الشاعر عبدالوهاب البياتي وعماد سارة

الشاعر عبدالوهاب البياتي وعماد سارة

( 1927- 1999 )

القصيدة السياسية تصبح شرّاً عندما تتحوّل إلى شعار بائس .

منذ شهور قليلة، نشرت مجلة العربي حواراً مهماً مع شاعرنا الكبير عبد الوهاب البياتي ، ولأن الموت قد غيّب صورته، فإننا نستعيد صورته مرة أخرى من خلال هذا الحديث وتلك الدراسة التي سوف تتبعه، فلا يجود الزمان كثيراً بقامة شعرية كالبياتي، وقليل هم الشعراء الذين اختلطت عذابا تهم الشخصية مع أشعارهم، فهذا الشاعر كان قدره المنفى كغيره من شعراء فطاحل العراق أقصتهم الأنظمة السياسية القمعية عن أرضهم، وإن لم تستطع إقصاءهم عن قلوب الذين يعشقون الحب والحق والجمال. وعندما نقول "عبدالوهاب البياتي" نقول مباشرة إنه واحد من الثالوث الذين وضعوا حجر الأساس للحداثة في الشعر وعندما نقرأ شعره، تتراءى أمامنا تجربة إنسان عاش الغربة والترحال، تنقّل بين البلدان كما تنتقّل الفراشة من زهرة إلى زهرة، فأخذ رحيقها وصنع منه أجمل الأشعار . أشعار تميّزت بتراكيب جمله البسيطة والمتعددة التأويل ، وبصورها ودلالاتها الشفّافة. إنه شاعر حداثي بامتياز، من حيث خلقه للصور والجمل الشعرية . لم تبهره السياسة ومغرياتها، فابتعد عنها وبقي سيد قلمه وليس القلم سيده. باختصار البياتي هرم من أهرامات الوطن العربي . لقد التقى معه الكاتب عماد سارة في دمشق محطته الأخيرة في المنفى قبل أن يموت بأيام قليلة، وحاول أن يستقطر من خلال كلماته خلاصة تجربته الشعرية، وعمادة سارة هو كاتب سوري يعمل محرّراً في مجلات جامعة دمشق.

  • لنتحدث عن قصيدتك الأولى، هل كنت راضياً عنها كونها وضعتك على أول طريق المسؤولية؟ أم على العكس أبعدتك لفترة عن قرض الشعر؟

- القصيدة الأولى تسبب لكل شاعر فرحة كبيرة ، لأنها تضعه على طريق الشعر مهما كانت هذه القصيدة ، لا أذكر القصيدة الأولى التي كتبتها ، لقد كتبت قصائد أولى كثيرة ضاع معظمها ، لم تنشر ولم أحتفظ بأي واحدة منها حتى التي نشرت على مستوى جريدة الحائط في المدرسة لم أحتفظ بها، وكل ما أذكره من قصائدي الأولى، إنها كانت تقليدية عمودية ذات قافية واحدة كلماتها مستهلكة قد نجد أغلبها في قصائد أخرى لشعراء أخر. لذلك عملت بجد لأكتب قصيدة بلغة جديدة مغاير للغة الآخرين، وكانت مهمتي صعبة للغاية، لأن المسافة بين اللغة والتجربة شاسعة، وكذلك الالتحام باللغة والتوحدّ معها لا يمكن أن يتم إذا لم يكن هناك مقدرات داخلية ( موهبة) والموهبة لم تكن قد استيقظت بعد في تلك الفترة ، لذلك كنت أقرأ بشكل محموم كمن يبحث عن شيء لا يجده.

الخروج إلى العالم الآخر

  • احتوى ديوانك الأول "ملائكة وشياطين" على "42" قصيدة معظمها رومانسية وجودية بطريقة عمودية، ما السبب؟ ولمَ عبرت فيه عن الوحشة والحب والخريف وابتعدت عن المواضيع السياسية؟

- ذلك لأن كل شاعر يبدأ رومانسياً، هناك فضاء فاصل بين الشاعر واللغة، وبين الواقع والشاعر واللغة أيضاً، الشعر يقتنص الكلمات والجمل التي تقترب من المألوف والسائد، وكان المألوف والسائد في ذلك الوقت الاتجاه الرومانسي في الشعر العربي، وحاولت في هذه القصائد أن أبتعد قليلاً أو كثيراً عن تقليد الاتجاه تماماً، وقد أشار النقاد فيما بعد- الذين كتبوا عن هذا الديوان- أنه رومانسي، ولكنه يختلف عن الشعر الذي كان سائداً الذي يكتبه "محمود طه" أو "إبراهيم ناجي" أو جيل الشباب في تلك المرحلة.

