فؤاد زكريا والعقلانية النقدية

فؤاد زكريا والعقلانية النقدية

خيط واحد يمكن أن ينتظم مؤلفات مفكّرنا فؤاد زكريا يمكن أن نسميه بـ"العقلانية النقدية" .

فؤاد زكريا ليس من هواة إقامة المذاهب العقلية المجرّدة ، ولا إصدار المشاريع الصبيانية المجوّفة، وإنما تعني في الأساس شيئاً من قبيل النظرة الفلسفية ، أو إن شئت قلت منهجاً في حالة من التطبيق الدائم والممارسة المستمرة.

من خلال هذه النظرة يتناول فؤاد زكريا موضوعات عدة في مجالات شتى، مما يؤلف- باستثناء ترجماته الكثيرة- إنتاجاً فكرياً بالغ الغزارة والعمق معاً. على أن الملاحظ أن هذا الإنتاج يأخذ منذ بداياته الأولى وحتى الآن مسارين اثنين يبدو أن لأول وهلة متعارضين، ولكنهما في الحقيقة متضافران جدلياً ومترابطان عضوياً : أحدهما أكاديمي بحت، يشمل تلك المؤلفات التي تدور حول مشكلات وشخصيات فلسفية، ابتداء من " الإنسان والحضارة " و " نيتشه " وصولاً إلى " آفاق الفلسفة"، وهو كتاب يضم مجموعة من الأبحاث المتخصصة التي نشرها في دوريات علمية مختلفة، مروراً بـ"مشكلة الحقيقة" ، وهي رسالته في الدكتوراه التي لم تُنشر، رغم أهميتها في إلقاء الضوء على فكره ،و " نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان" و "سبينوزا" الذي نال عليه جائزة الدولة التشجيعية عام 1962 ، و " التفكير العلمي " ، فضلاً عن دراسته عن أفلاطون وأفلوطين ، أما المسار الثاني فهو علمي عام، يخصّنا جميعاً، أو بعبارة أخرى يتعلق بالواقع الحيّ الذي يعيشه كل منا في حياته اليومية، وهو ما يؤلف الموقف الطبيعي للإنسان على حد تعبير. يتكون هذا المسار من كتب وسلسلة طويلة جداً من المقالات التي نشُرت في مجلا وجرائد مختلفة في أنحاء الوطن العربي ، وقد جمع بعضها في كتاب بعنوان "آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة"، أما البعض الآخر، وهو غير قليل، فلم يزل بحاجة إلى النشر.

ومشكلات هذا المسار الثاني في الطريق الفكري لفؤاد زكريا هي من التنوّع بحيث تشمل مشكلات فنية كالتعبير الموسيقي والتذّوق الفني عموماً ، ومشكلات اجتماعية- سياسية كالتعصب والتسلط والاستبداد،فضلاً عن متابعاته الباكرة وتحليلاته النافذة لحركات الإسلام السياسي والصحوة الإسلامية، وكذلك تفنيداته القوية لألوان الدروسة الأيديولوجية والسياسية التي تحول دون إعمال الفكر والعقل ، مثل نقده العنيف للماركسية والناصرية.

سمات ثلاث

في ذلك الإنتاج ، نستطيع أن نتبنى سمات عامة ومهمة، لعل أبرزها هذه السمات الثلاث التالية :

- إن ما بين المسارين اللذين يؤلفان الطريق الفكري لفؤاد زكريا من تلازم وتفاعل، يكشف عن نمط جديد من التطور عند المفكرين، فإذا كان النمط المألوف والشائع هو ذلك الذي يتمثل في الانتقال من مرحلة ذات سمات معينة إلى مرحلة أخرى ذات سمات مختلفة، كانتقال زكي نجيب محمود- مثلاً- من تقديم الفلسفة الوضعية المنطقية إلى تجديد الفكر العربي، فإن تطور فؤاد زكريا لم يأخذ هذا الشكل الأفقي، وإنما لأن فكره أساساً منهج يُمارس، أو نظرة فلسفية تتحقق ، فإن التطور عنده يأخذ شكلاً رأسياً أو عمودياً، فهو عبارة عن تعمّق في البحث كيما يصل إلى جذور المشكلات التي تتنوع وتتغير بحسب الوقت والظرف التاريخي، إنه ذلك الإرتفاع إلى الأعماق، إن جاز التعبير، مثلما هو الحال في القفز من على "منظر هزّاز" إلى الماء في حوض للسباحة، فكلما كانت القفزة أعلى كان الغوص في الأعماق أشد.

والحق أن فؤاد زكريا حريص كل الحرص على اختبار منهجة أو نظرته الفلسفية من خلال المشكلات التي يعالجها على اختلافها ، فمؤلفاته ومقالاته جميعها وفي جوهرها دروس في كيفية استخدام العقل استخداماً نقدياً فاعلاً، وهذا هو ما يحرص على تقديمه، في المقام الأول، إلى القارئ، تاركاً له الحرية بعد ذلك في تطبيقه على ما يشاء وعلى ما يستجد من مشكلات، سواء أكاديمية خاصة أو عملية عامة ، من هنا تجيء أهمية فؤاد زكريا الفلسفية ، وها هنا بالذات- وبالتأكيد- تكمن خطورته الاجتماعية والسياسية في نظر البعض ممن يناصبونه العداء.

- أما التسمية الثانية، وهي في الحقيقة ترتبط بالسمة الأولى ارتباطاً وثيقاً، فتتعلق بولعه الشديد بتحدي السلطة، أيّاً ما كانت، واعتباره الخضوع لها عقبة كأداء في طريق التفكير السليم ، الذي لا يخرج عن إمالة العقل الى نحو نقدي، فالعقل الذي لا ينقد عقل عاطل، والتفكير الذي لا يصاحبه نقد تفكير عقيم، بل يصل إلى حد التصريح " بأن النقد هو أعلى مظاهر تحقيق الفكر لذاته" ، وعلى الرغم من اختلاف المجالات وتعدد الموضوعات والمشكلات ، فإن الفاعلية النقدية واحدة فيها جميعاً، وتزداد مع الاستعمال حدة، فنحن نجدها بداية في نقده لنزعة اللا معقول عند نيتشه دفاعاً عن العقل، وفي نقده بعد ذلك لسلطة التفسيرات الشائعة عن فلسفة سبينوزا، خاصة تفسير هاري ولفسون ، مثلما نجدها هي نفسها في تحدّيه لسلطة محمد حسنين هيكل السياسية، حينما كشف عمّا ينطوي عليه كتابه " خريف الغضب " من تناقضات ومغالطات، وفي نقده لآليات السلطة الدينية، وكيف تتم صناعة الدعاة وتتحقق لهم السيطرة متخذاً فؤاد زكريا، بنزعته العقلانية النقدية تلك ، نمطاً من المفكّرين نادراً وغير مألوف لنا- مع الأسف- في عالمنا العربي ، فلا يزال هناك نفر غير قليل من المفكرين، أو هكذا شاعت التسمية، لا يقرأ شيئاً إلا وفي يده الورقة والقلم : يقرأ من الكتاب، وفي اللحظة نفسها ينقل بالقلم وعلى الورق ما قد قرأ حتى لتبدو مهمته هي اعتقال أفكار الآخرين .

أما فؤاد زكريا ، فكأنما يطبّق على نفسه تلك القاعدة الأولى من قواعد المنهج الديكارتي التي تكاد تكون إعلاناً مبكّراً جداً لحقوق الإنسان، وخاصة حقّه في التفكير العقلي المستقل، أي عدم الخضوع في تفكيره للسلطة، مهما علا شأنها وهي تقول : " لا أقبل شيئاً على أنه حق مالم يتبين لعقلي أنه كذلك.." ، وعلى هذا ، فلو أخذنا أي كتاب لفؤاد زكريا، وليكن كتابة " سبينوزا" لوجدنا أنه ، وإن يكن ملتزماً بالموضوعية، ليس كتاباً عن سبينوزا بقدر ما هو كتاب في فؤاد زكريا.

وضوح عقلاني

يتميز أسلوب فؤاد زكريا بالوضوح، غير أن الوضوح هنا لا يعني فقط أنه عكس أو معكوس الغموض، بل يعني أيضاً أنه لا يصل إلى تلك الدرجة التي يجعل معها عقل القارئ في حالة من التقبّل السلبي المريح لما يقرأ من أفكار، مجرد ألفاظ في ألفاظ ولا تولد إلا ألفاظاً . ومثل هذا النوع من الوضوح هو والغموض سواء، إذ يخرج القارئ منهما في النهاية صفر اليدين.

أما وضوح أسلوب فؤاد زكريا فمن نوع مختلف، ذلك لانه ينبثق أساساً من وضوح نظرته العقلية للمشكلة التي يتناولها، إن هذا النوع العقلاني من الوضوح في الأسلوب هو الذي يمثل الأسلوب الفلسفي على الأصالة، وهو يتميز بخلوّه من العبارات الإنشائية الطنّانة كالطبول الجوفاء، وكذلك عدم لجوئه- إلا في حالات الضرورة القصوى- إلى الأمثلة التوضيحية كما لو كان القارئ مجرد طالب قاصر أو طفل لم يبلغ بعد سن الرشد، فضلاً عن أنه بعباراته الدقيقة التي تجئ في تعبيرها عن الأفكار "على القدّ" تمامً، إنما يحفز عقل القارئ ويدفعه إلى التفكير مع المفكر هذا الاسلوب الفلسفي ، فيما يعرضه عليه من مشكلات.

مشكلة الحقيقة

في عام 1956 حصل فؤاد زكريا على درجة الدكتوراه في الفلسفة عن رسالة تتناول مشكلة الحقيقة ، وكان يسري في ثناياها ذلك الفرض السابق الذي يقون بأن الحقيقة نسبية وليست مطلقة، ولئن كان هذا القول لا يعدو في عصرنا مجرد فكرة شائعة مطروقة، فإن أهميته تكمن، على ما أعتقده، فيما فعله بفؤاد زكريا، أو بالأحرى ما فعله فؤاد زكريا به، فقد استخرج ما يتضمنه في جوفه وما يترتب عليه من أفكار تمس واقعنا المعيش ووجودنا الثقافي العام ، فبينما يؤدي القول بأن الحقيقة مطلقة إلى التعصب، يؤدي القول بأنها نسبية إلى التسامح، على هذا الأساس الفلسفي ينبني نقد فؤاد زكريا للتعصب، الذي هو في صميمه ، وفي الوقت نفسه دعوة إلى التسامح ، أي الاعتراف بالاختلاف والغيرية، بل والإنسانية في نهاية المطاف.

على أن من بين ما يترتب على نسبية الحقيقة ويرتبط بالتسامح ارتباطاً وثيقاً فكرة الانفتاح التي لم تلق، من الناحية الفلسفية، اهتماماً كافياً، فقد غطى ضجيج الكلام عن الانفتاح الاقتصادي، منذ السبعينات من هذا القرن، على ذلك الانفتاح العقلي الذي يعني، على المستوى العملي، اتساع الأفق، بحيث يشمل قبول الغير، أي المختلف عني أنا نفسي، سواء في العقيدة، أو الجنس، أو اللون، أو المذهب..إلخ، ولكن مع ذلك ، كان هناك في تلك الفترة عينها، توجه خفي يعمل على تحقيق نوع غريب من الانفتاح العقلي، يمكن تسميته بالانفتاح على الانغلاق، إن صح التعبير، وهو عبارة عن تشجيع أصحاب الحقيقة المطلقة، فتحررّت قوى التعصّب ، وظهرت- وهذا هو الأهم- مشكلات وهمية تقوم على كراهية الغير، مثل مشكلة الأنا والآخر.

ولا شك أن هذا الذي قلناه الآن يفضي بنا إلى تناول موقف فؤاد زكريا من قضية الإسلام والعلمانية ، وهي مشكلة حقيقية تمس وجودنا الاجتماعي والسياسي في الصميم.

فضلا عن أن موقف فؤاد زكريا منها ما هو إلا تجسيد حيّ لنزعته العقلانية النقدية : يرى فؤاد زكريا أن العلمانية لابد منها، لكي تخرج البلاد العربية من تخلّفها الثقافي، ولا عجب من هذا، فقط كانت تلك هي وسيلة الأوربيين في عصر النهضة، فلم يتسن لهن الانتقال من ظلام العصور الوسطى إلى تحقيق التقدم في العصر الحديث إلا عندما تمت لهم دراسة الواقع مباشرة من خلال العقل والتجربة، وقد يذهب البعض إلى القول بأن عبارة السيد المسيح المشهورة " اعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله" ، وهي عبارة لانجد ما يشبهها في الإسلام، ساعدت على نجاح العلمانية في عصر النهضة بأوربا ، فتحقق بذلك فصل الدين عن الدولة، والزماني عن الروحاني، مما أتاح الفرصة لقيام نظام علماني يجد في كنفه المؤمنون راحة واستقراراً، لكن فؤاد زكريا يرى مع ذلك ان المسيحية في العصور الوسطى كانت تخلط هي أيضاً، وبرغم عبارة السيد المسيح السابقة ، بين الزماني والروحاني ، مازال قائماً في العالم الإسلامي اليوم . ( من حوار فؤاد زكريا مع جاك دوكان في مجلة "لوبوان" الفرنسية ، عدد 25 مارس 1991 ).

علمانية متصالحة

والحق أن فؤاد زكريا يدعو إلى علمانية متصالحة مع الإسلام، ودون ان يستبعد أحدهما الآخر، وربما كان ذلك هو السبب وراء إعجابه الشديد بالزعيم مصطفى النحاس، الذي كان طوال الربع قرن السابق على قيام ثورة 1952 أهم شخصية سياسية في مصر، فقد كان علمانياً حقيقياً ومسلماً ورعاً في أن واحدا، وظل يحظى بالأغلبية الساحقة من أصوات الشعب في كل مرة يتقدم فيها للانتخابات ، حينما كانت حرّة بحق، وكذلك كان الحال بالنسبة إلى جمال عبدالناصر، برغم عدم إعجابه به، فقد كان هو ايضاً متديناً بعمق، وعلمانياً بصراحة، معنى هذا كله أن هناك في مصر نظاماً علمانياً لا يعادي الإسلام ، ولا ينكر دوره المهم في حياة الأفراد الخاصة، وأن هناك تصالحاً أو تعايشاً سلمياً بين الطرفين لا تزعزعه إلا جماعات الإسلام السياسي ، التي تريد الحكم باسم الإسلام، دعوة فؤاد زكريا إلى العلمانية هي إذن وباختصار دعوة إلى علمانية معتدلة.

ولئن كان فؤاد زكريا يسلم باتهام الإسلاميين للعلمانيين بأنهم يعانون من اغتراب ثقافي، أي اغتراب في المكان ، بمعنى أنهم لا ينتمون إلى ثقافة بلادهم على نحو يشعرون معه أنهم غرباء في أوطانهم، وذلك نتيجة لوقوعهم تحت ما يسمّونه بالغزو الثقافي، مما يهدد وجودهم الأصيل وهويتهم الحقيقية- لئن كان يسلم بهذا الاتهام، فإنه يأخذ بدوره على الإسلاميين أنهم يعانون من اغتراب أخطر وأشدّ، لا يقع في المكان، بل في الزمان، ذلك لأنهم يبحثون في الماضي القديم عن حلول لمشكلات معاصرة، فالقدماء، أو التراث القديم كله كان عاجزاً عن تخيّل ما سوف تكون عليه مشكلاتنا في الوقت الحاضر، مثلما تعجز اللغة القديمة عن تسمية منتجات العصر التكنولوجية . لكن يبقى في النهاية أخطر الانتقادات التي يوجهّها فؤاد زكريا إلى الإسلاميين وأكثرها تعبيراً عن نظرته الفلسفية ، وهو ذلك الذي يذهب فيه إلى أن الإسلاميين حينما يعتقدون أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة ، وأن غيرهم من أصحاب الآراء المغايرة ينتمون جميعاً إلى حزب الشيطان، إنما يكشفون عن نزعة فاشية غير خافية، لأن الذي يؤلف ماهية الفاشية رفض الحوار، ورفض الاختلاف في الآراء وتعدّدها، ورفض التفاوض ، والاعتقاد الجازم بأن الحقيقة مطلقة وليست نسبية . خلاصة القول، أن فؤاد زكريا يثبت من خلال فعل الكتابة، أي كتابة مؤلفاته بشقيّها الأكاديمي والعملي أن العقل حاضر وفاعل في قلب مشكلات واقعنا، وهو يدفع قارئه بذلك إلى مشاركته في الفعل الأكثر أهمية ألا وهو التفكير النقدي ، حتى- ويا حبّذا- لو مارس ذلك الفعل على مؤلفاته هو نفسه، فلم يزل شعار هذا النمط الفريد من المفكرين يقول : "إن خطيئة التفكير خير ألف مرة من براءة اللا تفكير".

 

محمود رجب

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




من مؤلفات د. فؤاد زكريا