مرفأ الذاكرة
مرفأ الذاكرة
شهادة عن الحياة والكتابة والموت بداية ، كان الكتاب صديقي منذ الخامسة عشرة ، وكجميع الفتية المراهقين كان الميل والهوى مع رياح الرومانسية في مطالع الخمسينيات . كان زمنا للبراءة والحب والأمل والشروق ، ولأنني ولدت ونشأت في بيئة ريفية مطلة على البحر ، فقد نمت في أعماقي تموجات شفافة وطليقة ، صقلتها القراءة الباكرة والشغف العميق بالكتب والأدب تحديدا . في المدرسة ثم في المعهد التربوي للمعلمين ،خلال دراستي ، كنت طليعيا في الأدب والتعبير ، لكنني كنت في المؤخرة علميا ورياضيا . كانت الطبيعة ، جبالا وأودية وغابات وبحرا مهادي وينابيع حريتي التي نهلت مع حليب أمي النقي . النقاء والبراءة وصفاء العالم وهوس الحرية ، امتزجت بالدم وتموجات الروح منذ الطفولة . هذا العالم الأول ، شبه الطهراني ، سينكسر فيما بعد ، ويغتال عبر صدمة الوعي مع اضطرابات العالم الموضوعي . لابد أنني كنت مزودا ومحصنا ، منذ الصبا الأول ، بقوة داخلية قادرة على المواجهة حين أتت الأزمنة الصعبة ، فيما بعد ، طبيعتي وتكويني النفسي وتربيتي المنزلية ، ساعفتني في المقاومة الفردية والجماعية والحفاظ على التماسك الصلب ، عبر المحن واستشراء الوحشية ، والخراب الخارجي ، وهبوب العواصف . وكما كنت بريئا ونقيا في أعماقي ، كنت شرسا وصداميا في المدرسة والشارع والبيت ، مع الآخرين ، حين تهب رياح الأذى والشر والعدوان وتستهدفني . الحرية علمتني الاعتزاز بالنفس ، والطبيعة والصيد ، والبحر زودني بسلاح القوة الدفاعية . الصدامات والشجارات والاشتباكات الأولى مع فتية القرية ، ثم مع فتيان المدينة ، تنامت جنبا إلى جنب مع الصداقات الحميمة لأترابي الأول ، عصبة الحرية والذود عن الكرامة للفرد أو المجموع المستهدف بالأذى أو العدوان . هذا التكوين البدئي ، الطفولي ، الرومانسي ، الغاضب ، سيرسو في أعماق الذاكرة ، مشكلا النواة الأولى للشخصية ، كما سينعكس فيما بعد عبر مرايا موشورية ، مصقولة ، أو مغبرة ، أو منكسرة ، في فضاء الأدب والانخراط السياسي . *** في العام الثاني من وجودي في المعهد التربوي للمعلمين ، نشرت أول قصة بعنوان " نوران " في مجلة محلية تصدر في مدينة حلب ، مقر المعهد . قصة حب رومانسية أرسلتها بعد نشرها إلى الفتاة التي أحب ، كنت مغتبطا ومزهوا بهذه البداية بين زملائي الطلاب ، وأمام الفتاة التي تلفت القصة وقرأتها . لكن الفرح والزهو ماداما طويلا ، وصلت القصة إلى أهل الفتاة والوشاة من الأقارب والعواذل ، فتحولت إلى فضيحة وتشهير كما أولوها ، فكانت بداية القطعية وموت الحب الأول . هكذا بدأت الصدمة الأولى مع المجتمع من خلال الأدب . في مطالع الخمسينيات ، كان المناخ السياسي مضطرماً باتجاهات وأفكار وتنظيمات وانقلابات ، اضطربا ما بعد الاستقلال ، وكان السؤال- المصير : اضطراب ما بعد الاستقلال ن ، وكان السؤال- المصير : البلاد إلى أين تسير ؟ كان الوطن يتأرجح تحت وطأة الانقلابات العسكرية المتوالية ، بدت الحياة السياسة آنذاك غارقة في الفوضى والاضطراب بعد الهزيمة العسكرية في فلسطين ، وبداية تأسيس المشروع الصهيوني ونشوء الكيان الإسرائيلي . لم أتردد طويلا في الانخراط السياسي ، لكنني ترددت في الاختيار بين اتجاهين : العروبي أو الماركسي . حوارات وجدالات حارة تدور حولي وفى داخلي . كنت قريبا جدا من الطلاب والمدرسين البعثيين في المعهد ، لما كانت صلتي بالشيوعيين جيدة وأثيرة ، رأيت نفسي في مركز الجذب بين التيارين ، موزعا بين موجتين هما الأقوى في البحر السياسي المضطرب والعاصف آنذاك . فلسطين وحلم الوحدة العربية والثأر من هزيمة عام 48 ، لابد أنها حسمت اختيار باتجاه موجة البعث . كان الشيوعيون يرون في المسألة الاجتماعية والاشتراكية ، والعلاقة الخارجية مع الاتحاد السوفييتي ، المعترف بالكيان الإسرائيلي ، الهدف المركزي والأساسي ، في الوقت الذي كانت فيها مسألة الوحدة العربية وفلسطين ، مسألة ثانوية أو تالية في برنامجهم السياسي . لكن البعث والشيوعيين كان في خندق واحد عبر مواجهة الديكتاتورية العسكرية ( حكم الشيشكلي ) ، دفاعا عن الديمقراطية وعودة الحياة السياسية والحكم المدني . كنت مسئولا عن التنظيم الطلابي البعثي في المعهد ، معا ، نحن والتنظيم الشيوعي ، مع الطلاب الأنصار والموالين والمستقلين ، كنا ننسق العمل السياسي ضد الديكتاتورية العسكرية . هكذا ، كما في فضا كابوس عنيف وملحمي ، قبل أن أبلغ العشرين من عمري ، رأيت نفسي منزجا ومصهورا في خضم التجربة السياسية الهائجة والعاصفة . التجربة التي ستؤثر وتنعكس مستقبلا على الأدب عبر مد وجزر ، مولدة في الأعماق صراعا وجوديا سيحسم في قادم الأزمنة لصالح الأدب . هي ذي الأزمنة الصعبة تهب برياحها الأولى ، الأسرة ، وأنا كبيرها بعد صدمة موت الأب ، كيف تعليها براتب لا يتجاوز الـ " 300 " ليرة سورية ؟ الكتاب الذي ستشتريه بوفر سرى مقصدا ، وأنت تعرف أنه يوازي الرغيف ! وما كان الكتاب المطلوب متوافرا ، كان على اللجوء إلى الاستعارة من بعض الأصدقاء ، أو الاستئجار من مكتبة المدينة . خلال أربع سنوات ، ما قبل الخدمة العسكرية الإلزامية ، كثفت قراءاتي بتنوع فوضوي غريب حسب ما هو متوافر : أدب- سياسة- فلسفة- علم نفس- دراسات فكرية ونقدية . الكتاب الأجنبي المترجم كان يستهويني ، لكن حركة الترجمة كانت بطيئة ومحدودة في منتصف الخمسينيات . مصدر الثقافة الأساسي كان القاهرة وبيروت سواء في الكتب أو المجلات . بيروت كانت مركز الترجمة والنشر ، والقاهرة مركز الكتاب العربي أساسا مع الترجمة ، من هذين المنبعين ، كتبا ومجلات ، نهلت القراءات الأولى في الأدب والفلسفة وعلم النفس والدراسات النقدية والفكرية . - 2- عملي كضابط في الجيش مهمة مركزية تحتاج إلى ثقافة عسكرية ، بناء الأسرة بعد الزواج المبكر ما كان بالمهمة السهلة ، العلاقات والحوارات وتأسيس