوء كان يسودها، ولم نر أي أثر لتحركات عسكرية، ولكن ما جعل هذه الصورة حاضرة دوما هو ظل رجال الأمن الذين كانوا يلاحقوننا في كل مكان نذهب إليه. إن أهداف مشروع الجاب المعلنة ترسم صورة مثالية لما سوف تكون عليه هذه المنطقة في المستقبل، فهي ستجعل من تركيا سلة غذاء الشرق الأوسط وسوف

تضاعف محصولها من الأقطان، كما تجعلها قادرة على تصدير الطاقة الكهربائية ومياه الشرب إلى دول الخليج وإسرائيل الصديقة الأثيرة، وتبلغ تكاليف المشروع بأكمله 32 بليون دولار، وهي كما نرى أقل بكثير من تكاليف العمليات العسكرية، وسوف تشمل عشراً من المدن التي شهدت الكثير من الاضطرابات مثل ديار بكر، وبتمان، وجازينتب وماردين، وغيرها، أي أنه يؤمل في تنمية منطقة تزيد مساحتها على 75 ألف كيلو متر مربع (ضعف مساحة النمسا)، فهل يمكن أن تتحقق هذه الأهداف الكبيرة؟ أم أنها أقنعة جميلة لأهداف سياسية وعسكرية! مخاوف كبيرة تحيط بهذا المشروع الطموح، مخاوف من داخل تركيا نفسها، ومخاوف أخرى من الأكراد، ومخاوف أشد وأكثر مرارة من جيران تركيا من العرب، أعني سوريا والعراق، فعلى أي أساس يبني كل جانب مخاوفه؟

ثغرة في الخزينة التركية

ماذا عن تركيا الداخل؟ مرافقتنا السيدة "أديليك " كانت رقيقة ومثقفة وتجيد الحديث بالإنجليزية وتعلم الكثير من دقائق تاريخ المنطقة رغم تخصصها في الزراعة، لكن ونحن في الطريق إلى مدينة حران القديمة لم تستطع أن تخفي غضبها وأنا أشير إلى مشهد بعض القرى البائسة قائلا: إن هذا المشروع يمثل فرصة أمام الدولة التركية للاهتمام بهذه المنطقة التي أهملتها طويلا، لقد نظرت إلي في حدة وهي تهتف بي: هل تبحث عن أخطاء؟ وأخذت تشرح لي كيف أن الدولة لم تنس دورها هنا قط، فهي أولا وأخيرا أرض تركية، ففي كل قرية توجد المدارس والمكاتب الحكومية، ثم أضافت مؤكدة على ذلك كيف أن مشروع الجاب مشروع متكامل لا يهدف إلى تعديل نظام الري وإنتاج الطاقة فقط، ولكن له جانبه الاجتماعي أيضا، وهو يقوم بذلك من خلال المراكز المنتشرة في المدن العشر التي سوف يشملها المشروع، إضافة إلى العديد من المراكز الأخرى في القرى الصغيرة، كانت تتحدث في حماس الشباب، رغم أن هذا لا يلغي الأصوات التي ترتفع من داخل الكثير من المسئولين متهمة الحكومة أنه لا جدوى من هذا المشروع، وأنه قد تحول إلى ثغرة تلتهم أموال الخزينة التركية، وهذه الأصوات تشكك في القدرة على ري كل هذه المساحات المعلن عنها، حتى ولو تم استخدام كل مياه دجلة والفرات.