احتوى هذا الديوان على أهواء كثيرة وأجواء رومانسية، ولكني كنت أحاول مثل الطائر الذي يجد نفسه محاطاً بالغيوم أو في قفص ويحاول أن ينقر قضبان القفص لكي يخرج إلى العالم الآخر العالم الخارجي.

لغة غائمة عائمة

  • هل يعني أنك لم تكن راضياً عن قصائد هذا الديوان ؟

- القصائد التي كتبتها في هذا الديوان يوجد بيني وبينها مسافة، فضاء كبير، فاللغة ليست لغتي، كانت لغة غائمة عائمة أشبه بسحاب يقترب من الأرض أمد يدي لهذا السحاب وأمسكه، لكنها ليست لغتي، وليست لغة الآخرين، كانت لغة غائمة ضائعة لغة خاصة، لكن بعد ذلك اقتربت أكثر فأكثر من الواقع، وبدأت هناك معادلة بين اللغة والموضوع الذي أكتبه وبين أي نوع، إلا أن هذا الاقتراب لم يصل لمرحلة التطابق لأن الشاعر في حياته لا يستطيع أن يتطابق تماماً مع اللغة، مع الواقع يظل هناك فجوات قائمة.

الشعر السياسي والشعارات

  • نعود إلى موضوع السياسة، ما السبب في ابتعادك عن كتابة الشعر السياسي مع العلم أنك اقتربت من السياسة في بعض دواوينك مثل "أشعار في المنفى" و "كلمات لا تموت"؟

- لأن مفهوم العالم لدي تغيّر، ففي دواويني " مجد الأطفال والزيتون" و "أشعار في المنفى" و "كلمات لا تموت" و "النار والكلمات" اقتربت من السياسة ولكن بشروطي.

أنا منذ البداية وربما انتمائي العائلي كان يجعلني أحب الوحدة والانفراد والتأمل- كنت لا أؤمن بالإرشادات والوصايا وأحاول اكتشاف الأشياء بنفسي، كان هذا هاجسي منذ البداية، وهذا ما ساعدني جداً كشاعر، لهذا كنت أرى الذين يعملون بالسياسة في واد وأنا في واد آخر، هم في واد والشعراء في واد آخر، أي لم تكن هناك أي علاقة عضوية أو واقعية بين العمل السياسي أو بين السياسي والشاعر أبداً.

فالشعر كان يكتب باسم الشعر لكنه لم يكن شعراً، كان مليئاً بالشعارات السياسية وهو أشبه بألفية "ابن مالك" التي تضم قواعد النحو العربي، كنت أخاف من هذا النوع حتى أن بعض الشعراء العراقيين الذين قرأت لهم في سن مبكرة مثل "الرصافي" و "الزهاوي" اكتشفت أنهما يكتبان موضوعات إنشائية سياسية أو غير سياسية بالقالب الشعري، لذلك لم تستوقفني أي قصيدة من قصائدهم. وجدت ضالتي المنشودة لدى الشعراء المعاصرين العموديين مثل "شوقي" إلا أنني لم أتوقف عنده كثيراً سوى في روايته الشعرية التمثيلية "مجنون ليلى"، أما بقية التمثيليات فكانت هابطة لم تعجبني لأنها كانت تفتقر إلى الشعر. "حافظ إبراهيم" لم أتوقف عنده على الإطلاق، لكني توقفت كثيراً عند "إلياس أبو شبكة" وقليلاً عند "سعيد عقل".

توقفت عند "الجوهري" و "بدوي الجبل" لأني وجدت في شعرهما الكثير من الشعر على الرغم من أنه مكتوب بالطريقة العمودية، وهكذا كانت رحلتي.

