فؤاد زكريا: صوت العقل والضمير

فؤاد زكريا: صوت العقل والضمير

إذا كانت الفروق الفردية أمرا ثابتا في طبيعة البشر فإنها اشد ثبوتاً وأكثر وضوحاً بين العلماء والمفكرين. فلا العلماء المبتكرون على شاكلة واحدة مهما اتفقوا على منهج صارم يحدد لهم مسار الطريق في عملهم العلمي، ولا المفكرون المبدعون متشابهون في الكشف عن أفكارهم وتصوراتهم. دونك المفكرين الموهوبين مثلا تجد أن بعضهم يتميز بإلقاء المحاضرات المشوقة، ويتفرد آخرون بكثرة التأليف الأكاديمي الصرف، وتتميز جماعة أخرى منهم بقدرتها على تحليل الأحداث واستشراق آفاق المستقبل. وواضح أن الفرق يظل شاسعاً بين مفكر يكتفي في إبداعاته بناحية من هذه النواحي وبين آخر يجع في مساهماته المبتكرة بين شتى أساليب التعبير والإبداع التي قلما تتاح مجتمعه لمفكر بعينه. ومن هنا يتفرد فؤاد زكريا عن غيره. ذلك أن شخصية موهوبة على أكثر صعيد.

فهو رجل على قدر كبير من الذكاء ويتمتع بتفكير منظم مقرون بسرعة البديهة. وهو إنسان متواضع ومحبوب من أناس كثيرين صادق مع نفسه وصريح في إبداء الرأي ، يستمع إليك جيدا ويسدي إليك النصح بإخلاص. موضوعي في نظرته إلى الأمور ولا يخشى في الحق لومة لائم . مخلص ووفي للصديق وعفو متسامح مع المسيء.

ويدرك من يعرف فؤاد زكريا حق المعرفة أنه يتمتع بنظرة ثاقبة إلى موضوعات البحث ومجريات الأحداث التي تشد الانتباه وهو يمتلك قدرة فائقة على التعبير وإيصال الفكرة التي تدور في ذهنه إلى السامع أو القارئ أو المشاهد الذي لا يملك إلا أن يحترم وجهة النظر المعروضة بمنطق حصيف وأسلوب بديع بغض النظر عن مسألة الاتفاق أو الاختلاف في الرأي. ولد فؤاد زكريا قدرة فائقة على التحليل ومعالجة القضايا الأكاديمية الصعبة وتبسيطها توازي قدرته على معالجة المشكلات المهمة التي تطرأ على ساحة الأحداث وتكون لها صلة بحياة الإنسان. وهو في هذا وذاك كاتب ملتزم، وناقد فذ، لا يستهين بكرامة البشر أو حريتهم ، ولا يهادن في أمور تتعلق بالمبادئ كقضايا الديمقراطية والعدالة والمساواة، كما أنه لا يتردد في التعبير عن صوت العقل والضمير متى دعت الحاجة إلى إعلان الرأي. وحسبك أن تعرف بأن مقالاته الصحفية الرصينة وتحليلاته المبتكرة لقضايا المجتمع والإنسان، والتي تعد بالمئات ، توازي في رصانتها ودقة أسلوبها وصحة نظرتها روعة مؤلفاته الأكاديمية وترجماته النافعة.

ولعل خير شاهد على تمكن فؤاد زكريا وتبحره لا معرفته ببعض اللغات الأجنبية الواسعة الانتشار، مثل الإنجليزية والفرنسية فحسب، وإنما توليه أيضاً مناصب أكاديمية وثقافية مهمة على امتداد نصف قرن من الزمان بدءاً من تخرجه في قسم فلسفة بجامعة القاهرة في عام 1949 وحتى يومنا هذا . فلقد عين معيدا بكلية الآداب بجامعة عين شمس بعد منحه درجة الليسانس حيث نال درجة الماجستير في عام 1952 ثم حصل على درجة الدكتوراه من الجامعة نفسها في عام 1956 . وكان الدكتور فؤاد قد عمل لفترة من الزمن في المنظمة الدولية للتربية والثقافة والعلوم حيث عاد بعدها إلى القاهرة ليستأنف مهنة التدريس الجامعي. وكان قد تدرج في مهنة التعليم الجامعي من مرتبة مدرس إلى مرتبة رئيس قسم الفلسفة في كلية الآداب بجامعة عين شمس "1947" . وكانت مساهماته الثقافية والتنويرية تسير جنباً إلى جنب مع نشاطه الأكاديمي الصرف إذا تولى إبان تلك الفترة رئاسة تحرير مجلة "الفكر المعاصر" و "تراث الإنسانية" . ولقد عمل فؤاد زكريا أيضاً مستشاراً لشئون الثقافة والعلوم الإنسانية في اللجنة الوطنية لليونسكو بالقاهرة، كما شارك في عشرات المؤتمرات والندوات ومن بينها مؤتمرات أشرفت على إعدادها منظمة اليونسكو.