تعاني تركيا من صراع حزبي لم يهدأ ولم يسفر إلا عن حكومات ائتلافية قصيرة العمر يتحكم فيها جنرالات الجيش الذين يعتبرون أنفسهم حراسا لعقيدة كمال أتاتورك. ورغم الوجه العلماني للدولة وتمسكها بالديمقراطية الغربية فإنها شديدة التمسك بفكرة الدولة المركزية التي لا تعترف بالتباين والاختلاف، وقد انعكس ذلك على نظرتهم للقومية الكردية، فقد كانوا يرفضون دائما أن هناك شيئاً اسمه "أكراد" وتعتبرهم مجرد أتراك يقيمون في الجبال، حدث هذا في الوقت الذي لم يكن فيه الأكراد يفكرون في الاستقلال أو الانفصال عن الدولة الأم، وكان كل ما يطالبون به فقط هو الاعتراف بهويتهم ولغتهم وثقافتهم الخاصة، أن تتم معاملتهم مثل بقية الأتراك كمواطنين من الدرجة الأولى، وأن ينالوا نصيبهم العادل من التنمية في مناطقهم، ولكن الرد العسكري العنيف هو الذي ألقى بالبعض منهم في هوة التطرف والانضمام إلى صفوف حزب العمال الكردستاني، لقد كانت نتيجة هذه الحرب القائمة منذ سنوات طويلة أن هاجر آلاف من الأكراد من منطقتهم إلى الخارج وإلى العديد من المدن التركية، وقد عاشوا في داخلها في تجمعات كردية فقيرة عاجزة عن الالتحاق بأي عمل، بعد أن أغلق أرباب العمل السوق أمامهم وتحولوا بالتالي إلى بؤر للتطرف.

هل اختلفت الرؤية التركية إلى تلك القضية؟ أعتقد أن هذا حدث إلى حد ما، فالعدو الأكبر الذي كان يهدد تركيا من الشمال وأعني به الاتحاد السوفييتي قد انهار من تلقاء نفسه تاركا لها امتدادا ثقافيا ونفوذا لا يستهان به في الدول المسلمة ذات الأصول التركية في وسط آسيا، كما أن تركيا شهدت تطورا مصرفيا وصناعيا كبيرين، كما ظهرت طبقة من رجال الأعمال تطالب بتنمية حقيقية لجنوب شرق البلاد بدلا من تركها لسيطرة العسكريين الذين يستنزفون موارد الدولة، كما أن تركيا لم تعد تستطيع أن تتجاهل أصوات جماعات حقوق الإنسان التي تعالت في انتقاد هذه السياسات القمعية، بل وأصبحت إحدى العقبات الرئيسية في طريق انضمام تركيا للسوق الأوربية المشتركة.

أتعس القوميات

وماذا عن أشد قوميات الشرق الأوسط تعاسة.. ماذا عن الأكراد؟

في قرية هالفيتي، ورغم الصمت الذي كان يلفنا كما يلف النهر والجبال، أمسك شاب صغير آلة "البزق" وبدأ في العزف عليها وهو يغني بصوت أجش مليء بالشجن العارم، لم أعرف إن كان يرثي بلدته التي توشك على الغرق، أم يبكي تاريخ الأكراد الطويل المليء بالأحزان، إنهم رابع قومية عرقية- من حيث العدد- في الشرق الأوسط بعد العرب والفرس والأتراك، وهم أشد هذه القوميات بؤساً، فلم يكونوا أبداً كياناً مستقلاً، ولم يسمح لهم أحد بذلك، ورغم أنهم يملكون منابع الماء والبترول، فإنهم ظلوا فقراء الشرق الأوسط، تنصب عليهم من الجنوب غارات النظام العراقي السامة، وتهاجمهم من الشمال جيوش الجنرالات التركية، وفي الوسط يخوضون ضد أنفسهم حروبا لا تنتهي، كأنما في داخل كل كردي "جينات" تدفعهم للانقسام على أنفسهم.

تقول الأسطورة إن الملك سليمان أرسل بعض أتباعه من الجان ليحضروا له أجمل جواري الأرض، وتفرق الجن في كل أنحاء العالم، وغابوا طويلا لينتقوا من كل بلد أجمل امرأة فيها، وحين عادوا كان الملك سليمان قد مات، وأحس الجن بالتحرر، فأخذوا الجواري إلى الجبال وتزوجوا منهن ومن نسلهم جاء الأكراد. خليط من جمال الجواري ورقتهن، ومن قوة الجن وجنونهم.