السياسة علم لفهم الواقع

  • إذن أنت لم تكتب الشعر السياسي حتى لا يتحوّل شعرك إلى شعارات، ولكن ألا تعتقد معي أن الشاعر سياسي انطلاقاً من أن السياسة علم لفهم العالم؟

- الحقيقة أنا أتوجس، أي من الممكن أن أكتب بالسياسة، وليس بشروط الشعر، فالسياسة ليست شعراً بل شر عندما تتحوّل إلى شعار بائس، السياسة- كما قلت- علم لفهم الواقع، والشاعر السياسي بأعماقه وبإبداعه حتى عندما يكتب عن الخريف أو الحب أو الموت، فهو سياسي يرى العالم بنظرة صادقة حقيقية بعيدة عن الخديعة.

السياسي ممكن أن يخدع ويُخدع بالوقت نفسه، لكن الشاعر يحاول ألا يخدع ولا يخُدع ، فالخوف من الوقوع في الخُديعة الشعرية أو الفكرية أو السياسية هو الذي يحمي الشاعر في مسيرته الشعرية، ويجعله يرى العالم بنظرة مختلفة تماماً. هناك الكثير من الشعراء الذين تساقطوا أو ماتوا نتيجة الالتواءات في حياتهم، والفخاخ والكمائن السياسية، دخلوا أقفاصاً في أحزاب وضيّعوا عمرهم ومواهبهم.

البرزخ الجهنمي الإثمي

  • ألا تعتقد معي أن الشاعر الحقيقي يستطيع تجاوز كل العقبات، ويصل إلى بر السلامة ؟ فمثلاً هناك شعراء انغمسوا بالسياسة وظلوا كباراً على سبيل المثال "بابلو نيرودا"؟

- أصبت في ذلك، لكن هؤلاء قلة " فبابلو نيردوا" استطاع أن يتجاوز ذلك البرزخ الجهنمي الإثمي وحافظ على سويته الشعرية بالرغم من كونه سياسياً، إلا أن الكثير من الشعراء العظم انتحر مثل "ماياكوفسكي" فعلى الرغم من كونه شاعراً عظيماً فإنه عندما حاول كتابة شعر سياسي، والأفضل الشعر السياسي لم يرض عنه أحد، فجمهور الشعر قالوا عنه إن يكتب شعراً سياسياً بعيداً عن الشعر، كما لم يرض عنه السياسيون، حيث قالوا إن هذا ليس بشعر سياسي، أي أنه ضاع بين الفريقين أو المعسكرين، لذلك انتحر، إذن يوجد خطر، كيف يوفق الشاعر في أن يرى العالم بعين سياسية، ولكن ليس بعين السياسيين.

شاطئ جديد

  • لننتقل إلى ديوانك الثاني "أباريق مهشّمة" الذي صدرت طبعته الأولى عام 1954 والذي كان يعتبر أول ديوان يمثل الحالة الشعرية في الوطن العربي . هل كان هذا الديوان يمثل استجابة لنزعة التمرّد لدى "البياتي" لنقض ما هو قائم من شعر تقليدي حتى على نفسه وعلى ديوانه الأول "ملائكة وشياطين"؟

- حاولت في هذا الديوان أن أنسلخ عن العالم الرومانسي الذي غرقت فيه بديواني "ملائكة وشياطين" ، وأن أصل إلى شاطئ جديد.

كنت أشعر أن قصائد هذا الديوان تعبّر عن قلقي وتمرّدي في تلك المرحلة، وحاولت في الوقت نفسه ألا أقترب من عالم السياسة ، وأن أوازن بين حالتي الفكرية والنفسية والاجتماعية وبين القصيدة نفسها.

قراءاتي كانت متميزة ، إذ إني كنت أقرأ القليل، ولكن كنت أقرأ الكتب الجيدة، وأتيح لي في سن مبكّرة أصدقاء يعرفون لغات أجنبية ، فترجموا لي أعمالاً أدبية كثيرة، فمن الشعر الفرنسي قرأت "سارت سيمون ديغوار" قبل أن يترجم أحد أعمالهم للغة العربية، وقرأت أشياء كثيرة وجدت فيها تطابقاً مع نفسي.