صداقات مع المثقفين والكتاب كانت في مركز اهتماماتي ، تنظيم وتنسيق فوضى ثقافتي الذاتية ، وتأسيس مكتبة خاصة في البيت ، كانت هاجسا وحلما لا بد من تحقيقهما . تحت غمرة هذه الأعباء ، كنت أوزع الوقت والحركة بروح بروميثيوسية ودينامية غريبة . لابد أن الطبيعة وحياة الطفولة الأولى قد منحتني طاقة وحيوية ، ستكون مثار دهشة من الآخرين على مدى الزمن الذي عشت . كنت ممتلئا ومأخوذاً بفكرة الأمل ، وضرورة تغيير العالم نحو الأفضل والأجمل والأكثر عدالة على المستوى الاجتماعي ، بتطرف ثوري اتسمت حواراتي ، مصطدما بغضب مع المثقفين حول الحلول الوسطى ، كانوا يسمونني الرومانسي الثوري الحالم . ولأن الوعي التاريخي ، كما كنت أعتقد ، هو مفتاح التغيير ، توهمت تنامى وتيرة متسارعة لهذا الوعي ، ستختزل حركة الواقع المتخلف لتدفعه نحو المستقبل العادل والحضاري ، سأدرك متأخرا ربما ، أن وعيي الذاتي- الفردي- مقترنا بوعي سياسي جماعي محدود ، كان يتحرك بسرعة الأرنب الواثب في الريح ، في حين كان الوعي الشعبي- الجماهيري يتحرك بسرعة السلحفاة أو الحلزون ، فوق أرض الواقع . *** كنت مواظبا على قراءة مجلة " الآداب " اللبنانية حتى قبل قدومي إلى دمشق ، ولعل للآداب دورا أساسيا في اتجاه بوصلتي نحو الأدب ، ويوم نشرت لي أول قصة خامرني حبور لا يحد ، لكن زوجتي أحبطتني إذ قرأتها قائلة بين المزاح والجد : ومع ذلك لن تكون همنجواي ! القصة الثانية بعنوان " رجل بلا جدران " نشرت في الآداب أيضاً بعد أشهر من الأولى ، في باب نقد قصص العدد ، انهال الناقد الراحل " وحيد النقاش " على القصة بتشريح نقدي مر ، واسما هذا النوع من القصص بأنه تقليد ومحاكاة ساذجة للأدب الوجودي في الغرب . على مدى ثلاث سنوات ، توقفت عن النشر ، انكببت على القراءة ، والحوارات الشفوية ، وحضور بعض الندوات ، وتسجيل انطباعات وخواطر خاصة ، وفى داخلي هاجس أنني لم أنضج بعد ، متجاوزا صدمة النقد نحو مزيد من التأمل والنقد الذاتي . في الوقت الذي بدأت أنشر فيه بعض المقالات والزوايا اليومية عبر الدوريات السورية ، بدأت أدرك أن انحيازي نحو القصة يكاد يكون الطاغي على ما عداه ، كانت القصة في سوريا والبلاد العربية تنحو باتجاهين أو تيارين : الواقعية الاجتماعية ، والرمزية . وكان أبرز ممثلي هذين التيارين في سوريا سعيد حوارنية وزكريا تامر ، سعيد واليساريون من أنصار الواقعية الاجتماعية والتيار الاشتراكي ، وفى حين يمثل زكريا المدرسة الرمزية . في مصر ، كانت قصص يوسف إدريس تجتاح الفضاء الأدبي ببريق خلف ، إلى جانب يوسف إدريس كان هناك إدوار الخراط وسليمان فياض وأبوالمعاطي أبوالنجا وبهاء طاهر وإبراهيم أصلان ويحيى الطاهر عبد الله وآخرون ، يكتبون بأسلوب عذب وشفاف ، عبر مزيج تعبيري واقعي ورمزي في آن ، الأساس الروائي في تلك الحقبة ، شيد على صخرة صلبة بيد نجيب محفوظ متوجا بالثلاثية ، ثم جاءت مفاجأة الكتاب