ولعل هذه الأسطورة هي الشيء الأقرب لتصوير طبيعة الأكراد، فالمؤرخون لا يعطون رأيا قاطعا حول جذورهم الحقيقية، وهم في أغلب الظن إحدى الهجرات الآرية التي ضلت طريقها وسط الجبال الوعرة، ومنذ ذلك الحين وقد لازمهم الحظ السيئ، فبعد انهيار الإمبراطورية العثمانية في عام 1918، لم يتخل الأكراد عن حكامهم القدامى من الأتراك، فحاربوا مع كمال أتاتورك أعداء تركيا التقليديين، الأرمن في الشرق واليونانيين في الغرب، ولكن جهودهم ضاعت عبثا مع قيام الدولة التركية القومية في عام 1922، فلم يرد إليهم اعتبارهم، ولم يستردوا شيئا من شخصيتهم القومية، وفور إحساسهم بخيبة الأمل بدأت محاولاتهم للمقاومة والتمرد، ففي ديار بكر ثار الدراويش من أتباع الحركة النقشبندية، ورغم أن الأتراك قد تغلبوا عليها، فإنها كانت بداية لمواجهات عنيفة، ولم يكن ظهور حزب العمال الكردستاني في عام 1978 تحت قيادة عبد الله أوجلان إلا تطوراً طبيعياً لهذا الصراع الذي تحول إلى عداء قيادة بين الأكراد والأتراك، فكل واحد منهم قاد معركته بطريقة خاطئة، فقد وجه أوجلان وجيشه أعمالهم ضد المدنيين الأبرياء، وضد صناعة السياحة التركية، كما وجهت القوات التركية ضربات عشوائية ضد القرى الكردية الآمنة، فأحرقتها وأجلت السكان عنها، وأغلقت المدارس والمستشفيات، بل وساعدت في تأليف ميليشيات من ملاك الأرض الإقطاعيين القدامى، وأتباعهم، أطلقت عليهم "حراس القرى" أخذت تمارس نوعاً من الإرهاب اليومي كان هدفه اغتيال المثقفين والمفكرين الأكراد.

لقد تحول حوض نهري دجلة والفرات من جراء ذلك إلى منطقة صراع، ليس بين الجيش التركي والأكراد فحسب، ولكن بين مؤيدي ومعارضي حزب العمال الكردستاني، ووقع الفلاحون العزل بين شقي الرحى، لذلك لم يكن غريبا أن تنظر قطاعات كبيرة من الأكراد إلى مشروع "الجاب" بنوع من الحذر والريبة، فالاستثمار في هذه المنطقة كان فقط في مجال السلاح والإنفاق العسكري، فكيف تحول الأمر ليصبح من أجل بناء السدود وإصلاح الأراضي وتنمية المجتمعات الريفية؟ هل تغير الهدف التركي إلى تنمية المنطقة بدلا من محاولة إخضاعها؟

في البداية لم يصدق الثوار الأكراد أن هناك نوايا طيبة وراء المشروع، لقد اعتبروا معداته ومهندسيه طلائع لعمل عسكري جديد فقاموا بمهاجمته، كما أن العديد من الأكراد مازالوا يعتبرون أن هناك هدفين رئيسيين ومعاديين تسعى إليهما تركيا من المضي وراء هذا المشروع وضخ كل هذه الأموال، رغم كل الانتقادات التي توجه إليها، أول هذين الهدفين هو تحويل هذه المنطقة لتكون نقطة جذب لبقية العناصر التركية من جميع البلاد، وتقديم التسهيلات لهم للعمل والإقامة وبذلك يتم تذويب القومية الكردية المتركزة في هذه المنطقة وتصبح أقلية وسط القومية الأخرى، لقد جربت السلطات قبل ذلك تهجير الأكراد إلى مختلف أرجاء تركيا وهاهي تمارس نفس السياسة بطريقة معكوسة فتسعى لتهجير الأتراك إليها.

