هل نعيش وسط حضارة مجنونة؟

هل نعيش وسط حضارة مجنونة؟

أكثر من حادثة للقتل الجماعي، وأكثر من مذبحة أصبحت تصدمنا على فترات زمنية متقاربة.. ما سر هذا الجنون؟

لا يفسر العدد الضئيل لضحايا مذبحة التلاميذ في ولاية كلورادو- وفق المعايير الأمريكية- حالة الهلع وردود الأفعال التي اكتنفت المجتمع والمؤسسات وإدارة الرئيس كلينتون، ويبدو أن الحادث قد انطوى على أبعاد كيفية جديدة مقلقة من شأنها أن تلقي بشكوك قوية حول الأسس المعرفية والثقافية التي قامت عليها الحضارة الأمريكية ذاتها.

فعدد ضحايا المذبحة لم يتجاوز 16 تلميذاً قتلوا برصاص زميلين لهم، في مقابل 50 قتيلاً في مذبحة لوس أنجلوس عام 1992، أما انفجار أوكلاهوما سيتي عام 1996 فحصد 168 قتيلاً من بينهم 19 طفلاً إلى جانب أكثر من 500 جريح، وعلى الرغم من ذلك، فإن حالة الاستنفار العام لم تعلن في المجتمع الأمريكي إلا عقب الحادث الأخير بالذات، لدرجة دعوة الرئيس كلينتون لعقد "قمة مكافحة العنف بين الصغار" في البيت الأبيض. ولفت أنظار الخبراء أن المدعوين هذه المرة كانوا من رجال الدين والتربية وعلماء النفس والاجتماع والمسئولين عن برامج التلفزيون وصناعة السينما في هوليوود، وشركات إنتاج وسائل الترفيه، وألعاب الفيديو، وصناعة السلاح باحث بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية الذين أتوا لمحاولة فهم ما عجز السياسيون وأجهزة الأمن عن تفسيره.

كان التفسير العنصري هو أول هذه التفسيرات، وذلك بناء على الأنباء المبكّرة التي أشارت إلى احتمال انتماء المقاتلين لجماعة "المعاطف السوداء الطويلة"، وهي واحدة من الجماعات المسمّاة بـ "جماعات الكراهية"، وأشهرها جماعات "الوطن الآري" و "الوطنيون المسيحيون" و "مالكو السلام في أمريكا".

وكان تقرير "اللجنة العالمية المعنية بالثقافة والتنمية" قد حذر من تنامي هذه الجماعات التي تجاوز عددها 250 جماعة في أنحاء الولايات المتحدة، وهي جماعات يمينية عنصرية متطرّفة تدعو إلى حق البيض في العيش في كيان وطني خاص بهم، وتعمل على بث كراهية الأعراق الأخرى من خلال شبكة اتصالات ضخمة ومتطوّرة، كما تملك ميليشيات مدرّبة جيداً على استخدام السلاح، ويذكر أن تشريعاً أمريكياً صدر عام 1995 لمواجهة هذه الجماعات، إلا أنه فشل في ذلك تماماً، إذ واصلت انتشارها بسرعة في أوساط المراهقين والشباب، لدرجة أن أعضاءها تجاوزوا ألف عضو في ولاية ميتشجان وحدها!.

ولكن سرعان ما سقط هذا التفسير بعد تكشف أبعاد المذبحة التي لم تكن موّجه نحو السود بالذات أو أي من الأعراق غير البيضاء، فرصاص القاتلين كان موجهاً نحو الجميع بشكل عشوائي دون تمييز، في تباين واضح مع مذبحة لوس أنجلوس العنصرية التي شهدت أسوأ أعمال العنف والقتل بين البيض والسود قبل سبعة أعوام.

وسرعان ما بدأ الضمير الجمعي الأمريكي وبشكل عفوي في التفتيش عن تفسير جديد للحادث حتى وجد ضالته في حركة العداء للحكومة الفيدرالية، معتمداً على تقارب تاريخ المذبحة مع انفجار أوكلاهوما سيتي الكبير الذي سبقه بيوم واحد قبل ثلاثة أعوام، وكما سقط التفسير العنصري بسرعة، سقط التفسير الفيدرالي إذ لم تستهدف المذبحة الأخيرة أي هدف فيدرالي على عكس المذبحة الأولى التي استهدفت تدمير مكاتب "مورا" الفيدرالية. أما التفسير الثالث الذي كان أطول عمراً، وصادف شيوعاً كبيراً، فهو التفسير الذي ربط الظاهرة في عمومها بالانتشار الكبير للسلاح وسهولة الحصول عليه في المجتمع الأمريكي سواء من خلال متاجر السلاح أو حتى عن طريق البريد أو الإنترنت مع توفير خدمة التوصيل للمنازل!.