الجزائريين الذين يكتبون بالفرنسية ، ترجمت رواية " نجمة "لكاتب ياسين ، ثم ثلاثية " محمد ديب " و " التلميذ والدرس " و " رصيف الزهور لا يجيب " لمالك--، كما ترجمت أعمال جزائرية أخرى لمولود فرعون وآسيا جبار . ومن الشرق والغرب ، عبر الترجمة ، وفدت الآداب الروسية والسوفييتية ، ثم الفرنسية والإنجليزية والأمريكية والألمانية ، ستليها أعمال روائية يابانية وإفريقية وأمريكية لاتينية متفرقة . سردت هذا المشهد الثقافي الأدبي لأشير إلى ينابيع قراءاتي في النصف الأول من الستينيات ، موليا في الآن نفسه ، ومثابرا على القراءات غير الأدبية في علم النفس والفلسفة والتراث والدراسات الفكرية والنقدية في الأدب والسياسة والتاريخ . إن تكوين منظومة فكرية عامة عن الحياة والإنسان والعالم ، واحتياز مخزون ثقافي معرفي بفروع متعددة ، يشكل ، في اعتقادي ، بنية مركزية تضاف وتدعم الموهبة والتجربة الحياتية والتأمل الاستبطاني للكاتب . ستتضح فيما بعد أهمية هذه الفكرة ، ومدى انعكاسها داخل البنية الروائية . كذلك الأهمية الكبرى للفنون الإبداعية الأخرى : كالشعر والمسرح والسينما والفن التشكيلي والموسيقى ، هذه الفنون التي تدخل في نسيج العمل الروائي الجديد والمغاير في عصيرنا الراهن . *** في العام 1968 تقدمت إلى وزارة الثقافة السورية بمجموعتي القصصية الأولى " حكايا النورس المهاجر " نشرت المجموعة بعد أن أثنى عليها الأستاذ أنطون مقدسي مسئول مديرية التأليف والترجمة ، ثناء أدهشني ، كتقديم للمجموعة كتب : " هذه المجموعة قفزة جريئة إلى الأمام تحققها القصة العربية ، فهي تكشف عن البعد التاريخي للحادثة بعد أن كان غيرها يكشف عن بعدها الاجتماعي وحده . الإنسان هنا يعيش على أكثر من مستوى ، وهو أحيانا يستعيد ، وربما يعيد تاريخه وأبطال تاريخه ، والزمان يصبح هنا بعدا رابعا من أبعاد الوجود، والرمز يحل أحيانا محل الحادثة ،الحادثة ذاتها تتفجر لتفصح عن المعنى أو لتدل عليه سرا قائما في الأعماق ، إن قصص حيدر حيدر تتحرك في مختلف أبعاد الوجود الإنساني : الشعور واللا شعور ، الماضي والحاضر ، وتتسم الكلمة عنده بسمتين تبدوان للوهلة الولي متعارضتين : فهي حلقة من سلسلة متماسكة رياضيا ن وهي في الوقت ذاته نور يلقيه المؤلف على ما وراء الكلام ، ما هي قبله وبعده . هذا هو عالم حيدر حيدر ، غريب ، يثير التعجب عند من بقيت لديه قدرة على التعجب . أو ليس وجودنا كله هكذا ! " . أثار الكتاب صدى إيجابيا لدى القراء والنقاد ، كما خامرني إحساس داخلي بالثقة بعيدا عن الزهو والخيلاء . منذ الآن أنا كاتب وأديب إذن ! ياللورطة ! لقد بدأت مسافة الألف ميل بخطوة أقول الورطة وأنا أعني عبء المسئولية بأساء أدبية كبيرة وعريقة وراسخة في مضمار القصة والرواية . كان السؤال المؤرق ، وربما مازال حتى الآن : كيف تتطور وتتجاوز وتؤسس أسلوبك الخاص المتمايز عن أساليب الآخرين ؟ كتب عن المجموعة في الصحف والمجلات نقد يسمها بالقصص التجريبية في أسلوبها . آخرون كتبوا عن الأسلوب التعبيري والحس الملحمي ، كأسلوب جديد مفارق لما أسموه بالمدارس الواقعية والرمزية والاشتراكية . كنت في مرحلة التجريب ، لا ريب في الأمر ، وما كنت لأفقه الكثير عن المدارس الأدبية ، بلبلني النقد والحوار وأربكني . وبطبيعتي الخجولة كنت أجيب : هذه طريقتي ، وهذا أسلوبي في الكتابة ، الأساليب مختلفة وأنا أنفر من التصنيفات المدرسية . منذ صور المجموعة الأولى وحتى اليوم ستظل تلاحقني أدبيا هذه التهمة الجميلة ( الشعرية ) ، . نتيجة الالتباس ، والثنائية التي تفصل ثقافيا وخطلاً بين لغة الشعر ولغة النثر السائدتين والراسختين في تاريخ الأدب والنقد العربي ، حيث لم يوليا انتباها لما عرف في العالم بعلم جمال الأسلوب ، وكسر الحدود الفاصلة بين لغة الشعر والنثر في الكتابة الأدبية المعاصرة والحديثة . في العام نفسه 1968 بدأ التحضير لتكوين اتحاد الكتاب العرب ، ونتيجة لقربى من القيادة السياسية للحزب التي شجعت الفكرة ، وقع على عبئ ومسئولية تحضيرية ما كانا يسيرين ، وتحديدا في المراجعات الوزارية المختصة ، وتوقيع الأوراق ، وتجهيز محاضر الجلسات ، وتحديد مواعيد الاجتماعات ، وحل بعض الأمور العالقة مع القيادة السياسية . على مستوى الكتاب والهيئة التحضيرية ، كان الجميع يعملون بحماسة اندفاع ، رغم الصعوبات الناشئة جزاء عدم الخبرة ، وتشعب الآراء والأفكار حول الهيكلية العامة ، واختيار الأعضاء مستقبلا للقبول في جسم الاتحاد ليكون اتحادا فعليا ونوعيا وليس تجميعيا ثقافيا كما النقابات الأخرى . أخيرا ، تأسس الاتحاد وانتخب المكتب التنفيذي وكنت فيه . في المكتب وزعت المهام واللجان ، ووقع على اختيار مسئولية الإشراف على النشر . خلال عام تقريبا من بداية عمل المكتب التنفيذي ، صدرت مجموعات شعرية لمحمد الماغوط وممدوح عدوان وعلى كنعان ومحمد عمران ، كما صدرت مجموعتان قصصيتان لزكريا تامر ولى ، كبداية ، ثم تناولت الإصدارات الأدبية بعدها لأدباء آخرين . عبر انهماكي وتفرغي في أحاد الكتاب ، مضافا إليهما العمل السياسي- الحزبي ، عكفت على كتابة رواية طويلة ستصدر بعد خمس سنوات في بيروت هي " الزمن الموحش " ، الرواية التي ترصد وتحلل التجربة الذاتية والموضوعية لما بعد هزيمة حزيران المرة في سنة 67 ، وما قبلها . فيتلك الفترة كنت أعاني اضطرابا قاسيا وصعبا في مواجهة حياتي الخاصة ، وعلاقتي السياسية المتوترة مع التنظيم ، نوعا من انعدام التلاؤم والصدام مع قناعاتي القديمة ، بدأت تبدو لي هشة وجاهزة للكسر والتحطيم في أي لحظة . الآن يبدو أنني أحيا في المنطقة الحرجة ، على قوس منعطف جديد ، وحدود انفجار قادم . - وداعا لحياتي القديمة ، وداعا للوطن ! سجلت هذه العبارة في دفتر اليوميات ، قبل أيام من رحيلي إلى الجزائر للعمل في التدريس . كان ذلك في العام 1969 بعد أن غادرت التنظيم واتحاد الكتاب