كان الأدب السائد عندنا في ذلك الوقت، أدب القرّاء وليس للمبدعين، وأنا كنت أبحث عن أعمال أدبية أستفيد منها كمبدع، وكانت قليلة جداً في تلك السنوات، و "أباريق مهشّمة" كان منطلقاً لمسيرتي الشعرية فيما بعد، لأن قصائده كانت تختلف عن إنتاج جميع الشعراء العراقيين وغير العراقيين في ذلك الوقت، لذلك عندما كنت أنشر هذه القصائد في مجلة "الأديب" كان رئيس تحريرها يتصل بي ويقول لي " هناك الكثير من الأدباء والقرّاء يطالبون بالمزيد، وكان يطلب مني أن ينشر لي في كل عدد، وحصل مثل هذا في مجلة "الآداب" أيضاً، وجدت نفسي ذات يوم أن اسمي أصبح مشهوراً في كل مكان، ونشبت معارك أدبية وشعرية في المقاهي ، وفي كل مكان في العالم العربي، حول قصائدي.

بحث دائم وقراءات معمّقة

  • كيف كانت ردّة فعلك عندما كنت تسمع أن هناك جدالاً ونقاشاً ونقداً حول أشعار ديوانك واعتبارها منعطفاً للشعر العربي؟

- كنت أبتسم ، وكنت أشعر بأني أكتب الشعر مثل البقية، لم أصنع فيه معجزة، ولقد استغربت من نفسي، لأني لم أكن أتوقع أن يكون شعري مداراً للنقاش والحوار ووصولي إلى "إباريق مهشّمة" كان عبر "ملائكة وشياطين".

ويوجد شاعر يقول عن جوجان الرسام "لكي يصل الفنان للوفر، عليه أن يمر بهونولولو ومدغشقر" فلولا مرور جوجان بـ هونولولو ومدغشقر ما وصل إلى اللوفر، لذلك أقول : "لولا "ملائكة وشياطين" " ما وصلت إلى "أباريق مهشمّة " ، أي أن هذه الانعطافة كانت نتيجة التماس للذات الروحي والثقافي ، لقد كنت اشتري الكثير من الكتب لكني لا أقرؤها ، لأني لا أجد فيها ما يغذي روحي ، فالتمّرد الذي كان عندي كان يضيء زوايا غامضة بالنسبة لي ، وهذا البحث الدائم والقراءات المعمّقة كلها ساعدتني إضافة إلى التربية والبيئة التي كنت فيها.

جسور بين الأنا والآخر

  • ما رأيك بالشعر الذاتي الذي يعّبر عن ذات الشاعر فقط؟

- إذ تلاءم مع القوانين الموضوعية للأشياء فهذا جيد، أما الشعر الذاتي الذي يعبّر عن الجنون أو الشذوذ الفكري والروحي فليس له قيمة على الإطلاق ، يصلح فقط للدراسة من قبل العيادات الطبية وعلم النفس. بالنهاية المطلوب من الشاعر شعر حقيقي، لأن الشاعر عندما ينطلق من ذاته يجب أن يلتقي بالآخر،أي إذا لم تكن هناك جسور ممتدة بين الأنا ، والآخر يفقد الشعر قيمته، وهنا يبرز السؤال : لماذا يكتب الشاعر؟

عودة من جديد

  • القارئ لديوانك "الذي يأتي ولا يأتي" يجد المنحى الصوفي واضحاً كما يشعر بتكثيف للزمان ضمن المكان، وبتشابك الحلم والماضي مع الحاضر والمستقبل أي أن هذا الديوان منعطف جديد لشعرك؟

- صحيح ما ذكرت، فهذا الديوان كان عودة من جديد لرحلة جديدة، فإذا اعتبرنا ديوان "أباريق مهشمّة كان منعطفاً في شعري أو الشعر العربي، فإن "الذي يأتي ولا يأتي" كان منعطفاً جديداً جاء ثمرة سنوات الخيبة الكونية والثقافية التي سادت العالم العربي والعالم أجمع.

وكان من الصعوبة أن أعبّر عنها بشكل مباشر، لقد كتبت قصائد عن هذه الخيبة مثلا " بكائية إلى شمس حزيران والمرتزقة وغيرها، لكني شعرت أن هذه المرحلة فيها ملامح من عصور سبقتنا أزمنة تحمل خيبات وانكسارات البشر وخسارتهم، فهي رحلة في الزمان والمكان، لكن الخلفية التي أدت إلى كتابة "الذي يأتي ولا يأتي" هي الواقع السياسي ، هي المناخ الفكري الذي ساد العالم العربي في ذلك الوقت، وهذا الديوان صدر وأنا في القاهرة فأصبح مدار حديث، أثار الاهتمام لأن الشبيبة في ذلك الوقت وخاصة في مصر، وجدوا في هذا الديوان تعبيراً عن خيبة أملهم وقلقهم الروحي وخوفهم من المصير، أي هذه الأشياء التي تعتري البشر في المنعطفات التاريخية الخطيرة.

التكوين البشري الاجتماعي

  • البياتي- السيّاب- الحيدري ثالثوت له الفضل في وضع اللبنة الأولى على طريق حركة التجديد الشعري العربي . ما الأسباب الموضوعية التي أدت إلى إطلاق هذا التيار برأيك؟

- هناك أسباب كثيرة ، فالعراق يعيش في قلق مستمر من الغزوات الداخلية والخارجية والحرائق والفيضانات التي كان يحدثها "دجلة والفرات" عبر التاريخ، أيضاً التكوين البشري الاجتماعي، فالعراق يتكون من قوميات كثيرة ، ومن أديان ومذاهب كثيرة جداً، هذه الأمور كوّنت شخصية متميّزة جداً على مستوى الشرق الأوسط ذلك لأن الصراع بين هذه العناصر فيه نوع من المزيج والمركب، هذه الجدلية ما بين المزيج والمركب أعطت أشياء كثيرة حقيقية في حقول الفن والأدب وما أشبه.

ظهرت هذه الحركة الشعرية مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، في البدايات كنت قلقاً ، لأن القضية كانت ليس تغير شكل القصيدة ، فالبعض غيّر شكل القصيدة ولكن ظل يكتب بنفس هاجس القصيدة العمودية التي كان يكتبها أو تحوّلت القصيدة عندهم إلى تجريدهم كلام مثل لا تذهبي، اذهبي ..إلخ . أي قصيدة دون مضمون.

والقصيدة- برأيي- عند ولادتها أو حركتها، يجب أن تنضوي على شيء جديد على ملامح جديدة وإلا لا معنى للتجديد ، لذلك كنت أتردد وأتوقف ولا أستعجل عكس الآخرين الذين انصرفوا في هذا التيار، حتى كنت أقول إن الكثير من قصائد "نازك الملائكة" لو كتبت بشكل عمودي لكان أفضل، لأن المادة جاهزة، أي مثل إذا كان عندك مادة جاهزة على طاولة وتكتبها بطريقة (مفرفطة) في تفعيلات بينما المادة الجاهزة لو تم وضعها في قوالب كلاسيكية أفضل.

الشعر الجديد والرؤية الحديثة

  • برأيك الخروج عن مألوف القصيدة الكلاسيكية هل هو تجديد؟

- هذه القضية خطيرة حتى أن بعض النقاد لا يعيرونها أهمية، فالبعض منهم يعتقد أو يتصوّر أن الخروج عن المألوف تجديد، وهذا ليس صحيحاً، فالشعر الجديد هو رؤية جديدة للعالم ، هذه الرؤية الجديدة تسبب زلزالاً يشمل كل بنية القصيدة لا يبقى على البنية القديمة إنما يستفيد بأفضل ما فيها.

التجديد الحقيقي هو بأن تأخذ أثمن ما في القديم وتجعله جزءاً وهذه الحركة حركة القصيدة التي هي تتفق مع حركة التحقيق يجب أن يكون هناك مبرر لحركتها، وإلا لا معنى لها، وسبب تفوق "أباريق مهشمّة" في أن البعض كان يقول لماذا هذا الشعر الجديد؟ والبعض كان يتساءل فكان ديوان "أباريق مهشمّة" جواباً لتساؤل القراء والنقاد أي وضع حدّ للجدل الدائر أثناء تلك السنوات، وهذا ما دفع ناقدا مثل الدكتور "إحسان عباس" بتأليف كتاب عن "أباريق مهشمّة" وهو أول دراسة إلى جانب الدراسات التي نشرت بالصحف والمجلات.