إيحاء الميديا

دفعت ظاهرة "جنون الأسلحة" الخبراء إلى البحث عن تفسير ثقافي- نفسي للأمر، وتوصلوا بالفعل إلى افتراض دور إيحائي مؤثر للتلفزيون والسينما، وكانت اتهامات صريحة قد وُجهت لبطل فيلم "تيتانيك" الشهير مؤداها أن القاتلين كانا واقعين تحت تأثير الإيحاء المباشر لأدائه في فيلمه الجديد "يوميات لاعب كرة سلة، خاصة المشهد الرئيسي الذي تم تصويره بالحركة البطيئة، إذ يدخل البطل الصغير فصله مرتدياً بالطو أسود ليطلق النار على زملائه في ندوة بالغة بعد تناوله جرعة من مخدّره المفضّل وسط انبهار أعضاء فريقه.

وكانت تحقيقات سابقة قد أشارت إلى وقوع بعض حوادث العنف والقتل تحت تأثير السينما، كان أشهرها وقوع عشر حوادث قتل- منها خمس في الولايات المتحدة- تحت التأثير المباشر لفيلم "قتلة بالفطرة"- لاحظ العنوان- للمخرج العالمي الشهير أوليفرستون. من ناحية أخرى، أكدت مصادر موثوقه وصول جرعات العنف في التلفزيون إلى معدلات مفزعة، وكان مركز الإعلام والشئون العامة قد أحصى 2605- ليس هناك خطأ في الرقم- أعمال من أعمال العنف في تجربته للمشاهدة العشوائية لمحطات التلفزيون الأمريكية خلال 18 ساعة فقط، كما أعلن الرئيس كلينتون أخيراً أن الطفل الأمريكي يشاهد حتى سن الثامنة عشرة من عمره حوالي 40 ألف جريمة تقدم له في قوالب درامية وإعلامية مختلفة!.

ولكن على الرغم من هذه الأرقام، فإن جل الخبراء في علوم الاتصال لم يعودوا يقبلون بالنظرية الكلاسيكية المسماة بنظرية "الحقنة تحت الجلد" والتي تفترض لوسائل الاتصال الجماهيري خاصة التلفزيون والسينما تأثيراً فورياً مباشراً على المتلقين، فوفقاً لمفهوم "التعرض الانتقائي" يختار المشاهد ما يريد أن يشاهده وما يتفق مع ميوله واتجاهاته النفسية الأصلية، وبناء على مفهوم "الإدراك الانتقائي" يدرك كل مشاهد نفس المواد الإعلامية والدرامية بطريقته الخاصة ووفق تأويله الذاتي. ويكاد رأي هـؤلاء الخبراء يجمع على أن الإيحاء المباشر يقتصر على حالات خاصة اتخذ أصحابها قراراً مسبقاً باللجوء للعنف والقتل كوسيلة لحل خلافاتهم مع الآخرين، فمشاهد العنف التي أصبح يشاهدها كل المراهقين في العالم، خاصة في العالم المتقدم، لا تستطيع وحدها- على كثافتها- تفسير انفراد الأمريكيين بهذا العدد الكبير من جرائم القتل التي بلغت 22540 جريمة قتل في عام واحد!.

أبعاد جديدة مقلقة

لا يرجع الانزعاج الأمريكي إذن إلى الحادث في ذاته، بل إلى إحساس دفين بأن الظاهرة تفلت من كل تفسير تقليدي معروف، إذ انطوت على أبعاد جديدة مثيرة للقلق، وهي أبعاد لم يسلط الإعلام الأمريكي الضوء لكافي عليها. أما البعد الأول فيتعلق بتلك التطورات المتسارعة التي حدثت خلال الأيام والأسابيع القليلة التالية للمذبحة، فما إن انطلقت إشارة البدء من كلورادو حتى انطلق بالإيحاء- وعلى اتفاق أو تخطيط مسبق- أفراد ومجموعات صغيرة لا يتجاوز عدد الواحدة منها خمسة تلاميذ لتنفيذ مخططات لإطلاق النار على الزملاء وتدمير المدارس في أكثر من إحدى عشرة ولاية أمريكية. ولحسن الحظ، فقد تمكنت الشرطة من إحباط هذه المخططات بناء على البلاغات التي انهالت عليها من قبل زملاء هؤلاء التلاميذ بعد وقوع مذبحة كلورادو مباشرة، بل إن الظاهرة شهدت انتشاراً محدوداً في بعض المدارس الكندية أيضاً.

