كيف حصلت على جائزتي الأولى؟

كيف حصلت على جائزتي الأولى؟

لما كان الشيء بالشيء يذكر، ولما كانت مجلة "العربي" قد تفضّلت بتخصيص عدد من صفحاتها لشخصي المتواضع بمناسبة التكريم الذي سوف تسبغه علي مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، بعد تشريفها لي بجائزتها التقديرية التي تُمنح للمرة الأولى في هذا العام.

لذلك عادت بي ذاكرتي إلى مجموعة الجوائز التي حصلت عليها طوال حياتي العلمية (وهي كثيرة والحمد الله!) ولكنني رأيت أن أول جائزة حصلت عليها كان لها وقع خاص في نفسي وفي عقلي، ولعلي لا أكون مبالغاً إن قلت إن هذه الجائزة الأولى، التي حصلت عليها منذ أربعة وأربعين عاماً كانت هي التي فتحت لي طريق الحصول على جميع الجوائز الأخرى، بل إن الخبرة التي اكتسبتها فيها كانت من العوامل المهمة التي حققت لي قدراً لا بأس به من التفوق في ميدان البحث العلمي، مما جعل حصولي على جوائزي اللاحقة لها أمراً ميسوراً.

ونظراً إلى أن قصة حصولي على تلك الجائزة الأولى حافلة بالدروس العلمية والتعليمية، فقد رأيت أن أرويها الآن بالتفصيل ، آملاً أن يجد فيها المجتهدين من الأجيال الجديدة في الأمة العربية حافزاً لهم إلى بذل الجهد من أجل التمّيز والتفوق، وإلى التماس العلم من مظانّه أينما كانت.

كانت بداية هذه القصة سنّة حميدة كانت تستنها وزارة التعليم في مصر (أعني "وزارة المعارف" كما كانت تسمى في ذلك الحين).

هذه السنة الحميدة كانت عقد مسابقات بين طلبة السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية (التوجيهية في ذلك الحين، والثانوية العامة الآن) في كل مادة من المواد المقررة عليهم.

وكانت الوزارة تعلن شروط هذه المسابقة على صفحات الجرائد أو في المدارس ذاتها، خلال فترة الإجازة الصيفية الواقعة بين السنة الرابعة والسنة الخامسة والأخيرة من فترة التعليم الثانوي.

والجائزة التي يحصل عليها الناجح في هذه المسابقة هي دخول الجامعة بالمجان حتى نهاية تعليمه الجامعي.

هذا بالإضافة إلى مكافآت مالية للثلاثة الأوائل في كل مسابقة، وكان هناك شرط أساسي للحصول على هذه الجائزة بشقيها : هو أن يكون الطالب ناجحاً في شهادة التوجيهية (أي الثانوية العامة).

وهكذا استقر رأيي أن أدخل هذه المسابقة التي كان دخولها اختيارياً للطلاب، ووجدت في الجائزة التي تمنح فيها ما يغريني على أن أبذل أقصى جهدي لكي أكون من الناجحين فيها، بل لكي أكون من الثلاثة الأوائل الذي يمُنح أولهم مكافأة قدرها خمسة وعشرون جنيهاً، وثانيهم خمسة عشر جنيهاً، وثالثهم عشرة جنيهات.

وعلى قدر تواضع هذه المبالغ، فقد كانت بأسعار ذلك الزمان، تمثل "ثروة" كبيرة لطالب مازال في مرحلة المراهقة.

وأنا أتحدث عن عام 1945 ، وهو العام الأخير من الحرب العالمية الثانية، أي عن وقت كان فيه الجنيه يساوي مالا يقل عن مائة من جنيهات هذه الأيام.

كانت الحرب العالمية قد قفزت بالأسعار قفزة رهيبة، على الرغم مما قلته الآن عن القوة الشرائية الكبيرة لجنيهات تلك الأيام، وتلك كلها أمور نسبية على أي حال.