جهود تنويرية

وفي عام 1974 حضر فؤاد زكريا إلى الكويت للتدريس بقسم الفلسفة بجامعتها وكان عطاؤه الثقافي في الحقبة التي قضاها في الكويت، والتي امتدت قرابة عقدين من الزمان، متميزاً وغزيراً . فمن مقابلات إذاعية وتلفزيونية إلى مقالات صحفية ومحاضرات وندوات عامة تدور حلو موضوعات شتى. ولقد توجت جهوده التنويرية بإشرافه على إصدار سلسلة "عالم المعرفة" ، وهي كتب ثقافية شهرية ينشرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت. ويكفي التدليل على جهوده المثمرة في مجالات التأليف والترجمة والتنوير عموماً ذكر بعض مؤلفاته التي ظهرت تباعاً على النحو التالي:

1- نيشته ، سلسلة نوابغ الفكر الغربي " 1 " ، القاهرة ، دار المعارف، 1956.

2- نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان ، القاهرة- مكتبة النهضة المصرية، 1962 .

3- اسبينوزا، القاهرة ، دار النهضة العربية ، 1963.

4- الجوانب الفكرية في مختلف النظم الاجتماعية، القاهرة ، عين شمس ، 1972 .

5- آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة ، القاهرة، الهيئة العامة للكتاب، 1975.

6- التفكير العلمي، سلسلة عالم المعرفة "3"، الكويت، المجلس الوطني، 1978.

7- خطاب إلى العقل العربي، كتاب العربي "17" ، الكويت 1978 .

8- الجذور الفلسفية للبنائية، حوليات كلية الآداب "1" ، جامعة الكويت 1980 .

9- الصحوة الإسلامية في ميزان العقل، بيروت ، دار التنوير، 1985 .

10- الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة، القاهرة، دار الفكر، 1986 .

11- آفاق الفلسفة، بيروت ، دار التنوير 1988 .

12- الثقافة العربية وأزمة الخليج ، القاهرة ، مطابع الأهرام، 1991 .

ولعل الإشارة إلى المؤلفات التالية تكفي شاهداً على صدق الجهود التي بذلها فؤاد زكريا في مجال الترجمة:

1.ب موى، المنطق وفلسفة العلوم، "جزاءان"، القاهرة ، دار نهضة مصر 1961 .

2 . ر . متس، الفلسفة الإنجليزية في مائة عام، القاهرة، دارة النهضة العربية 1963 /67.

3 . هـ. ريشنباخ، نشأة الفلسفة العلمية، القاهرة، دار الكتاب العربي ، 1968 .

4 . أفلوطين التساعية الرابعة في النفس، القاهرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1970 .

5 . ج . ساتولينتز، النقد الفني، القاهرة، مطبعة جامعة عين شمس 1974.

6 . أفلاطون ، الجمهورية ، القاهرة ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1974.

7 . هـ. ميد،الفلسفة : أنواعها ومشكلاتها ، القاهرة دار نهضة مصر، 1975 .

8 . ب . رسل ، حكمة الغرب ، " جزءان " ، عالم المعرفة "62 ، 72 " ، الكويت ، 1983.

وللدكتور فؤاد زكريا بصمات فكرية وتنويرية واضحة تمثلت في عشرات المقالات والبحوث التي زخرت بها صحافة الكويت ودورياتها مثل عالم الفكر، ومجلة العربي وجريدتي الوطن والقبس.