وكانت ولاية كلورادو ذاتها قد شهدت أول اجتماع مركزي موسّع لكل جماعات العنف في أنحاء الولايات المتحدة عام 1992 حيث تم الاتفاق على اتباع فلسفة لا مركزية في الحركة تترك للجماعات المحلية وجماعات الرفاق صغيرة العدد، وللأفراد الحرية الكاملة في تحديد ما يرونه مناسبا بالنسبة لعمليات العنف، بداية من جديد نوعيتها وأهدافها وأماكنها وتوقيتاتها وانتهاء بتدبير الحصول على السلاح وصنع القنابل بناء على الوصفات الجاهزة على الإنترنت، مما وضع الحكومة وأجهزة الأمن في وضع صعب، إذ أصبحوا في مواجهة انتشار سرطاني يصعب حصره والتعامل معه. ولا يعني ذلك أن كل عمليات العنف تتم من خلال جماعات منظمة، فقد ثبت آن العديد محل الفتيان الذين خططوا للعمليات الأخيرة لم يكن لهم علاقة مباشرة بما يحلو للخطاب الإعلامي الأمريكي تسميتهم بـ "الجماعات"، بل توحدهم معها ذات المشاعر والأفكار، وذات البنية النفسية والثقافية، إنهم مراهقون جاهزون في أي لحظة للمشاركة في حمى القتل والتدمير.

أما البعد الآخر المقلق الذي أكّدته المذبحة، فيتمثل في بروز مفهوم "القتل للقتل"، فلقد عرفت المجتمعات البشرية جرائم القتل ونزعات التدمير طوال تاريخها، وكان هناك دائماً دافع أو مبرر لاقتراف الجريمة، من وجهة نظر الجاني على الأقل، كالانتقام أو الثأر أو الغيرة أو الصراع لأي سبب كان، ولكننا الآن- وربما لأول مرة في التاريخ- بصدد جيل مراهق اختار العنف والقتل والدمار طريقة للحياة- أو للموت- دون أدنى سبب مباشر، فالقاتل لا يحمل أي ضغينة تجاه من اختارهم- أو لم يخترهم- هدفاً للقتل، فالتصويب عشوائي وموجّه نحو الجميع دون أدنى تمييز أو قصد.

وكانت ظاهرة الاستمتاع بممارسة العنف في ذاته قد بدأت في الظهور خلال السنوات الأخيرة، سواء في الولايات المتحدة أو خارجها، ولكن في شكل حوادث قتل فردي لا جماعي. ففي أعقاب معاهدة فيلم "قائمة شندلر" أطلق أحد المشاهدين الرصاص في هدوء وابتهاج على رأس الجالس أمامه مباشرة في قاعة العرض، وهو شخص لم يقابله- بالطبع- طوال حياته، بل ربما لم تتح له الفرصة لرؤية ملامح وجهه.

سادية- ماس وشيه

كيف يمكن تفسير حالة الشبق المصاحبة لسلوك العنف والقتل دون مبرر في الحالات المشار إليها؟.

هل يمكن إرجاعها إلى نوع من "السادية"؟ الشائعة أن السادية تعني تحقيق الإشباع الجنسي عن طريق إيلام الطرف الآخر، ويمكن التمييز بين هذا النوع الذي يسمى بـ "السادية الصغرى" وبين نوع آخر قد ينطبق على حالتنا وهو "السادية الكبرى" التي يتحقق فيها الإشباع لمجرد إيلام الطرف الآخر دون حدوث اتصال جنسي، إذ يكفي في هذا النوع أن يمارس الشخص سلوك القتل أو تقطيع أوصال المجني عليه حتى يتحقق له الإشباع، من ناحية أخرى، هل يمكن تفسير حالة الابتهاج بتدمير المباني باستخدام القنابل برواسب طفولية لـ "البيرومانيا" أو هوس الإحراق، ذلك النزوع الذي لا يقاوم إلى إشعال النار؟.