إلى غير عودة . ذلك كان أخطر قرار اتخذته آنذاك ، وأنا مفعم بالمرارة ومجروح ، كما كان في الآن ذاته بداية مرحلة ، وتجربة غريبة ، مدهشة مجنونة ، وعاصفة ، لن أندم عليها أبدا . - 3- كما في رؤيا سريالية ، وجدت نفسي ذات خريف على أرض مطار وهران في الجزائر . كنت في تلك اللحظة شبيه جندي من جنود طارق بن زياد ، بعد أن أحرقت سفينته مع السفن الأخرى . الجزائر الآن خارجة من ليل استعمارها الطويل ، مثخنة بالجراح ، ومفعمة بأمل المستقبل والتغيير ، وتضميد الجراح ، الخطط والبرامج المستقبلية تكتسي بالوشاح الثوري : الثورة الزراعية ، الثور الصناعية ، الثورة الثقافية ومعركة التعريب . حين وصلت إلى مدينة " عنابة " في أقصى الشرق الجزائري ، حيث جرى تعييني وإيفادي من العاصمة ، كان معى اسم مسئول البعثة السورية وعنوانه ، لا غير ، بعد ثلاثة أيام من التداول ومراجعة " الأكاديمية " التربوية " مديرية التربية " صدر قرار بتعييني مدرسا في مدرسة " أبناء الشهداء " بضواحي المدينة . كنت سعيدا بالقرار ، وفى أعماقي خامرني إحساس بجلال المسئولية وقداسة العمل " الرسولي " بين الطلاب الذين استشهد آباؤهم البواسل في حرب التحرير ، كانت الدلالة الرمزية للأمر تتنامى مع مشاعري الداخلية ، وإجلالي لثورة المليون شهيد . بعد زمن ، بعيدا عن مناخ التدريس وصخب الطلاب ، سأسجل في اليوميات : " خفقة القلب بنشوة السفر تشبه خفقته بوردة الحب وهي تتفتح في أصقاع النفس ، ثمة روائح تنتشر وتعبق في صحاري الغربة ، اهتزازات لا مرئية تمس شغاف الروح ، حالة انصهارية بالحياة والموت والأمل الأقل . حالة جليلة كجلات الموت تأتى بغتة ، فترميك بهدوء على سطح ما من أرض غريبة ، هل تركت شيئا ما في مكان بعيد ؟ أأنت حزين لأنك فارقت ؟ هل وراءك بيت في أقاصي العالم ولا تستطيع العودة إليه ؟ تقدم عاريا إلا من النسيان ، ففي النهاية ، يبقى الموت الحقيقة الوحيدة القاسية ، والغربة هي الخطوة الولي باتجاه تلك الحقيقة ، لن تخسر شيئا عبر هذا الإسراء التراجيدي لأنك لا تملك شيئا غير هذا الجسد الجامح والروح المتوهجة ، هذه المتآخية أبدا مع الشقاء والخطر ". في المدرسة الداخلية والمقهى هما المركز والملتقى مع الآخرين ، وعلى الأطراف : البحر . سنوات الجزائر كانت سنوات المكابدة والغربة الداخلية . الجزائري قاس وطفل في آن ، من الصعب تشييد علاقة معه لأنه حذر وشكاك بالآخر غير الجزائري ، سنوات الحرب القاسية ، حولت قلبه إلى صخر كتيم ، لكن روحه العميقة احتفظت ببراءتها الطفولية ، العنف الأفريقي عبر الإنسان الجزائري هو عنف الدفاع عن الذات المهددة من الخارج . تلك التجربة العاصفة ، العذبة كفجر الحب ، والمرة كطعم الحنظل ، ملأتني بعوالم ساحرة ، وشيطانية ، مفعمة بالغرابة والدهشة ، شبيه اكتشاف قارة مجهولة . - 4- أهو القدر الغيبي المرسوم لك على الألواح اللامرئية ، أم إرادتك وعقلك وتخطيط للحياة ، هو ما يقود خطاك عبر العالم ؟ آن أفكر بحياتي وهذه الهجرات التي حملتني أمواجها ، ثم صداماتي وانعدام تلاؤمي مع المفاهيم السائدة ، أدرك إلى أي مدى كنت شقيا ، وعابرا كما شهاب في فضاء فصل عن كوكبه ، وضاع ، ما كدت أغادر الجزائر وأعود إلى الوطن في العام 1974 حتى رأيت نفسي مستقيلا من الوظيفة التعليمية ، وبلا علم ، خلال شهرين غادرت إلى بيروت ، وعن طريق معرفتي بأحد الأصدقاء بدأت عملا في إحدى دور النشر كمصصح لغوي . طلاقي من الجيش ثم التنظيم فالوظيفة ، أعطاني فضاء من الحرية والمتعة الذاتية ، رغم مرارة وشقاء التشرد واستحالة الاستقرار والهدوء . على الأغلب كنت أستجيب لطبيعتي القلقة ، وللرغبة الكامنة في السفر والبحث عن المجهول والغامض الذي لا أعرفه . لبنان رئة الحرية ، وعلى مدى تاريخه منذ الاستقلال حتى اليوم كان مأوى وملاذا للمثقفين والسياسيين والمنفيين العرب ، وبيروت بجدارة عاصمة الثقافة وحرية النشر حيث لا رقابة على الكتاب . خلال فترة وجيزة ، تعرفت على مجموعة من الكتاب والصحفيين اللبنانيين والعرب . خارج أوقات الدوام ، وفى أيام العطل ، كنت أدور على المكتبات بلهفة وشغف ، كان على إعادة تأسيس مكتبتي من جديد ، بعد أن بعثرت معظم الكتب ، واستعيرت بلا عودة بين دمشق والجزائر . رواية " الزمن الموحش " صدرت في ذلك العام عن دار نشر لبنانية " العودة " بستمائة نسخة فقط ، رغم توسط الصديق الشاعر " أدونيس " وقوة تأثيره ، والتعريف بي لدى صاحب الدار الناشرة . حين تطوف في الذاكرة طيوف المدن العربية التي عرفت ، تبقى بيروت الأجمل والأحب إلى نفسي . الحرية المطلقة للفرد في التعبير والحركة ، والثقافة المفتوحة ، والإيقاع الحضاري النسبي والمستورد ، والمجتمع المدني المتوازن طائفيا ( الطائفة المقيتة في جوهر الانتماء هي التي أفرزت هذا النوع من الحرية ) والديمقراطية السياسية رغم طوائفيتها الفاقعة ، تبقى الأكثر قبولا وإقناعا من ديمقراطية الأنظمة العربية السائدة ذات البعد الواحد . نذر الحرب الأهلية والصدام مع المقاومة الفلسطينية ، كانت تلوح في الأفق ، توتر وغليان واستعدادات عسكرية ميدانية ، وانقسامات في المجتمع اللبناني ، الجبهة اللبنانية بقيادة الكتائب واليمين المسيحي ضد المقاومة وجبهة الأحزاب والقوى الوطنية إلى جانب الفلسطينيين . في زمن الحرب ، صدرت مجموعة " التموجات " و " الوعول " وأعيد نشر رواية " الزمن الموحش " ، و " الفهد " بعد فصلها عن مجموعة " حكايا النودس المهاجر " ، كما أعيد طباعة ونشر " حكايا النورس المهاجر " وما لومض " ثانية . سافرت إلى روما بتكليف من الإعلام الفلسطيني لمقابلة الطيران هيلاريون كبوشي في منفاه هناك ، وكتبت عنه كتابا بمنزلة سيرة ذاتية " كبوشي من الدين إلى الثورة " . وفى تلك الفترة العصيبة كنت عاكفا على إنجاز روايتي الطويلة " وليمة لأعشاب البحر " التي استمر العمل فيها عشر سنوات . *** " أبداً هذا الرحيل " . كان أول عنوان للمحطة التالية : قبرص ، كتبته في مجلة " الموقف العربي " التي بدأت تصدر في نيقوسيا . وأنا أغادر بيروت ، هذه المدينة التي صارت خرابا ، بعد سنوات النار من الاحتدام والفزع والموت ، تساءلت : لماذا ؟ وفى سنوات النار وصدمة الحرب لم أفكر بالرحيل عن بيروت نحو المدن الآمنة والرخية ، كنت أردد مع همنجواي : عش دائما في الخطر واقذف بنفسك إلى أرض الحرائق . ستمر أزمنة طويلة قبل اكتناه جميع الأسباب والإحاطة بها للجواب على السؤال : متى يخرج العرب من ظلماتهم وموتهم ؟ ومع هذا فكل منا هو نوع من بروميثيوس صغير حين يطرح على نفسه ذلك السؤال الصعب . في المجلة ، أشرفت على القسم الثقافي ، بالتعاون مع الصديق الشاعر العراقة سعدي يوسف ، رئيس التحرير . رحلة قبرص كانت قصيرة ما تجاوزت العام إلا قليلا في ذلك الوقت ، لكنني سأعود ثانية إليها بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت . قبل الاجتياح الإسرائيلي للبنان بأسبوع عدت إلى بيروت . ومع بداية الحصار ، التحقت ثانية بالمقاومة في مكتب الإعلام ووكالة " وفا " الفلسطينية . على مدى الحصار ، تحت مطر القذائف برأ وبحرا وجوا ، أصدر المثقفون والكتاب الفلسطينيون والعرب جريدة " المعركة " تيمناً باسم الجريدة التي أصدرها " ألبير كامو " والمثقفون الفرنسيون في باريس ، إبان الحصاري النازي والغزو الألماني . صدر العدد الأول في 22 يونيو 1982 بعد عشرين يوما من الاجتياح ، تتصدره لازمة لشاعر المقاومة الفرنسية " لويس آراغون " : " اللعنة على العدو المحتل . ليدو الرصاص دائما تحت نوافذه ، وليمزق قلبه الرعب " . في هذا العدد كتبت زاوية بعنوان " أطفال المعركة " . تحت القصف ، كنا نوزع " المعركة " عل المقاتلين في جبهات القتال ، وفى الوقت الذي كنا نوالي فيه الكتابة للإذاعة التي لم تتوقف رغم محاولات قصفها مرارا ، وقصف مقر الجريدة في رأس بيروت . ذات فجر ، وأنا نائم في البيت مع صديقي ، أيقظني دوى كأن البيت اقتلع من أساسه وهوى ، شظية مدفع من طوربيدات البحر اخترقت الجدار الغربي لردهة المدخل ، حطمت الزجاج وحفرت البلاط والجدران المواجهة ، ومزقت الكتب واللوحات ، هدوء غريب هبط على وصديقي بعد رعشة الرعب والمفاجأة . - لم نمت إذن ! كنسنا الشظايا ، وأعددنا القهوة وشربناها على الشرفة المواجهة للبحر وزوارق العدو ، بدت حركاتنا نوعا من التحدي الساخر ، والعبث واللا مبالاة في آن . في اليوم ذاته ، كتبت مقالا " للمعركة " بعنوان شظايا البحر " . *** الآن ، وبعد ستة عشر عاما من ذلك الزمن التراجيدي ، وخلال سبع سنوات من الحرب الأهلية والاجتياح والحصار الإسرائيلي ، أسأل نفسي : كيف نجوت من الموت ؟ أهي المصادفة أم القدر ؟ أم كلاهما ؟ مازلت حيا ، وأنا فخور ومعتز بمجد تلك التجربة العاصفة ، ففي الحرب ومناخ الموت تمتحن روح وقوة الإنسان ، قد نموت وقد ننجو ، لكننا لن نركع ولن نذل .
|