المجتمع الواعد

كان أول عهدي بالدكتور فؤاد زكريا في عام 1974 ، وذلك عندما كنت على وشك مناقشة رسالة الماجستير التي أعددتها تحت إشراف الدكتور زكي نجيب محمود. وعلى الرغم من قصر المدة التي جمعتني به آنذاك ، حيث كنت أتأهب للسفر إلى الولايات المتحدة لمواصلة الدراسات العليا هناك، فإنني أدركت فيه علما غزيرا ولمست فيه خصالات حميدة كثيرة.

ولقد تأكد لي ، بعد سفري إلى أمريكا في فترة البعثة الدراسية التي استغرقت نحو ست سنوات ، مدى ما يتمتع به فؤاد زكريا من حصيلة علمية غنية ووفرة ما أسهم به في ميداني الثقافة والتنوير. ذلك أن الصلة بيني وبينه لم تنقطع آنذاك . فعلى الرغم من بعد المسافة الجغرافية التي تفصل بين الكويت وأمريكا فإنني كنت أتحدث إليه عبر الهاتف أحياناً، وأبعث إليه بالخطابات أحياناً أخرى، وكثيرا ما كنت أرسل إليه بعض البحوث التي أكتبها كيما يتفضل بإبداء الرأي فيها، ومن ثم العمل معا على اتخاذ صيغة مناسبة بشأنها. ولقد وجدت فيه استعدادا لتقديم العون قدر المستطاع وإخلاصا في إسداء النصح ما جعلني أخصه بمرتبة رفيعة في نفسي.

على أن الاكثر لفتا للانتباه خلال فترة العمل الخصبة التي قضاها فؤاد زكريا في الكويت هو نشاطه الثقافي وجهده التنويري الدءوب. إذ لا يكاد يمر أسبوع إلا وتجد له مناسبة يتحدث فيها إلى الإذاعة أو يظهر فيها على شاشة التلفاز أو يكتب فيها مقالا صحفيا مهما أو يحاضر في جماعة من المثقفين أو يشترك في محاورة أمام حشد من الطلبة أو يسهم في مناظرة عامة. ومن هنا يظهر الفرق واضحا بين فؤاد زكريا وبين كثير من الشخصيات الأكاديمية التي جاءت إلى الكويت على امتداد العقود الثلاثة الماضية. فلم يكن فؤاد زكريا يكتفي بإلقاء المحاضرات على الطلبة في الجامعة أو يقنع بالتأليف الأكاديمي المحض، بل كرس جهدا كبيرا جدا من نشاطه العلمي الثقافي ميدان التنوير بشكل عام. فلا عجب أن ألتف حوله الطلبة والمثقفون وكثيرا من عامة الناس الذين استهوتهم موضوعات ندواته وشدهم إليه وضوح التفكير وسلاسة اللغة وقوة الحجة.

ومن المؤكد أن فؤاد زكريا وجد في الكويت مجتمعا واعدا لا من حيث أنه يزخر بإمكانات مادية وقدرات اقتصادية كبيرة بل من حيث أنه ينعم بنظام ديمقراطي متميز وحرية معقولة في التعبير وكوادر فاعلة وأفراد يتعطشون للتزود بالثقافة والعلم على أوسع نطاق. ومن هنا كانت صدمة فؤاد زكريا بالغزو العراقي الغادر للكويت موازية لصدمة أهل الكويت نفسها وكيف لا ينبري فؤاد زكريا للدفاع عن الكويت بكل وسيلة ممكنة والتنديد بجريمة الغزو العراقي وهو المثقف الملتزم الذي جند فكره وقلمه للدفاع عن حياة الإنسان وحريته وكرامته؟ فإذا كان فؤاد زكريا لا يرضى لإنسان أن يظلم أخاه الإنسان ويستهجن استباحة حرية البشر وهدر كرامتهم من جهة المبدأ فكيف يقبل بظلم عربي لأخيه العربي أو قتل النفس البريئة أو ارتكاب جريمة غزو وحشي لمجتمع واعد ينعم بالديمقراطية والحرية؟ ويكفي شاهدا على نفاذ بصيرته وصحة توقعاته أنه خالف كثيرا من الكتاب رأيهم ودخل في خصومات حادة مع مثقفين وقفوا إلى جانب العراق في حرية مع إيران إبان الثمانينات . فلقد أدرك بثاقب نظره وسلامه تحليله أن المجرم يظل مجرما ويستحق العقاب مهما هون الناس من أمره، وأن الدكتاتور يظل طاغية ومستبداً مهما سعيت إلى إصلاحه واضطرتك الظروف إلى مهادنته أو الوقوف إلى جانبه أملا في عودته إلى جادة الصواب. " والحق أن كثيرا من المقيمين في الكويت ، من غير مواطنيها، قد مروا طوال ما يقرب من سنوات عشر بتجربة ذات دلالة بالغة، ظلت تتكرر إلى ما قبل العدوان الأخير على الكويت" بأيام قلائل. فطوال أيام الحرب العراقية الإيرانية كان من يجرؤ منهم على التشكيك في جدوى تلك الحرب العقيم، ومن يتزحزح قيد أنملة عن التأييد الكامل للعراق، يلقي من رفاقه الكويتيين هجوما حادا ونقدا مريرا. فلم يكن الانحياز إلى العراق في نظرهم موضوعا للنقاش . وسواء أكان مستندا إلى مفهوم العروبة، أو إلى صلة الجوار، أو إلى الرابطة القومية، فقد كان في كل الأحوال انحياز مطلقا يكفي أي تشكيك فيه لزرع بذور الخصومة بين أصدق الأصدقاء.