لا يعد هذا التفسير النفسي براهينه، وأول هذه البراهين هو انعدام الدافع أو المبرر المباشر للقتل والتدمير، وثانيها تطابق المرحلة السنية لهؤلاء الصغار مع سن ظهور هذه الأمراض، فالبيرومانيا عادة ما تظهر بداية من سن السادسة تقريباً وحتى سن الرشد، أما السادية، فتشير إلى توقف النمو النفسي للمراهق الطفل عند المرحلة الثانية من مراحل تطوّره، وهي المرحلة الشرحية التي تقوى فيها أسنانه، وتقدر على العض، وفي مرحلة تالية عندما تشتد عضلاته ويتخذ من إحساسه بالقوة والقدرة على إيذاء الآخرين وإيلامهم دليلاً على وجوده وسبيلاً لتحقيق ذاته.

أما البرهان الثالث الذي يمكن أن يستند إليه التفسير النفسي، فيتمثل في ارتباط كل من السادية والبيرومانيا بالذكور عادة دون الإناث، وهـي الحقيقة التي تتوافق مع ما تؤكده إحصاءات الأمن العام في الولايات المتحدة من انفراد الذكور فعلا بمعظم- إن لم يكن كل- جرائم العنف المشار إليها، وحتى واقعة الجمع بين الرغبة في تدمير الآخرين وتدمير الذات من خلال الانتحار، فإنها لا تخرج عن التفسير النفسي باعتبارها حالة لـ "السادية- الماسوشية"، وهو المصطلح الذي كان قد صكّه كرافت إيبنج لوصف مثل هذه الحالات الأكثر تعقيداً التي تختلط فيها النزعتان معاً دونما تناقض فيما بينهما، أضف إلى هذا، أن شهادات الناجين تضمنت معلومات أخرى يصعب تفسيرها إلا باعتماد المدخل النفسي، إذ أكدوا أن القاتلين خصّا فئتين بالذات بالنصيب الأوفر من طلقات أسلحتهما، أما الفئة الأولى فشملت الأقوياء من الزملاء المتفوقين رياضياً الذين ربما استفزوا في القاتلين لذة التحدي والرغبة في منازلة وتدمير الأقوياء، وأما الفئة الثانية، فكانت على النقيض تماماً من الأولى، إذ شملت كل من استعطفهما واسترحمهما، وهو السلوك الذي أطلق العنان لشهوة مطاردة الضعفاء، تماماً كما يثير هلع الفريسة غريزة الافتراس لدى الوحوش الكاسرة.

ثقافة عدمية

على ضوء التفسير السابق، كان من الممكن إغلاق ملف القضية باعتبارها مجرد مشكلة محدودة تتعلق بحالات مرضية فردية تستدعي العلاج كل على حدة، لولا أن الأمر تطوّر خلال السنوات الأخيرة ليشكّل ظاهرة اجتماعية واسعة الانتظار تتجاوز كل مقاييس " الشذوذ الإحصائي" المتعارف عليها بالنسبة للمرض النفسي، إذ تشير إحصاءات الأمن العام إلى تصاعد حوادث عنف المراهقين بمعدلات مفزعة منذ عام 1988.

وخلال العامين الماضيين فقط، وقعت 6 حوادث إطلاق نار كبيرة في المدارس الأمريكية راح فيها 29 قتيلاً و70 جريحاً، ولكن المدارس ليست سوى واحدة من ساحات عدة لقتال المراهقين في مجتمع يسقط فبه حوالي 500 مراهق قتلى سنوياً.

فلسفة هذا الجيل- إن كانت ثمة فلسفة- هي فلسفة براجماتية من نوع "هنا والآن "، فليس لديهم أهداف أبعد من تحصيل أكبر قدر من اللغة والمتعة- لا السعادة- في ذات اللحظة والمكان، فلسفة تفتقر إلى أي جذور من الماضي أو طموحات للمستقبل، كما تفتقر إلى أي آفاق لما وراء الواقع اليومي واللحظي المعيش.