وكان لتلك القفزة الكبيرة تأثيرها البالغ في زيادة صعوبة الحياة بالنسبة إلى الأسر ذات الدخل المحدود، مثل أسرتي في تلك الأيام، ومن هنا ، فإن فكرة إعفاء ومن دفع مصروفاتي الجامعية في سنوات الجامعة الأربع كانت- في نظري- حافزاً قوياً لبذل كل ما أملك من طاقة من أجل النجاح في هذه المسابقة، أما المكافأة التي تقدم إلى الثلاثة الأوائل فكانت في ذلك الحين حلماً رائعاً كفيلاً بأن ينقلني من حال إلى حال!

المهم في الأمر أنني قررت أن أدخل مسابقة "التاريخ"، وعندما قرأت أسماء الكتب المقررة في المسابقة وجدت الإنجليزية أحدهما عن تاريخ أوربا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والثاني عن "الدستور البريطاني".

أما الكتاب المقرر في المسابقة اللغة العربية فكان كتاب "تاريخ الجبرتي" في جزأيه الأولين على ما أذكر.

وهكذا شمّرت عن ساعد الجد، طوال الصيف الذي يسبق دخولي "السنة التوجيهية" كيما أعثر على كتب المسابقة وأبدأ العمل فيها بجدية قبل أن تبدأ الدراسة المنتظمة.

ولم يكن العثور على "تاريخ الجبرتي" صعباً لأنني وجدته في مكتبة المدرسة التي كانت عامرة بالمؤلفات القيّمة، وساعدني أمين المكتبة على أن أستعير الكتاب بجزأيه استعارة طويلة الأمد.

أما الكتابان الآخران المكتوبان باللغة الإنجليزية، فقد وجدت صعوبة كبيرة في العثور عليهما، إذ إنني بحثت في جميع مكتبات القاهرة فلم أجد لهما أثراً، وإن كان صاحب إحدى المكتبات قد أبدى استعداده لمساعدتي، فطلب أحد الكتابين، وهو "الدستور البريطاني" الذي كان حديث الطبع من الناشر البريطاني، وطلب إليّ أن أمرّ عليه بعد أسبوعين أو ثلاثة إلى أن يصل إليه الكتاب.

بقي بعد ذلك الكتاب الإنجليزي الثاني عن تاريخ أوربا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، الذي حفيت قدماي لكي أعثر عليه في مكتبات عامة أو خاصة ، فلم أعثر إلا على كتب أخرى للمؤلف نفسه في دار الكتب المصرية.

وعندما اشتدت حيرتي، تقدم لمساعدتي مدرس التاريخ الذي كان يقوم بالتدريس لي في العام السابق، وكان إعجابي بإخلاصه في العمل وغزارة علمه هو السبب الرئيسي الذي جعلني أختار مادة "التاريخ" للدخول في مسابقتها.

وبعد أن عرف هذا المدرس العظيم مدى العناء الذي صادفته في سبيل العثور على هذا الكتاب، طلب إليّ أن أزوره في بيته آملاً أن يجد نسخة من هذا الكتاب في مكتبته الخاصة.

وكانت المفاجأة المذهلة هي أن أجد هذه "المكتبة الخاصة" لمدرس المرحلة الثانوية هذا عبارة عن غرفة واسعة غُطيت جميع جدرانها بالرفوف التي تكدّست عليها الكتب بالألوف.

وبعد قليل من البحث، أخرج لي من أحد الرفوف الكتاب الذي عدت به إلى بيتي وأنا أكاد أطير فرحاً.

هكذا كان معلم الثانوية في الأزمان الغابرة : عالماً يملك مكتبة عامرة يندر أن نجد مثيلاً لها في بيوت أساتذة الجامعة في هذه الأيام.

إنني أصرّح دائماً، في كل فرصة تُتاح لي، بأنني مدين- في أي تقدم حققته في أي ميدان- للنظام التعليمي العظيم الذي تربيت في ظله، وهو النظام الذي سرعان ما اختفت معالمه بعد فترة وجيزة من العصر الذي أتحدث عنه لأسباب لا يعلمها إلا الله!

كانت المشكلة الرئيسية التالية هي كيف أستطيع قراءة كتابين مكتوبين باللغة الإنجليزية، وأنا مازلت طالباً حاصلاً على شهادة السنة الرابعة الثانوية فقط، ونظراً إلى ما أبداه أستاذ التاريخ لي من تشجيع معنوي ومن مساعدة كريمة في البحث لي عن أحد الكتابين، فقد قررت ألا أثقل عليه بسؤاله عمّا يستغلق عليّ فهمه من هذين الكتابين، كانت المشكلة بالنسبة إليّ هي أن الكتابين مكتوبان بلغة علمية لها مفرداتها وتركيباتها التي تختلف كل الاختلاف عن تلك اللغة المبسّطة التي كنا نقرأها في كتب اللغة الإنجليزية المقررة في مدارس التعليم العام.

وهكذا قررت أن أعتمد على نفسي اعتماداً تاماً في فك طلاسم هذين الكتابين، مهما كان مدى الجهد الذي ينبغي بذله من أجل تحقيق هذا الهدف الشاق.

سهر الليالي

وبالفعل ، كنت أسهر الليالي الطويلة، ومعي قاموس جيد من قواميس اللغة الإنجليزية لأنني لم أكن أثق كثيراً- ومازلت- في القواميس الإنجليزية العربية التي تدّعي الكثير، ولا تسعف طالب العلم عند الحاجة، وكنت أكتب الكلمات الصعبة في صفحة مستقلة عليها رقم الصفحة الأصلية، وأمام كل كلمة المعنى الذي استنتجته من القاموس الإنجليزي أو من سياق الكلام، وكنت أعيد قراءة هذه القائمة من آن لآخر حتى تثبت في ذهني المعاني الجديدة، وبعد أن أنتهي من أحد فصول الكتاب أو أحد أقسامه، أعيد قرءاته كاملاً في النص الإنجليزي لكي أختبر مدى استيعابي للغته.

كان هذا الجهد غير العادي، في وقت مبكر نسبياً من حياتي الدراسية، من أهم عوامل تفوّقي اللاحق في الدراسة الجامعية وما بعدها، ذلك لأن الاستيعاب المتأني، المدقق، لكل ما جاء في هذين الكتابين، كان يعني تخطي عقبة إتقان اللغة الأجنبية الأولى، وهي الإنجليزية، وهذا يعني فتح نافذة واسعة على العالم. والقدرة على ملاحقة كل ما هو جديد وعميق في شتى ميادين المعرفة.

وقد ضمنت لي هذه القدرة تفوقّاً سهلاً ظهرت معالمه بوضوح عندما التحقت بقسم الفلسفة في الجامعة في السنة التالية.

فقد أصبحت أقرأ المراجع الأجنبية بسهولة حتى أن أستاذ الفلسفة الحديثة في الجامعة، كان يكلفني عندما يتغيب بأن أقرأ محاضرة على زملائي في السنة الثالثة مستعيناً بالمرجع الأجنبي المهم الذي كنت أترجم سطوره لهم ترجمة فورية مباشرة.

ولأعد إلى قصة امتحان الفلسفة لأروي ما فيها من عبر ودروس تعليمية، كان نظام المسابقة يقضي بأن يدخل الطلاب امتحاناً تحريرياً في البداية، ثم يدخل الناجحون في هذا الامتحان اختباراً شفوياً آخر يتحدد فيه ترتيب نجاحهم في المسابقة.

وأذكر أنني لم أجد صعوبة كبيرة في اجتياز الامتحان التحريري، وبعد أسابيع قليلة كان عليّ أن أستعد لمعركة أشد صعوبة هي الاختبار الشفوي.

وعندما حان موعد هذا الاختبار، ذهبت إلى المكان المحدد وهو أحد المعاهد التعليمية في وسط القاهرة، وهناك علمت أن لجنة الاختبار الشفوي تتألف من ثلاثة من أعظم وأشهر أساتذة التاريخ في مصر في تلك الأيام، ولم تمض دقائق طويلة حتى كان التلميذ الصغير فؤاد زكريا جالساً أما لجنة امتحان تتألف من المرحومين الأستاذ شفيق غربال، والدكتور عبدالحميد العبادي والدكتور حسن إبراهيم حسن، وكان واضحاً أن رئيس اللجنة هو الأستاذ شفيق غربال أكبر المؤرخين المصريين في ذلك الحين وأوسعهم علماً.

وعندما تمكنت من الإجابة بسهولة عن الأسئلة المتعلقة بتاريخ أوربا في القرن التاسع عشر، بدأ الممتحنون الأفاضل يصعّدون مستوى الأسئلة تدريجياً، وكأنهم يختبرون مدى قدرتي على إجابتها، ومازلت أذكر ضمن الأسئلة التي وجهت إليّ في ذلك اليوم الفريد، أن الدكتور العبادي (الذي تصادف أن أصبح ابنه فيما بعد زميلاً كريماً لي في جامعة الكويت، التي كان فيها أستاذاً للتاريخ)، طرح علي السؤال التالي بشأن كتاب "تاريخ الجبرتي"، فقد كان الجبرتي يطلق اسماً غريباً على سفينة القيادة التي أتت بها حملة نابليون على مصر سنة 1798 ، وكان اسم السفينة الفرنسية هو Orient ، فسألني الدكتور العبادي : لماذا أطلق الجبرتي على هذه السفينة اسم "نصف الدنيا"؟ ويبدو أن الدكتور حسن إبراهيم حسن أحسّ بأن هذا سؤال صعب، فتصدّى هو نفسه للإجابة عنه قائلاً : لقد أسماها كذلك لأنه وجدها سفينة كبيرة جداً بالمقاييس التي تعوّد عليها في زمنه.

أما أنا، فلم تعجبني هذه الإجابة، وأبديت بوجهي إشارة تدل على ذلك، فالتقطها الأستاذ شفيق غربال وقال لي : هل لديك تعليل آخر لهذه التسمية؟ فأجبته بشيء من الاستحياء والتواضع : أعتقد أن لديّ تعليلاً معقولاً لهذه التسمية.

فالدنيا تنقسم إلى قسمين : شرق وغرب ، ولما كان اسم السفينة يعني "الشرق" ، وهو أحد نصفي الدنيا، فقد وجد من الأسهل عليه أن يسمّيها "نصف الدنيا".

وما إن أدليت بهذه الإجابة حتى نظر كل من الأستاذ شفيق غربال والدكتور العبادي إلى الآخر وابتسما ابتسامة تنمّ عن الشماتة في زميلهما الثالث الذي تصدى له وتحدّاه طالب صغير في "التوجيهية".

وبعد قليل، قال لي رئيس اللجنة الأستاذ غربال : لديّ سؤال آخر، ثم ذكر لي بالإنجليزية تعبيراً ورد في كتاب "الدستور البريطاني" فهل تستطيع أن تترجمه؟

فترجمته له على الفور ترجمة صحيحة، وعندئذ نهض رئيس اللجنة من كرسيه ومدّ يده لي مصافحاً ثم قال : قمْ! فتح الله عليك!، وقمت من هذا الاختبار القاسي وأنا واثق من أنني سأكون الأول، ولم تمض أسابيع قليلة حتى قرأت اسمي في الجرائد على أنني الأول في مسابقة التاريخ، وسأحصل على مكافأة مالية قدرها 25 جنيهاً بالتمام والكمال.

الشرط الأخير

بقي بعد ذلك الشرط الأخير وهو أن أنجح في امتحان شهادة التوجيهية، ولهذه المسألة بدورها قصة تستحق أن تُروى، ذلك لأنني عندما بدأت السنة الدراسية، قررت أن أركّز جهدي كله على امتحان المسابقة، أما المواد المقررة في تلك السنة فكنت أهملها

كثيراً لأن الوقت لم يكن يتسع للأمرين معاً، ومن الطرائف أن ناظر المدرسة التي كنت ملتحقاً بها في ذلك الحين (مصر الجديدة الثانوية) كان يستدعيني مراراً إلى مكتبه ويؤنبني على عدم اهتمامي بدروس السنة التوجيهية، وعندما حان موعد الامتحانات التي كانت تعقد داخلياً كل ثلاثة أشهر باسم "امتحانات الفترة" لم أجد في نفسي استعداداً لدخولها لانشغالي بكتب المسابقة.

ولما وجد ناظر المدرسة أنني تغيبت عن الامتحانين الأول والثاني من امتحانات الفترة، استشاط غضباً واستدعاني إلى مكتبه وقال لي : إنه سيفصلني من المدرسة حتى أحضر "وليّ أمري" إلى مكتبه، وبعد يومين، ذهبت إلى مكتب الناظر ومعي وليّ أمري، فقال له الناظر أن مدرسته حريصة على أن يكون نسبة نجاح تلاميذها في الشهادة الثانوية عالية، وأنني بإهمالي هذا سوف أسيء إلى نتيجة المدرسة.

وعدت إلى بيتي، وقد عقدت عزمي على مواصلة الطريق نفسها، وعندما أعلنت نتيجة المسابقة، واطمأننت إلى تفوّقي فيها، بدأت أبدي اهتمامي بالدروس المقررة، وكان من سوء حظي أنني أصبت في الفترة المتبقية لي قبل الامتحان النهائي بالتهاب شديد في قزحية العين أصبح فيما بعد يعاودني في مواسم الحساسية كل عام أو عامين، ونصحني الطبيب بألا أجهد عيني كثيراً، فأصبحت أذاكر دروسي في ساعات النهار فقط، وأتوقف تماماً عن المذاكرة بمجرد مغيب الشمس، هذا فضلاً عن أن الوقت الذي تبقى لي قبل الامتحان بعد أن زالت حدّة الالتهاب في عيني، وخفّت آلامه الشديدة لم يكن يزيد عن أربعين يوماً.

وهكذا دخلت امتحان "التوجيهية" معتمداً على قشور من المعلومات وعلى "الفهلوة" في الإجابة عن أسئلة الامتحانات.

وكانت مفاجأة المفاجآت بعد أن ظهرت نتيجة "التوجيهية" هي أنني كنت الخامس في شعبة الآداب على مستوى مصر كلها.

ويستطيع القارئ أن يتصور مدى دهشة ناظر المدرسة حين رأى ذلك التلميذ المهمل الذي كاد أن يفصله يوماً ما بسبب عدم اكتراثه بدراسته، وقد نشر اسمه في الصحف ضمن الخمسة الأوائل في البلد كلها.

ولم تمض سوى أسابيع قليلة حتى أرسلت إليّ "وزارة المعارف" شيكاً بمبلغ خمسة وعشرين جنيهاً قيمة جائزتي باعتباري الأول في مسابقة التاريخ في عام 1945.

وعندما صرفت ذلك الشيك، أحسست أن في يدي ثروة طائلة ولا بأس من أن أحيط القارئ علماً بالطريقة التي أنفقت فيها هذه الثروة الطائلة.

كان أول شيء فكرت فيه هو أن أقوم بتفصيل بدلة محترمة تليق بي بعد أن أصبح طالباً في الجامعة، وأذكر أن هذه البدلة لم تكلفني أكثر من خُمس مبلغ الجائزة مع أن قماشها كان من صوف إنجليزي فاخر، كما أن الذي قام بتفصيلها أحد كبار الخياطين في وسط القاهرة، أما بقية المبلغ، فقد أهديت جزءاً منه إلى أمي لقاء تضحياتها الهائلة من أجلي ومن أجل بقية أفراد أسرتي، كما وزعت على إخوتي الخمسة مبالغ بسيطة على سبيل الهدايا ، واحتفظت بجزء من المبلغ لكي أشتري به هدية رمزية إلى مدرس التاريخ العظيم الذي كنت مديناً له بالفضل في نجاحي في هذه المسابقة. أما أبي، فكانت هديتي له هي أنني سأوفر عليه مصاريف الجامعة طوال سنواتها الأربع، وبهذه المناسبة، فإنني أذكر أن الموظف المختص بالمصروفات في كلية الآداب، قال لي عندما أخبرته أنني سأتمتع بالمجانية التي تمنح للناجحين في مسابقات "التوجيهية" : إنك لم تكن في حاجة إلى النجاح في هذه المسابقة لأن ترتيبك في شهادة التوجيهية ودرجاتك العالية كانا كافيين لأن تدخل بهما الجامعة مجاناً!

 

فؤاد زكريا

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




د. فؤاد زكريا