أما الهدف الآخر فهو خلق نوع من الحدود المائية تفصل بين أجزاء كردستان، فالسدود سوف تقيم مناطق ضخمة من المسطحات المائية تقسم مسطحات الأرض الصلبة، فالسدود المقامة على نهر الفرات سوف تفصل بين أكراد سوريا وتركيا، والسدود المقامة على نهر دجلة سوف تفصل بين أكراد العراق وتركيا، وبذلك يقوم "الجنرال مياه " بما لم يستطع " الجنرال سلاح " القيام به.

ولكن هناك جوانب إيجابية في هذا المشروع، وهناك من يؤمن بأن خلاص تركيا يكمن في نجاحه، إنهم مجموعة من الشباب الذين يعملون في الجانب الاجتماعي لمشروع الجاب والذين حرصت السيدة أديليك على تدبير لقاءات مطوّلة معهم، واطلعت على عشرات الدراسات عن التأثيرات التي سوف يحدثها هذا المشروع على الأسرة الكردية وعلى المرأة بشكل خاص، وهم يقومون بجهود كبيرة داخل مراكز صغيرة وغير مجهزة تقريبا إلا من جهودهم وعزيمتهم، وهم يقومون بمهمة كبيرة من أجل إعادة تأهيل السكان وخاصة الذين سوف يفقدون بيوتهم وأراضيهم.

لقد ترتب على بناء سد أتاتورك مجموعة من المشاكل لم تنتبه إليها السلطات في وقتها، لقد أعطت السكان الذين أغرق خزان السد قراهم وبيوتهم تعويضا مادي غير مجز، وتركتهم يواجهون مصيرهم دون أي مساعدة، وكانت النتيجة أن ظروف الحياة والتضخم التهمت هذه النقود ووجد المهاجرون أنفسهم عاطلين، يعيشون على هامش المدن التي هاجروا إليها، لقد حاول بعضهم العودة إلى قراهم الغارقة بينما احترف البعض الجريمة، وكان ثمن التقدم باهظا على المستوى الإنساني، إن هؤلاء الشباب لا يرغبون في تكرار هذه المأساة، لقد كونوا فرقا للعمل تناقش السكان وفق أسلوب المشاركة تسألهم عمّا يودون، هل يريدون البقاء في المنطقة نفسها؟ أم يرغبون في مزاولة أعمال أخرى يستثمرون فيها أموال التعويض؟ لقد أعدوا برامج لتعليمهم كيفية تربية النحل أو الأغنام أو الدواجن، أو حتى الزراعة داخل صوب البلاستيك. لقد قال لي أحدهم ونحن نقف على ضفة نهر الفرات: لو استطعنا أن نعلمهم بشكل جيد فسوف ينتهي عداؤهم لكل ما هو تركي.

الجيران الألداء

والآن.. ماذا عن جيران تركيا وشركائها في نفس الأنهر، ماذا عن سوريا والعراق؟ من المؤكد أن تركيا غير محظوظة مع جيرانها، فمن بين جيرانها الثمانية يوجد سبعة على الأقل يشوب علاقاتها معهم بعض من التوتر، فلا يمكن القول إن العلاقة بين تركيا من جهة وكل من سوريا والعراق وإيران واليونان وبلغاريا وروسيا وأرمينيا من جهة أخرى على ما يرام، ولا نعرف هل هو خطأ هؤلاء الجيران الألداء؟ أم خطأ تركيا؟ أم خطأ القضايا التاريخية العالقة والتي لم يتم تصفيتها بعد؟ ولعل هذا ما دفعها للبحث عن صديق بعيد بعض الشيء عن حدودها هو إسرائيل.

وكما ذكرنا من قبل من أننا لم نذهب إلى الجانب العربي بعد لمعرفة تأثير مشروع الجاب على الحصة العربية من المياه، ولكن اعتمادا على التقديرات الدولية، فإن هذا المشروع سوف يقلل نسبة سوريا من الحصة المتفق عليها 40%، بينما لن تتجاوز حصة العراق إلا 20% فقط من هذه المياه وهو أمر- إن صحت تقديراته- سوف يكون أقرب إلى المأساة.

والنزاع العربي- التركي على نهر الفرات هو صراع قديم، ومشروع الجاب هو نقطة التصعيد الأخيرة فيه، ولا أحد يعرف كيف سينتهي، ومما يزيد من تعقيد الموقف أن هناك صراعاً آخر بين العراق وسوريا حول حصتهما من مياه النهرين أيضا، وهو الأمر الذي جعل من التفاوض بين الدول الثلاث حول تقسيم المياه مسألة عسيرة دوما، ولم تصل في أي جولة من الجولات التي عقدت بين الدول الثلاث إلى أي حل مرض ونهائي لهذه المسألة، فالاستعمار الأوربي ترك خلفه خرائط خطوطها سائلة، تقوم كل دولة

برسمها وفق تصورها فيما هو حق لها، ومما لا شك فيه أن وجود منابع النهرين داخل تركيا يعطيها ميزة أساسية، بل إنه يعطيها القوة المتحكمة حتى الآن. وهي بمشروع الجاب تحاول أن تفرض وجهة نظرها المائية على الجميع، وتؤكد للجميع أن هذه الأنهر هي تركية خالصة، ورغم أن البنك الدولي لم يوافق على تمويل هذا المشروع فإن الدول الغربية تقدم لها المساعدة بطرق أخرى غير مباشرة ولكن مؤثرة كما رأينا في تجربة سد بيرجيك.

ويؤكد الدكتور حبيب عائب أستاذ الجغرافيا التونسي في كتابه المثير عن المياه في الشرق الأوسط أن تركيا عندها فائض في المياه أكبر من حاجتها، فهي تملك 185 مليار متر مكعب من الماء سنويا، وهي لا تنكر ذلك بل تفخر به، وتعلن عن استعدادها لبيع الماء إلى دول أخرى مثل دول الخليج وإسرائيل، ولا أدري كيف ستقوم بذلك، فإذا كانت تستطيع أن توصل الماء إلى إسرائيل بواسطة أنابيب تحت البحر بالرغم من الكلفة العالية، فكيف تستطيع تمريره إلى دول الخليج فوق أرض ليست تابعة لها بل وتعاني من العطش وتطالب بحقها في هذا الماء؟؟

أما سوريا فلا تملك من المياه السطحية إلا 33 مليار متر مكعب سنويا، منها حوالي 26 ملياراً من نهر الفرات وروافده، لذلك فإن خسارتها ستكون فادحة إذا تناقصت مياه هذا النهر، وقد عقد اتفاق ثنائي بين سوريا و تركيا في عام 1987 يقلل من نصيبها في نهر الفرات ولا يعطيها سوى 75. 15 مليار (حوالي 500 متر في الثانية)، وهي لا تأخذ كل هذا الحجم لنفسها، ولكنها على العكس من ذلك تأخذ منه نصيباً لا يتجاوز 6، 6 مليار (42 %) وتذهب بقية الكمية إلى العراق حسب اتفاقية أخرى موقعة بينهما.

وتعني تلك الأرقام دلالة حرجة على موقف كل من سوريا والعراق إزاء مياه هذا النهر الحيوي، وقد أصيب البلدان بجفاف كبير أدى إلى تلف المزروعات وعطش القرى حين منعت عنهما تركيا المياه في يناير من عام 1991، بينما كانت تملأ المرحلة الثانية من خزان أتاتورك بالمياه، وسوف يتكرر هذا الأمر- بالطبع- عندما تملأ سد "بيرجيك"، ولا اعتقد أن تركيا تستطيع أن تفي- بعد إتمامها هذا المشروع- بتلك الالتزامات التي وقعتها مع سوريا، فقد كاد شاغلي الأكبر وأنا أزور المنطقة هو سؤالي عن كمية المياه المنسابة من توربينات هذه السدود، فالمياه التي تنساب من سد أتاتورك تبلغ هـ 2600 متر في الثانية، وسوف تقل هذه النسبة إلى حد كبير بعد إتمام بناء سد "بيرجيك"، إذ لن تتجاوز 900 متر فقط في الثانية، أي أنها قد قلت إلى ما نسبته 35% فقط، فماذا سيحدث عندما تبني تركيا السد الثالث وهو سد "كار كاميش" الذي لن يبعد عن الحدود السورية سوى خمسة كيلو مترات فقط؟! كم يبقى من الماء المتدفق؟ وكم يبقي من الاتفاقيات المعقودة؟ والحقوق التاريخية المكتسبة وعلاقات الجوار؟ أنهار دولية أم عابرة للحدود؟ وليست الجغرافيا هي المشكلة الوحيدة، فكل من نهري دجلة والفرات يعاني من التفسيرات المتناقضة للقانون الدولي الذي ينظم استغلال مياه الأنهار بين الدول، تركيا تصر على أن نهري دجلة والفرات ليسا نهرين دوليين، ولكنهما فقط نهران عابران للحدود. فحسب إعلان هلسنكي الذي أصدرته رابطة القانون الدولية فمواصفات النهر الدولي هي أن يكون صالحا للملاحة، وأن يربط دولتين أو أكثر بالبحر، وترى تركيا أن النهرين اللذين يمران بمناطق وعرة غير صالحين للملاحة ولا يربطان دوله ببحر حقيقي، لذلك فإن من حقها استخدام مياهه دون الرجوع للدول الأخرى، أما سوريا والعراق فهما تصران على إضفاء صفة الدولية على النهرين، فهما يربطان دوله ببحر العرب الذي يؤدي للخليج العربي، كما أنهما صالحان للملاحة لمسافات طويلة، لذلك فالدولتان تريدان حلا منصفا ونهائيا لتقاسم مياه النهر والعودة إليهما عند القيام بأي مشاريع، ولكن تركيا الأقوى عسكريا واقتصاديا ترفض عقد أي معاهدة من هذا النوع، وهكذا تقع المياه ضحية صراع الأمر الواقع، وتحاول كل دولة أن تلعب بكل ما لديها من أوراق للحصول على نصيب من هذه المياه الثمينة، وهي تكون فيما بينها مثلثا خطرا وغير مستقر.

العراق هو أضعف أضلاع هذا المثلث، أو هذا على الأقل ما فعله فيه نظامه الحاكم، فقد كانت لدى العراق خطة طموح لتخزين مياه النهرين في وادي "الثرثار" وتنظيم صرفها، وقد شمل ذلك بناء السدود وحفر ترعة تصل بين مياه نهر دجلة العالية الملوحة إلى نهر الفرات المنخفض الملوحة حتى يمكن تعذيب مياه دجلة وجعلها صالحة للشرب والري على نطاق واسع، ولكن بعد قيام النظام العراقي بحماقته الشهيرة وغزوه للكويت في عام 1990 تم قصف هذه المنشئات المائية العراقية وأصيبت بأضرار بالغة.

رغم ذلك فإن العراق يرى أن له حقوقا مكتسبة في نهر الفرات، هذه الحقوق تحتم على كل دولة من الدول الثلاث أن تحترم معدلات الاستهلاك السابقة من المياه، وهي تنظر إلى كل من دجلة والفرات على أنهما نهران منفصلان، بمعنى أنه يجب الاتفاق على تقاسم كل نهر بمفرده، وهي ترد بذلك على محاولة كل من سوريا وتركيا بجعل العراق ينال نصيبه الكلي من المياه من دجلة فقط، فالعراق لا يستطيع التحكم في مياه دجلة الشديدة الانحدار والعالية الملوحة من جهة، وكذلك النهر يمر بالشمال الكردي، كما أن معظم المدن والقرى العراقية المهمة تقع على نهر الفرات، وهو لا يستطيع أن يضحي بنهر يغذي نصف الحياة البشرية فيه، وعلينا ألا ننسى أن واحدة من أهم حضارات التاريخ قد قامت في العراق على ضفة هذا النهر.

أما تركيا الضلع الأقوى في المثلث، فكما ذكرنا من قبل لا تعترف بصفة الدولية للنهرين، وترى أنهما مجرد نهرين تركيين يصبان بفعل المصادفة الجغرافية في دولة أخرى، ورغم أنها تعترف بكثير من التحفظ على مبدأ الحقوق المكتسبة، فإنها تقترح بدلا منها صيغة أخرى هي "المنفعة المتبادلة"، بمعنى أن العراق ليس بحاجة إلى كميات كبيرة من الماء، فنجاح مشروع الجاب يعني أنه سيكون في إمكان تركيا أن توفر له كل ما يحتاج إليه من مواد غذائية وطاقة كهربائية في مقابل أن يزود العراق تركيا بالبترول الذي تفتقده، صفقة منطقية تماما من وجهة النظر التركية، ولكن إذا كان يوجد ما يمكن للعراق أن يقايض عليه فما هو الثمن المطلوب من سوريا؟

إن سوريا هي الضلع المضغوط من هذا المثلث الحرج، عراق ضعيف في الشرق، وجار تركي يتحكم في الماء القادم من الشمال، واحتلال إسرائيلي يسلب موارد المياه في الجنوب، وهي تستعين في مواجهة كل ذلك بحقوقها التاريخية والتمسك بالطابع الدولي للنهر، فليس من حق أي طرف التغيير في طبيعة أي نهر دون استشارة الأطراف الأخرى، وهي لا تخفي امتعاضها، وتعلن احتجاجها على المشاريع التي تقوم بها تركيا خاصة على نهر الفرات، ومنذ بداية المشروعات التركية وقد انخفضت المياه الواردة إلى سوريا بنسبة 40% عن ذي قبل، كما أنها تخشى أن تغير هذه المشروعات أيضا من طبيعة النهر فتجعله مليئا بمياه الصرف والفضلات وبقايا المبيدات الزراعية، أي أنها ستكون مياهاً قد تم استهلاكها بالفعل.

الطبيعة تتحدى

يقول أستاذ التاريخ بجامعة الكويت د. عبد المالك التميمي في كتابه "المياه العربية، التحدي والاستجابة": "إن النزاع بشأن المياه في المنطقة وندرتها، يحتاج إلى إجراءات على مستوى البلد الواحد، وعلى مستوى المنطقة، وعلى المستوى الدولي، وأن ندرة المياه تقابلها زيادة الحاجة إليه، حماس الناس والحكومات لمشروع جيد للمياه في بلد ما قد يكون سلبيا ومدمراً للبلد الآخر، فينشأ النزاع والتوتر".

لقد تعرضت تركيا بعد أيام قليلة من هذه الزيارة التي قمنا بها إلى واحدة من أكبر الكوارث الطبيعية في تاريخها حين دمرت الزلازل منطقة الشمال بها، وهي كارثة لم نكن نتمنى أن تحدث لهذا البلد الإسلامي الكبير، كما نتمنى أن تستطيع التغلب على آثارها الإنسانية والمادية، ولا أعرف إن كان هذا الأمر سيؤثر على المضي في مشروع الجاب بنفس المعدل أم لا، ولكنها بالتأكيد قد أصبحت أكثر مما مضى في حاجة إلى التعاون الدولي والعربي معها.

ولعل هذا يدعوها إلى إعادة النظر في إتمام المشروع ضمن إطار من التفاهم مع جيرانها الذين جعلتهم الطبيعة شركاءها في نفس الأنهر، فلا يستطيع أحد أن يتجاهل الطبيعة أو يتحداها طويلا، فنحن نعرف مدى أهمية هذا المشروع لتركيا، ولكن هناك آخرين على الجانب الآخر من النهر سوف يعانون كثيرا، كما أنها لا تستطيع أن تواصل هذا المشروع دون قدر من الشفافية، كما فعلت في حربها مع الأكراد حين عتمت على كل شيء، ففي ختام رحلتنا وعندما كانت الطائرة عائدة بنا من بلدة "أورفا" إلى أنقرة، جلست في المقعد الذي بجانبي فاطمة التي تعمل مشرفة عامة على مراكز التنمية الحضرية التابعة لمشروع الجاب، وكانت عائدة معنا بعد زيارة تفقدية لهذه المراكز، وعندما تحدثنا معا عن مستقبل المشروع وما سوف يحدثه من تغيير في جنوب تركيا، وجدت أنها تحفظ الكثير من التفاصيل والأرقام، ولكن عندما قادنا الكلام عمّا سوف يحدثه نفس هذا المشروع في الجانب الآخر من الحدود، نظرت إلي ببراءة شديدة وكأنها تكتشف للمرة الأولى أن لتركيا شركاء آخرين في الماء قائلة: حقا.. لم أكن أعرف!

 

محمد المنـسي قنديل

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




صورة الغلاف





سدود تركيا أحلام الخصب ومخاوف الجفاف





مدينة هالفت نائمة على ضفاف الفرات تنتظر لحظة الغرق التي ستواتيها بعد شهور قليلة





آثار أقدم جامعة في التاريخ في مدينة حران





مسجد سيدنا إبراهيم في مدينة أورفا





عندما قال الله تعالى "يا نار كوني برداً وسلاماً" تحولت النيران إلى ماء والحطب إلى سمك ومازالت البحيرة موجودة في أورفا حتى الآن





جنوب شرق تركيا والمناطق التي سوف تستفيد من مشروع الجاب





بيوت حران القديمة. كلها مبنية من الطين وفوقها تلك القباب التي تحفظ البيت رطبا من الداخل





جانب من بحيرة سد أتاتورك حيث تقام مسابقة للرياضيات المائية كل عام





المهندس جلافي بولت يشرح لنا تفاصيل سد أتاتورك





المياه تتدفق للأرض التي حرمت منها طويلا





محطة الأسمنت التي ساهمت في بناء سد أتاتورك





الأنفاق العملاقة التي ستوصل المياه الى كل الأراضي الجديدة





المباني التي أقامتها شركة الجاب من أجل السكان الذين سوف تغرق مساكنهم





داخل سد بيرجيك. العمل لا يهدأ قبل أن تغمر المياه كل تلك الانفاق العملاقة





محطة تحويل كهرباء سد بيرجيك الذي مازال تحت الإنشاء





مدير مشروع السد المهندس صفوت أناشي





محطة تحويل كهرباء سد بيرجيك الذي مازال تحت الإنشاء





شوارع أورفا الضيقة يحاول مشروع الجاب الوصول إلى أعماق المدينة





مراكز التنمية الأسرية تحاول توعية النساء بالأنماط الجديدة للحياة بعد بناء السدود





حياة المرأة الكردية لم تتغير منذ آلاف السنين.. فهل حانت اللحظة؟





نهر الفرات كان دائما مصدر الخير والخصب فهل تبقى مياهه أسيرة الشمال؟





بحيرة أتاتورك باتساعها الضخم أغرقت بعض القرى وغمرت أطراف القرى الأخرى





أغنية كردية على حافة نهر الفرات قبل أن تغرق هالفيتي ويتبدل نهر الزمان





عجوز كردي وسط شواهد مدينة أورفا التاريخية