المرض الأمريكي

نحن إذن بصدد ظاهرة اجتماعية- نفسية- ثقافية بالمعنى المركب، ولم تكن حوادث "عنف الصغار" سوى أحد أعراض ما يمكن أن نسمّيه بـ "المرض الأمريكي " وهو مرض يصعب فهم أبعاده المعقّدة دون حصر كل أعراضه ومظاهره، فهؤلاء الصغار الذين يستعذبون تدمير الآخرين ونحر الذات بحثاً عن عالم بطولي متوهم، هم ذاتهم الذين يبدعون عوالمهم الخيالية عبر كل وسائل الغياب المتعمّد عن الواقع الحيّ الملموس الذي يرفضونه، بداية من الخيالات المصاحبة لتعاطي المخدرات ومروراً " الواقع الافتراضي" على شاشات الكومبيوتر، وانتهاء بكل التجارب الشعورية المرتبطة بالشذوذ الجنسي- وهي حركة تكتسب شرعية متزايدة، وأصبح يحسب لها ألف حساب كقوة اجتماعية وسياسية ذات بأس- وأخيراً تأتي التجارب الروحية الغريبة لما يسمى بالطوائف الدينية الجديدة Cotts بكل ما تتضمنه من طقوس شاذة من قبيل سفك دماء الضحايا وتقطيع أوصالهم، وتلطيخ الأجساد بدمائهم في حفلات دينية عادة ما تتم في المقابر والأماكن المهجورة.

واللافت للنظر أن أعضاء هذه الطوائف هم من نخبة المجتمع، فهم شباب أذكياء "مثقفون " ورجال يعتلون مناصب علمية واجتماعية مرموقة، وتبدو هده القطاعات المغتربة في المجتمع الأمريكي وكأنها في وضع استعداد لتأويل أي حدث عادي، ونسج الأساطير حوله لسد فراغ روحي عميق، كجماعة "باب جهنم" التي أقدم أعضاؤها التسعة والثلاثون على الانتحار الجماعي في كاليفورنيا العام الماضي تفادياً للأهوال المتوقعة من جزاء الاصطدام المتوقع لمذنب " هال " بالأرض.

المرض- إذن- هو مرض واحد مستفحل، وإن تعددت أعراضه، على الرغم من إصرار العقل الأمريكي بنزعته الوضعية التجزيئية على النظر إليه كظواهر متجاورة منفصلة عن بعضها البعض، وهو المنظور الذي أثبتت وقائع عدة خطأه، فأكبر انفجارات العنف في أوكلاهوما سيتي عام 1996 على سبيل المثال، لم تكن عملاً من أعمال العداء للحكومة الفيدرالية كما ذهب التفسير الرسمي، بل أتى كرد على اقتحام القوات الفيدرالية لمعسكر "ويكو" الخاص بإحدى الطوائف الدينية الكبيرة وقتل 72 من أعضائها في ذات اليوم قبل عامين، وقبل يوم واحد من ذكرى مولد الزعيم النازي هتلر الرمز الملهم لكل اتجاهات الرفض على اختلاف أشكالها.

ويعبّر عن هذه النزعات تيار ثقافي كاس، وإذا كانت وسائل الإعلام قد أولت اهتماماً كبيراً للسينما والتلفزيون، فيبدو أن مفهوم "جماليات القبح" لم يحظ بعد بما يستحقه من تحليل ودراسة باعتباره الأساس النظري لهذا التيار الثقافي الذي يحتفل بكل ما هو دميم وقبيح ودموي. فبالإضافة إلى أفلام السينما ودراما وبرامج التلفزيون، يعبّر هذا الاتجاه الثقافي عن ذاته في مجالات الأدب والفن التشكيلي، وفن الإعلان، وصناعة الترفيه، وألعاب الفيديو، وأخيراً فيما يسمى بـ " الموسيقى الهمجية " أو " الفوضوية " بكلمات أغانيها الفجّة، وإيقاعات طبولها وآلاتها النحاسية الصاخبة.

ازدواجية معرفية

ثمة ازدواجية معرفية تكمن في نخاع هذا المجتمع سمحت بظهور هذه الشبكة من الظواهر- بما فيها ظاهرة العنف- فالناظر المجتمع الأمريكي يلاحظ تصارع منظومتين معرفيتين، أما الأولى فهي المنظومة الرسمية التي يتبناها "الكبار" وتعبّر عن اتجاه وضعي لا يكترث بما وراء الواقع المباشر الملموس، ويتبنى منهجاً عملياً نفعياً صارماً يتجسد في كيان المؤسسة العقلانية "الرشيدة" وأيّاً كانت هذه المؤسسة، مدرسة أو مصنعاً أو شركة أو مؤسسة عسكرية أو جهاز دولة، فإنها تعمل على تحقيق أي عائد مادي ملموسة يمكن حسابه.