القصيدة مقاومة للنفي

  • بغداد، دمشق، مدريد، عمان، بيروت وغيرها عواصم عشت متنقلاً بينها، عانيت فيها الغربة والترحال بعيداً عن الأهل والأصحاب كيف استطعت التغلب على الغربة، وكيف انعكست هذه الغربة في أشعارك؟

- كنت أستبدل الغرفة أو الوطن بالمقهى والمقهى بالوطن، كنت أتنقّل بين شارع وآخر وهكذا، أي أنني شعرت بأن العالم صغير، وأن وجودي في أسبانيا أو القاهرة مثل وجودي داخل عمارة كبيرة اسمها العالم أتجوّل بداخلها، والإنسان المسكون بهاجس القصيدة لا يشعر بالنفي لأنه يحمل النفي، والقصيدة هي مقاومة للنفي لمواجهة الموت ( النفي، النبذ) كل هذه الأشياء هي الكتابة الإبداعية، وأنا كنت مشغولاً بالإبداع ، لم أكن أفكر إنني منفي أو ما أشبه ، فهو الحنين الرومانسي لا يوجد عندي أبداً، ربما كان في البدايات في مرحلة "مجد الأطفال والزيتون" ، "أشعار في المنفى" ، "كلمات لا تموت" كان هذا الهاجس لأنه كان هناك صراع سياسي يدور بالعالم ، والحقيقة أنا شعرت بالنفي منذ الطفولة والابتعاد عن الوطن شفى قلقي، أي أنه عمل معادلة لشعور بالنفي المبكّر جداً، وبرأي العالم داخل منفى، فالإنسان في وطنه منفي ، وفي قريته، ويحاول التغلب على هذا الشعور الحاد بالتمرّد أو بالانشغال أو بالإبداع أو بالعمل دون جدوى، لذلك كانت المدن علامات في حياتي، لكن الآن نسيت هذه المدن وكأنني رأيتها بالحلم ولا أحب أن أزورها ، أنا أشبه برجل لديه قرى حرق القرى ومشى، القرى احترقت، المدن غرقت بالبحر.

مثلاً "مدريد" لا أحب أن أزورها أبداً ولو أعطيتني الآن دعوة وقلت لي تفضّل ، لا أحب زيارتها لأن أشعر أن كل ما يمكن أن تعطيه مدريد أعطته لي لم أعد أحتاج إلى شيء، مثل إنسان أحب امرأة وانتهت العلاقة، أي انتهى الفصل.

  • هل ينطبق هذا الكلام على البلاد العربية التي زرتها؟

- البلاد العربية تختلف، فالواحدة الجغرافية والنفسية الثقافية، لا تجعل الإنسان يشعر بالنفي، فالمسألة هنا تختلف ما بين بلد أجنبي وبلد عربي، لكني أنا منفي بالأصل، بمعنى المكاني لا أشعر به في دمشق أو أي بلد عربي، ولكن أشعر بأني منفي لأن هذا الشعور أحمله منذ البداية منذ الطفولة.

التجربة والإبداع

  • المتابع لقصائدك يفاجأ دائماً بالتغير، وبوسائل تعبير جديدة، فمن القصيدة العمودية إلى الاختزال ثم العودة إلى الوراء وهكذا، فهل نتوقع نقلة جديدة في قصائدك القادمة؟

- أعتقد هذا، لأن بذل الجهد هو مساري ، وفي كل قصيدة أضع شيئاً جديداً لأن حياتي متنوعة ، فأنا لا أكتب من وراء المكاتب أو من تأثير قراءاتي أو البدع والحذلقات التي تسود، وإنما أحاول الإبداع من خلال تجاربي التي أسقطها على التراث على التاريخ على الأسطورة، أحاول دائماً أن أحول ما هو واقعي إلى أسطوري والأسطوري إلى واقعي دون قصد مني ، فمثلاً هناك قصيدة كُتبت عنها دراسة طويلة اسمها منشور في "بستان عائشة" وهي "مترو باريس" أصوّر فيها قلق البشر ونزولهم إلى المترو وخروجهم الذي يشبه نزول عشتار إلى العالم السفلي تماماً، والبشر وهم في المترو واحد يبحلق في الفراغ، وواحد يقرأ جريدة ، وأخر يغني ثم يخرجون من النفق الأسود دون جدوى، أي في هذه القصيدة حركة، هي تحويل الواقعي إلى أسطوري أو الأسطوري إلى واقعي، كما أنني أحاول أن أعطي التجربة البسيطة للبشر معنى رمزياً صوفياً كونياً، لأن الإنسان عندما يبلغ الذروة في الإبداع يكون قد مات. تحضرني الآن قصيدة اسمها الولاية من الولي وهي تؤكد كلامي أقول فيها :

انشب في لحم الليالي مخلباً وناب
حج إلى مدينة العشق وفي حاناتها افرط في الشراب
وعندما بايعه الخمّار بالولاية أحس بالنهاية.

أي أنني حوّلت التجربة هذه إلى رمز أو معنى كوني أو مثل، فهناك مثلاً شاعر أندلسي يقول : لكل شيء إذا ما تم نقصان، وأنا أعطيت هذا الكلام وهج وصور ضمن المعنى نفسه، لكني لم أقصد هذا، فهي تجربة إنسانية فعلاً.

أشكال الشعر

  • ما رأيك بقصيدة النثر ؟

- لا أفكر بالأشكال التي يكتب فيها الشعراء، فمثلاً عندما أقرا شعر "بابلو نيرودا" مترجماً إلى العربية أعجب به، فأنا أبحث عن الإبداع ، والإبداع ليس له شروط ، كيف تكتب؟ هل يجب أن تكتب قصيدة عمودية أو تفعيلة؟ هذه الأمور غير موجودة، وأنا أعتقد أن كتابة ما يسمى بقصيدة النثر صعب جداً خاصة إذا أردت أن تبدع لا أن تكتب أي كلام.

التجربة الإنسانية العميقة

  • هناك شعراء يكتبون مستخدمين جملاً قوية إلا أنها لا تملك دلالة. ماذا تقول في هذا النوع من الشعراء؟

- هذا يعود إلى افتقار هؤلاء إلى التجربة الإنسانية العميقة، يوجد شعراء يجلسون وراء المكاتب، ويخافون أن يلتقوا بأحد من البشر ، منطوين على العزلة، ويتنفسون من خلال قراءاتهم فقط هؤلاء هم الشعراء الذين تقصدهم ، أما الشاعر الذي يرحل بالكون، ويدخل في خضم تيار الحياة يختلف . الحياة هي كتابة أنا استهدي بالكتب مثلما الملاّح يستهدي بالبوصلة، لكن ليس هي كل شيء، فالذي اكتشف أمريكا هو "كريستوفر كولومبس" وليس البوصلة، البوصلة ساعدته لكنها لم تكن كل شيء، إذن هذا الحدس الباطني الذي امتلك "كولومبس" هو الذي أدى إلى اكتشاف أمريكا لا البوصلة ولا الخرائط لأنها لم تكن أمريكا معروفة حتى تكون خريطة، إذن القصيدة الحقيقية لا أحد يعنيك فيها إلا قوتك الروحية والتجربة الإنسانية، وكيف تضعها بالقصيدة على شكل أسطورة أو حكاية أو حكمة .. إلخ.

الشعر واللهجة المحكية

  • ذكرنا في بداية اللقاء الشاعر "سعيد عقل" وهو من الذين دعوا إلى كتابة الشعر باللهجة المحكية، هل أنت مع هذه الدعوة؟

- أعتقد أن "سعيد عقل" غير جاد، فآخر قصيدة كتبها عن الاحتفالية للأستاذ "الجواهري" في بيروت كانت قصيدة عمودية، وسعيد عقل لم يُعرف بالشعر المحكي دائماً، وإنما بالشعر المكتوب بالفصحى.

إن طريقة "سعيد عقل " هي إطلاق بالونات ملوّنة لكي يجعل الناس يتحدثون ويتكلمون.

  • لكنه كتب بعض القصائد باللهجة المحكية التي يدعو إليها؟

نعم ، لكنها رديئة جداً، فالمسألة ليست مسألة لغة، فأنا أعتقد أن اللغة من صلب الإبداع، هناك شعراء قد لا يحسنون كتابة الشعر إلا باللهجة المحكية، لأنها لغة القصيدة، إذن ليس هناك لغة جاهزة أقول سأكتب بالفرنسي أو باللهجة العامية ، فاللغة جزء حيّ من القصيدة.

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الشاعر عبدالوهاب البياتي





عماد سارة