موقف من الغزو

على أن الذي ألم الدكتور فؤاد زكريا هو موقف اللا مبالاة أو التأييد الذي أظهره بعض الكتاب والمثقفين لجريمة غزو العراق للكويت، وترويع أهلها أو قتلهم وتشريدهم. فهل يرى أن مأساة الغزو لم تكن عدواناً وحشيا فحسب، بل كان أيضاً مناسب أليمة كشفت عن مرض خطير في بنية الثقافة وبعض المثقفين العرب. فإذا كانت آمال كثيرة بالوحدة العربية الشاملة قد تهاوت جراء الغزو العراقي للكويت، وتضاءلت طموحات عظيمة أيضاً بتحقيق الحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان في شتى أقطار العالم العربي، أقول إنه إذا كان الغزو العراقي قد بدد كل تلك الأمر والطموحات فإنه كشف أيضا عن رداء عضال يكمن في أذهان بعض المثقفين العرب الذين آزروا العدوان وسعوا إلى تبريره أو التستر عليه. إذ ربما التمس المرء العذر لبعض المثقفين المخدوعين في مؤازرتهم العراق إبان حربه مع إيران ظنا منهم بأن العراق كان يدافع آنذاك عن البوابة الشرقية للوطن العربي، ولكن ما عذرهم في التأييد الذي أظهروه لاجتياح العراق أرض الكويت واحتلالها وتشريد أهلها، وما المبرر الذي يمكن التماسه لبعض المثقفين الذين هللوا أو سعوا إلى التستر على القتل والتعذيب والتشريد الذي ارتكبه النظام العراقي في حق الكويتيين؟ "كنت أتصور أن المثقفين بالذات، وبغض النظر عن حسابات الأنظمة الحاكمة ومصالحها ، سيتخذون موقفا إجماعيا ضد الطغيان، وكنت أتوقع حتى ممن انخدعوا من قبل النظام الباغي في العراق وشاركوا في مهرجانات اللاهية الزائفة طوال الثمانينات ، أن يفيقوا من غفوتهم " وهي في رأيي غفوة غير مغفورة"، وأن ينتبهوا إلى الطبيعة اللا إنسانية للنظام الذي كانوا يصفقون له، ولكن المفاجأة المذهلة، في هذا الحدث- "أي غزو العراق للكويت" الذي ظننت أن أي أثنين، ممن يحتكمان إلى عقلهما، لن يختلفا عليه- كانت تساقط المثقفين في مشارق العالم العربي، ومغاربه، وفي بلادهم أو في المهجر. فقد أخذت بعض الأسماء اللامعة، التي أعرف من أصحابها الكثيرين، وأقرأ لهم، واقدر جهودهم في سبيل نشر النور في عالمنا الذي يكتنفه الظلام من كل جانب- أخذت هذه الأسماء اللامعة تتهاوى ملطخة بأوحال التنظير الزائف، والتبرير المتهافت ، والمنطق الأعوج .. وتكشفت لي حقيقة ما كنت أتمنى أن أهتدي إليها في يوم من الأيام، وهي أن قدرا لا يستهان به من رفاق طريق الفكر عاجزون عن رؤية أبسط الحقائق الواضحة، ولا يقيمون وزنا كبيرا لقيم الحرية والكرامة الإنسانية التي طالما تحدثوا عنها وكتبوا، ولا يتميزون عن الجماهير غير الواعية تميزا واضحا حين يتعلق الأمر باختبار حقيقي لصلابة الإنسان الأخلاقية والفكرية".

السباحة ضد التيار

كان هذا هو العنوان الذي لخص فيه فؤاد زكريا جهوده الفكرية والتنويرية. فقد قال إنه يسعى إلى الإطاحة بالحاجز الذي يفصل بين العقل النظري والعملي من أن يتفاعل المفكر مع تيار الحياة وتكون للفلسفة صلتها بعالم الواقع، فلا خير في فلسفة تظل حبيسة الأذهان أو الصدور ولا نفع في عالم لا يكون له أثر في حياة الناس وتوجهاتهم. على أن الجهد الذي يبذل في هذا السبيل يحتم المواجهة والدخول في معارك فكرية ، لا سيما إذا كان المرء جادا وملتزماً . وبقدر ما كان فؤاد زكريا مدركا ضرورة إيجاد حل للمشكلات الإنسانية والآفات الاجتماعية ، كان إحساسه بأن هذه هي المهمة التي ولد من أجلها. " إنني مقتنع بأنه لا مفر للإنسان "الملتزم" من معارك في مجتمعاتنا ، وخاصة إذا لم يكن منافقا أو مداهنا لذلك المجتمع. لقد أحسست في فترة مبكرة من حياتي أن هذا هو قدري .. رضيت به .. بل ورحبت ومازلت". ويعترف فؤاد زكريا بأن المسألة لم تكن سهلة على الإطلاق ، بدليل أن كثيرا من أصدقائه ورفاق دربه ابتعدوا عن ملازمته، وتخلوا عن مواصلة السير في طريق النضال والتنوير بعدما سقطوا فريسة الوهم أو اليأس. وغنى عن البيان أن مواصلة السير في طريق التنوير تتطلب السباحة ضد التيار في معظم الأحيان وتوجب على المفكر أن يدفع الرأى بالرأى وأن يقارع الحجة بالحجة وأن يكون سلاحه الفعال هو وضوح الرؤية وسلامة التفكير.

كانت أولى المعارك التي خاضها فؤاد زكريا مع المثقفين المصريين على وجه الخصوص هي معركته مع نظام حكم عبدالناصر، ولا سيما عند منتصف السبعينات . فلقد دخل آنذاك في مواجهات حادة مع بعض المفكرين اليساريين الذين ارتجوا خيرا من نظام العسكر الذي استشرى في أوصال المجتمع. وكانت معركته الثانية تدور حول بعض الآراء التي سعت إلى تحميل الدين ما لا يحتمل إثر النصر الذي تحقق للعرب في حربهم مع إسرائيل في عام 73 .

أما معركته الأخيرة مع المثقفين فإنها تتعلق بموقفه من جريمة الغزو العراقي للكويت على نحو ما أسلفنا. إذ من المعلوم أن بعض المثقفين المخدوعين أو المكابرين قد وقفوا إلى جانب النظام الحاكم في العراق حين أقدم على احتلال الكويت. فبعضهم كان منساقا وراء أوهام باطلة منها تصورهم أن صدام محق في عدوانه وافتراءاته ، وأن النظام العراقي قادر على مواجهة الولايات المتحدة والدول الغربية التي رفضت العدوان واصرت على تحرير الكويت. ومن المثقفين الذين وقفوا إلى جانب العراق طائفه مكابرة لم تتراجع عن موقفهم بعد الهزيمة التي ألحقتها دول التحالف بطاغية العراق بل أصرت- وما زالت- على الإشادة بالنظام المهزوم، وبالغت في تأييد الباطل وتمجيده حتى بعد أن انجلت الأمور واتضحت أبعاد الجرائم التي ارتكبها الطاغية في حق الشعب العراقي نفسه.

 

عبدالله العمر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




من مؤلفات د. فؤاد زكريا