أما المنظومة الأخرى، فنشأت احتجاجاً على الخواء الروحي والنفسي والاجتماعي الذي صاحب المنظومة الأولى، ويمكن الادّعاء بأن المنظومة الجديدة هي بمنزلة ثقافة مضادة للثقافة السائدة- أو التي كانت سائدة- فالمنظومة الجديدة لا تستند فقط إلى مبادئها الجديدة من قبيل "التجريب الخلاق" و "النسبية الأخلاقية والثقافية"، بل تستند أيضاً- وفق تأويل جديد- إلى بعض المبادئ الأولى التي قامت عليها الحضارة الأمريكية منذ اكتشاف العالم الجديد، مثل مبدأ "الحرية غير المشروطة" الذي يعد المبدأ الأساسي في الدستور الأمريكي، ومبدأ حق امتلاك السلاح والاعتماد على القوة، وممارسة العنف باعتباره المفسر الأساسي لبروز هذه الحضارة بسرعة خلال عمرها القصير، فلولا هذا المبدأ، لما كان من الممكن إبادة العرق الهندي، ولا أمكن مجابهة قوة الطبيعة واتساع الأراضي، وحسم الحروب الأهلية، وقبل ذلك كله، فإن الاستحواذ على أكبر مساحة من الأرض الجديدة والاحتفاظ بالممتلكات كان من نصيب الأقوى والأسرع إلى استخدام المسدس الذي يمكن اعتباره بمنزلة الطوطم المقدس لهذا المجتمع الفريد من حيث ظروف نشأته.

فهذه الظواهر الجديدة ليست غريبة على مجتمعها، بك هي وليد شرعي- وليس لقيطاً- للأسس المعرفية ذاتها التي قام عليها المجتمع الأمريكي، وفي هذا السياق، يمكن تفسير ما تحظى به ثقافة العنف والسلاح من انتشار، وما تحوذه الطوائف الدينية الجديدة من شرعية، إذ تتمتع بكل الحقوق القانونية والأدبية التي لا تتمتع بها الكنائس المسيحية سواء بسواء، لدرجة أن أنشطة أصحاب العقيدة "الإبلسية" أو "السينتولوجية"، مثلاً تحظى بالإعفاء ذاته من الضرائب كغيرها من الكنائس. بل وصل الأمر إلى حد توجيه التقرير السنوي الأمريكي لحقوق الإنسان اتهاماً حادّاً للحكومة الألمانية بدعوى اضطهادها لفرع الطائفة الأخيرة فيها عندما منعت إحدى فرقها الموسيقية من إقامة حفلاتها.

وإذا كانت "قمة مكافحة العنف بين الصغار" قد أعلنت على لسان الرئيس كلينتون أنه قد آن الأوان للقيام بعمل فعّال لكبح جماح هذه الظاهرة، فإن المؤشرات الأولى لا تبعث على التفاؤل حتى الآن، فكل الدعوات الحماسية لتنظيم تجارة السلاح قد باءت بالفعل حتى الآن، أما الإجراء العملي الوحيد الذي تمخضت عنه "القمة" فتمثّل في بدء دراسة تستغرق عاماً ونصف العام للإجابة عن سؤال واحد: هل تسوق هوليوود وصناعة الترفيه سلعا ً للأطفال مما ينبغي أن يقتصر على الكبار؟.

لقد استطاعت الليبرالية أن تجدد ذاتها خلال قرون عدة، مما مكّنها من تجاوز العديد من أزماتها الاقتصادية والسياسية، فهل تستطيع هذه المرة أن تتجاوز أزمة تبدو وكأنها تمس أسسها المعرفية والفلسفية؟ يبدو أن التجديد هذه المرة ينبغي أن يكون جذرياً وشاملاً، وهو تجديد ربما يؤسس لنمط جديد من أنماط الحياة الأكثر إنسانية والأكثر إصراراً على إضفاء المعنى عليها.

 

فؤاد السعيد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات