أفكار حول العلم والحضارة والإنسان

أفكار حول العلم والحضارة والإنسان

سوف تستدرجنا السنوات القليلة القادمة لقراءة فؤاد زكريا ومراجعة أفكاره من جديد

في مقالة " نظرتنا للغرب ذلك المتآمر الأزلي" ، أظهر فؤاد زكريا هدفه الذي كان يسعى إليه من الكتابة في مختلف القضايا حين قال : " فقضية التنبيه إلى أخطائنا العقلية كانت هي الشغل الشاغل، والهم العظيم لكاتب هذه السطور في العقدين الأخيرين على الأقل " ( مجلة العربي- (415)- 1993 ) .

فما الذي حدث للعقل العربي في هذين العقدين .. أو قل في الربع الأخير من القرن العشرين؟ وما الذي كان يشغله من قبل؟

إن معظم مقالات ومؤلفات فؤاد زكريا في تلك الفترة، مثل : " آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة".. "خطاب إلى العقل العربي".. "العرب والنموذج الأمريكي" .. الصحوة الإسلامية في ميزان العقل".. "الحقيقة الوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة".. "الثقافة العربية وأزمة الخليج" وغيرها ، تكشف عن فكرة أساسية وهي : أن أغلب القضايا المثارة في ثناياها، كان يفترض أن يكون النزاع حولها قد حسم منذ عهد مضى، وأن هذه المجموعة البسيطة من الأفكار والمفاهيم المتناثرة في كتاباته، كان ينبغي أن تكون قد استقرت لدينا منذ ما يقرب من القرن.

وهنا يبدو بوضوح "المأزق" الحقيقي الذي تعرض له أكبر مشروع ثقافي للتغيير الاجتماعي في القرن العشرين، الذي لم يتوافق أبرز فرسانه ( في النصف الثاني من القرن ) مع حركة التاريخ في المجتمع العربي، ومع هذا، أصّر في شجاعة على الإمساك براية العقلانية والتنوير، والإبقاء عليها مرفوعة عالياً ، رغم عواصف المتعصبين وسطوة المتعملقين.

فقد أجبرته الانكسارات والارتدادات للعقل العربي في الربع الأخير من هذا القرن، على إعادة مناقشة الأسئلة والقضايا نفسها التي بدأنا بها القرن، ومن ثم تفنيد الأخطاء العقلية نفسها التي كان يفترض أن نكون قد تجاوزناها، وهذا كله وسط مناخ غير ممهد على الإطلاق.

والواقع أن فؤاد زكريا كان من أوائل المفكرين الذين استشعروا "حجم المأساة" مبكّراً، بعد أن شهد في عقد واحد( 1967- 1977 ) التحولات والانقلابات الدرامية العنيفة التي زلزلت ركائز هذا " العقل " ومنجزاته : هزيمة يونيو 67 ، حرب أكتوبر 73 ، تصاعد المد الديني وضرب قوى اليسار، زيارة الرئيس السادات لإسرائيل ( في نفس العام 1997 ) ، حيث اختلطت الأوراق ، وتبدّلت أماكن اللاعبين، واشتدت القيود المفروضة على المثقفين الجذريين، مما دفع معظمهم إلى المنفى ( الاختياري) خارج مصر، أما الذين بقوا في الداخل فكانوا يعيشون منفى من نوع آخر، وأصبح لسان حال الجميع قول الشاعر الفلسطيني الكبير " محمود درويش" : ( الوطن ليس دوماً في الوطن، والمنفى ليس دائماً في المنفى ).

ففي 9 مايو عام 1977 ، كتب فؤاد زكريا مقالاً قصيراً في مجلة "روز اليوسف" ، تحت عنوان " أزمة العقل العربي" ، جاء فيه : " الظروف التي يعمل فيها المفكرون تتجاوز قدراتهم ، فنحن نلتزم جانب الحذر في تعبيراتنا ، ونقول شيئاً ونخفي أشياء، ونعبّر عن أنفسنا بطرق ملتوية، ونفكر دائما في الأصداء المحتملة لما نكتبه، والقيود التي تكبّل العقل العربي من جميع جوانبه منعت وصوله إلى مرحلة التحرر، وكلما ازداد هذا العقل اقتراباً من مناقشة الجذور العميقة التي يعيش عليها المجتمع، اشتدت القيود التي تمنعه من الحركة، ومن المستحيل أن يصل إلى مرحلة التحرر إلا إذا استطاع أن يناقش الجذور".

البحث عن مخرج

كان فرسان هذا المشروع، الذي ضم أجيالاً عدّة من المثقفين الكبار، راح كل منهم يبحث عن مخرج منذ أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات ، فسارع لويس عوض إلى التعبير عن موقفه العلماني "عملياً" بتقديم استقالته من حزب " الوفد " الذي تحالف مع بعض الجماعات الدينية في انتخابات عام 1984 .

أما من الناحية النظرية، فقد نشر سلسلة من المقلات في مجلة " المصور" عرض فيها قصة العلاقة بين الدين والدولة ، كما عرضها العالم المسيحي في الانتقال من العصور الوسطى إلى عصر النهضة الأوربية، ليخلص في النهاية إلى أن الفكر الأوربي لم يتحرر إلا بعد أن خلع عن نفسه نير الوصاية الكنيسية.

وجمع عوض هذه المقالات في كتابه عنونه بـ " ثورة الفكر في عصر النهضة الأوربية" ( صدر عن مركز الأهرام للترجمة والنشر عام 1978 ) قال فيه : " كنا في جيلي ، كلما رأينا قصوراً في الحياة المصرية، ننظر وراءنا في غضب ونبحث عن الحلول في التاريخ الأوربي منذ عصر الثورة الفرنسية، أي منذ عام 1789 ، بقصد الاستفادة من تجارب الأمم الأخرى.

لكن يبدو أن حركة المجتمع العربي تدفعنا الآن إلى التراجع قروناً إلى الوراء ، حتى تجعلنا نقترب من العصور الوسطى، تدفعنا إلى نحو عام 1500 ، أو ربما قبل ذلك في بعض الأمور وهكذا غدا علينا أن نرى كيف خرجت أوربا الحديثة من العصور الوسطى، بينما كتب على عالمنا العربي أن يطول مخاضه، وأن يتعسّر فيه ميلاد الحياة الجديدة، وكلما تجدد في أوصاله إكسير الحياة والنماء حاصرته جراثيم المرض والهزال ( ص- 73 ) .

وليس مصادفة أن يصدر في الفترة نفسها السندباد حسين فوزي كتاباً سمّاه على استحياء " تأملات في عصر الرينسانس" ، وأن ينشر زكي نجيب محمود مقالاته في جريدة الأهرام عن "العلمانية"، وهل هي بكسر العين أم بفتحها؟ ، وأن يحاضر فؤاد زكريا عن "النهضة الأوربية والنهضة العربية " ثم ينشر هذه المحاضرة في كتابه فيما بعد.

أما توفيق الحكيم- أكبر الفرسان سنّاً- فقد خانته مهارته في المراوغة لأول مرة، واشتبك بالفعل مع أبرز رموز الإعلام الديني في مصر والعالم العربي وقتئذ، على صفحات جريدة الأهرام، وتكشف الرسالة التي بعث بها إلى لويس عوض في أوائل الثمانينات ، ونشرها عوض عقب وفاة الحكيم ( 1987 ) في الجريدة نفسها، عن تشاؤمه الشديد عن إمكان استمرار المشروع العقلاني المستنير الذي ناضل من أجله.

وبلور فؤاد زكريا ذلك كله ( فلسفيا ) حين قال بأن " العلمانية في الربع الأخير من القرن العشرين أصبحت سلبية، وأمام سوء الفهم والضجة التي أثارتها لفظة " سلبية ، اضطر زكريا إلى توضيح فكرته ، بقوله :"إن العلمانية لا تكشف لنا عن الطريق الذي ينبغي أن نسير فيه ، وإنما تشير بوضوح إلى الطريق الذي ينبغي أن نتجنبه ثم تترك لنا بعد ذلك حرية اختيار المسير".

ففي بداية القرن العشرين، كانت العلمانية مشروعاً متكاملاً، يقف مواجهة مشروع إسلامي آخر، كان موجوداً بصورة أكثر تواضعاً وأقل عنفاً وعدوانية، وتركت العلمانية أثرها في أجيال عدّة ( لطفي السيد ، سلامة موسى ، طه حسين، لويس عوض، زكي نجيب محمود ، فؤاد زكريا وغيرهم) ، وهو أثر ضمني ، بل إن جزءاً كبيراً من الثقافة العامة لمصر طوال الثلاثة أرباع الأولى من القرن العشرين كانت تصطبغ بالصبغة العلمانية ، ولا يكاد يوجد مفكر مهم في تلك الفترة إلا وكان له نصيب منها، ولم تكن هناك حاجة للمجاهرة بالعلمانية على اعتبر أنها موجودة ضمناً ، لأنا المواجهة الحادّة بينها وبين التيارات الإسلامية لم تكن قائمة حتى أوائل السبعينات.

ومنذ تلك "اللحظة" لم تعد العلمانية تقدم مشروعاً متكاملاًن ومن ثم فهي " سلبية" بمعنى أنه من الممكن أن تكون ماركسياً وعلمانياً في الوقت نفسه، أو قومياً وعلمانياً في آن واحد، وهكذا، فالذي يجمع بن كل هذه الاتجاهات، والذي يجعل العلمانية قاسماً مشتركاً بينها جميعاً هو أن ( الهدف) واحد : بأن تترك التشريع للبشر، وتدعهم يخطئون ويجربون ويصححون ، فالإنسانية لا تتقدم إلا بهذه الطريقة، ولا يوجد شيء اسمه صالح لكل زمان ومكان في مجال الإنسان ، إذ إن الضعف الإنساني هو نفسه مصدر القوة.

تحولات عالمية

بين كتاب " مستقبل الثقافة في مصر " لطه حسين (1938 )، و"الإنسان والحضارة" لفؤاد زكريا ( 1975) ، عقدان من الزمان تقريباً، شهد تحوّلات عميقة، عالمياً وإقليمياً، أبرزها : نهاية الحرب العالمية الثانية ، انقسام العالم إلى معسكرين كبيرين، ظهور الاستقطاب الأيديولوجي والحرب الباردة، زرع إسرائيل في قلب العالم العربي، ظهور حركات التحرر والاستقلال في العالم الثالث، ثورة يوليو 1952 .

أما الصيغ الفكرية التي كانت مطروحة آنذاك ، فقد تمثلت (عملياً) في صيغتين أساسيتين، وهاتان الصيغتان كانتا موجودتين أصلاً منذ نهاية القرن التاسع عشر في مصر، ولم تكن التحولات العميقة التي أشرنا إليها سوى تكريس وتدعيم لهما معاً.

الصيغة الأولى عرفت بـ"التوفيقية" ، أما الصيغة الثانية فهي الابنة الشرعية للأولى، وهي صيغة (إما..أو).

وتستطيع أن ترد "التوفيقية" وما يتفرّع عنها من مسمّيات مثل "الوسطية" و"التعادلية" و"الاتزان" وغيرها، إلى ما قرره الإمام محمد عبده منذ أن دشّن الصيغة التوفيقية قبل قرن ( من الآن ) إذ قال : "ظهر الإسلام لا روحياً مجرّداً، ولا جسدانياً جامداً، بل إنسانياً وسطاً بين ذلك، آخذاً من كل القبيلتين بنصيب، ثم لم يكن من أصوله ( أن يدع ما لقيصر لقيصر ) بل كان من شأنه أن يحاسب قيصر على ماله ويأخذ على يده في عمله " . ( الإسلام والنصرانية بين العلم والمدينة، ط3 ،دار الهلال 1959 ، ص- 95 ).

غير أن هذه التوفيقية لم تكن- في التحليل الأخير- توفيقاً متوازناً أو متكافئاً بين طرفين، وإنما كانت في حقيقتها ، انحيازاً وتغليباً وترجيحاً لطرف على حسبا الطرف الآخر، وإخفاء هذا الانحياز والترجيح خلف قناع ظاهري، ناهيك عن التوتر الخفي الذي ظل كامناً داخل الصيغة التوفيقية، ، حتى حانت الفرصة، وبرز في العلن ذلك الانشطار الحاد بين عنصري المعادلة.

وظهر ذلك مبكّراً في صورة تيارين متعارضين انشقت عنهما توفيقية " الإمام" على أيدي تلامذته، فسار الشيخ رشيد رضا في اتجاه سلفي حنبلي النزعة ، وسار لطفي السيد وقاسم أمين وطه حسين في اتجاه ليبرالي علماني.

وتبلور هذا الانشطار أخيراً في صورة المواجهة الحادة منذ أوائل السبعينات بين التيارات الإسلامية وأنصار المشروع العلماني . ( راجع الدراسة الرائدة للدكتور محمد جابر الأنصاري : الفكري العربي وصراع الأضداد ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ، ط1 ، 1996 ) .

بيد أن التكوين الفلسفي لفؤاد زكريا ومزاجه النقدي فضلاً عن حسّه التاريخي، كان يأبى الصيغتين معاً، ومن ثم كان لأبد من البحث عن مخرج : لا هو توفيقي ، ولا هو ( إما .. أو ) ، وهنا تحديداً سنعثر على أهم " لحظة " من اللحظات المضيئة النادرة في منتصف القرن العشرين، وهي لحظة لم ندرك بعد أبعادها أو مدلولاتها ، لأننا ببساطة لم ندرسها حتى الآن.

فقد كانت هناك صيغة أخرى طرحت على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي في منتصف القرن، وهي صيغة "التحرر والاستقلال" ، التي وجدت طريقها إلى التطبيق في بعض الأمور مع ثورة يوليو 1952 ، إلا إن القوى الدولية أو قل النظام الدولي السابق لم يسمح للزعيم جمال عبد الناصر باستكمال تجربته حتى النهاية، وهو ما فعله النظام الدولي الأسبق مع تجربة محمد علي أيضاً .

الفكر والواقع

كان فؤاد زكريا في الثلاثين من عمره حين أصدر كتابه " الإنسان والحضارة"- لاحظ دلالة العنوان- الذي صفى فيه حساباته مبكّراً مع الصيغتين الفكريتين المطروحتين في النصف الأول من القرن العشرين، وسعى إلى تأصيل صيغة "التحرر والاستقلال" على مستوى الفكر والثقافة، التي ظلت على مختلف المستويات الأخرى مجرد "شعار"! ،.. وكأنه على موعد مع "نيتشه" الذي لم تبق من أقواله في أذن فؤاد زكريا سوى عبارة "كن نفسك".

وتلك كانت مفارقة، تسترعي الانتباه والتأمل، بين (الفكر والواقع) في هذا المنعطف التاريخي، إذ إن من آمن به فؤاد زكريا وسعى إلى تأصيله بالفعل كان يتناقض عملياً مع مجريات الأمور في الواقع المصري الذي (أبى) بدوره أن يتنازل عن الصيغة التوفيقية أو صيغة ( إما .. أو)!

ففي عام 1957 كان عبد الناصر قد تقلد مقاليد السلطة بالفعل، وكان قراره الشجاع بتأميم " قناة السويس"، وهو ما ألب عليه القوى الدولية بالعدوان الثلاثي على مصر 1956، الذي خرج منه منتصراً على المستوى السياسي والشعبي كأهم زعيم عربي في المنطقة، وتلك كانت المنطقة الخلفية التي ظهرت فيها كتاب " الإنسان والحضارة" الذي ضمنه زكريا مجمل أفكاره ورؤاه ومواقفه من مختلف "الثنائيات" القائمة (كانت الثورة نفسها تضم أجنحة متباينة من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين).

وبذكاء شديد اختار زكريا موضوعاً فلسفياً كان مطروحاً على بساط البحث، وهو التفرقة بين ( الحضارة ) و ( المدنية) ، في حين أن المفكرين السابقين عليه أو المعاصرين له ل تكن تشغلهم قضية " التعريف" بقدر ما شغلتهم إشكالية المحتوى، يقول زكريا : " الحضارة والمدنية مترادفان، لا سبيل إلى وضع حد فاصل بين المجالين- هذا الرأي هو ما نرجحه في النهاية".

( ص- 12 ) " إن فكرة ( الثنائية ) كامنة وراء مثل هذه التفرقات بين الحضارة والمدنية، بين وجهين للنشاط الإنساني : وجه روحي خالص ، ووجه يتصل بالمادة ، والاعتماد على هذه ( الثنائية) في توضيح معنى الحضارة يؤدي إلى عكس المقصود منه " ( ص- 17 ) .

لذا " فالأجدر بنا أن نستخدم لفظي الحضارة والمدنية بمعنيين متقاربين، وأن نؤكد وجود اتصال مباشر بين الأوجه العملية لنشاط الإنسان وبين الأوجه الثقافية والروحية الخالصة له، فنشاط الإنسان لا يسير في طريقين منفصلين . وما دمنا نتحدّث في مجال الحضارة، فعلينا أن ننظر في أفعال الإنسان على أنها تكون في مجموعها وحدة متصلة الأهداف مشتركة وتأثيراتها متبادلة " _ ص- 19 ) .

عند هذه النقطة أو قل " النتيجة" ، يبدأ زكريا في توجيه ضرباته المتتالية لمختلف الثنائيات وعينه على المجتمع المصري، فتجده يناقش العلاقة بين ( الفرد والمجتمع ) ومشكلة المساواة فيقول : "علينا أن نؤكد أن الناس يتفاوتون بالفعل في مواهبهم وقدراتهم، وأن هذا التفاوت يظل قائماً حتى بعد أن تتاح لهم فرص متكافئة تماماً في نقطة البداية ، فمن الواجب إذن أن يعاملوا على نحو يتناسب مع هذه القدرات.

غير أن هناك مطالب أساسية لهم لا ينبغي المساس بها مهما كانت الظروف، بل يجب أن تسود- بالنسبة إلى هذه المطالب الأساسية- مساواة مطلقة بين الجميع، ما دامت هذه الحاجات ضرورية لهم لمجرد كونهم آدميين، ولاشتراكهم مع الباقين جميعاً في صفة الإنسانية" ( ص- 144 ).

ويقول عن "المادية والروحية" : "إذا شئنا أن نعبّر تعبيرا دقيقاً عن العلاقة الحقيقية بين ما هو مادي وما هو روحي في الإنسان لقلنا إن المجالين متداخلان تماماً، لا يمكن تصوّرهما منفصلين، بل إن أي محاولة لإيجاد فصل قاطع بينهما تؤدي إلى تشويه طبيعتهما . والخطوة الأولى نحو الروحية في الإنسان هي الاهتمام بالمشاكل المادية" (ص :151- 152 ) .

وفي العلاقة بين ( الغرب والشرق ) يؤكد على " إن حضارتنا في الشرق سوف تظل متخلفة عن ركب الحضارة العالمية طالما ظللنا متمسكين بوهم "الروحانية" هذا، وليس معنى قولي هذا الحط من قدر القيم الروحية، أو الاستخفاف بها، بل إن السبيل الأول إلى العلو بالمعاني الروحي في الإنسان، هو اهتمامه بمشاكله المادية وسعيه إلى حلّها" (ص : 152- 153 ) .

ويختتم كتابه بقوله : " الخدعة القديمة التي وقعت فيها الإنسانية زمناً طويلاً هي أن الناس يعتقدون أن بين الوجه المادي والوجه المعنوي لنشاط الإنسان تضاداً أساسياً، وأن الاهتمام بأحدهما يستبعد الاهتمام بالآخر" (ص-155).

تستطيع بشيء من الجهد والصبر أن تعيد قراءة فؤاد زكريا وتراجع أفكاره ، وأن تقيّم مواقفه ومعاركه في النصف الثاني من القرن العشرين، في ضوء ما تقدم ، بل تستطيع أن تتبين موقعه بوضوح داخل المشروع العلماني نفسه، فـ"فؤاد زكريا" لم يقل ( علينا أن نصبح أوربيين في كل شيء) ، ولم يبحث عن ( الحلول في التاريخ الأوربي) حتى لو بقصد الاستفادة من تجارب الأمم الأخرى، ولم يدع إلى (التعادلية) ، ولم (يتعرّج) أو ( يسير من النقيض إلى النقيض) ، بل ستجده دائماً يطوّر أفكاره الخاصة، وينتقل بها من طور إلى طور في هارمونية سيمفونية تتصاعد فيها الأنغام وتهبط تبعاً للواقع الذي يعيش فيه.

وستجد أيضاً أن الانتقادات التي وجهها إلى بعض رموز العلمانية في الثقافة العربية كانت أعنف مما وجهه إلى التيارات الإسلامية، والسبب واحد وهو أنه يرفض رفضاً قاطعاً "التبعية والتقليد" ، فإذا بدأنا بالقول بأنه سوف ينصلح حالنا في اللحظة التي نتابع فيها آراء السلف الصالح، أو نقلد فيها "الغرب" ، فإن القضية لا تعدو أن تكون مجرد تناقض في الألفاظ، كما أن إجراء أي مقارنات بين فترات زمنية تفصلها مساحات عريضة من الوقت ، وتفصلها أيضاً تجارب سياسية واجتماعية مختلفة، مغالطة علمية وتاريخية، فضلاً عن المخاطر والمزالق التي تكتنفها، والتي تؤدي إليها أيضاً.

نحن والحضارة الأمريكية

ففي عام 1980 ، وفي ذروة الهيام بالصديق الأمريكي في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، كتب فؤاد زكريا "لقد أصبحت الوصفة غاية في البساطة، أمريكا بنت نفسها في قرنين من الزمان، وأصبحت أعظم بلاد العالم. إذن فاتباعنا للنموذج الأمريكي سوف يجعلنا بدورنا عظماء متقدمين، وسينقلنا من الفقر إلى الغنى، ومن الضعف إلى القوة، هذه العقيدة الجديدة لا توجد فقط في عقول بعض الزعماء بل تتسرّب بشتى الوسائل إلى عقول الناس العاديين" (العرب والنموذج الأمريكي) ، دار الفكر المعاصر، ويقول في موضع آخر " هذا هو المنطق نفسه الذي كان سائدا في أوساط المثقفين منذ بداية العصر الحديث، منذ الطهطاوي في كتابه " تخليص الأبريز" إذ إن أوربا حققت حضارتها بفضل اتباع أساليب معينة، ولا بد أن تلك هي الوصفة الأكيدة للنجاح والتقدم لكل مجتمع يريد ذلك".

ولعل هذا ما يفسّر لنا انتقادات زكريا الحادة لأصحاب التوكيلات الفكرية الغربية- على امتداد القرن- فهذا "وجودي" وذاك "وضعي"، وثالث "مثالي" ... وهكذا.

وفي مقالة "ثقافتنا الذين يزداد اعتمادهم يوماً بعد يوم على تلخيص الكتب الغربية وتقديمها إلينا على أساس أنها جهدهم الخاص، بذلك فهم لا يساهمون في (تحريرنا) بقدر ما يزيدون من اعتمادنا على ثقافة الغير". (مجلة العربي- (302 )- 1984 ).

هكذا سنعود من جديد إلى صيغة (التحرر والاستقلال) التي ما انفك يناضل من أجلها، تلك التي تعني في جوهرها (الإبداع)، فالحرية والاستقلال الشرط الشارط للإبداع ، ولا يوجد إبداع دونهما.

إن قراءة فؤاد زكريا النقدية لأغلب توجهات الفكر العربي، والقضايا والإشكاليات الفكرية التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من بنية العقل العربي، جعلته يلح على إحلال إشكالية "الاتباع والإبداع" مكان أكبر إشكالية قتلت بحثاً على مدار القرن ( الأصالة والمعاصر)، ويرى : "إن التحدي الحقيقي الذي نواجهه ليس اختياراً بين الرجوع إلى الأصالة أو مسايرة العصر، وإنما هو إثبات (استقلالنا) إزاء الآخرين، ساء كان هؤلاء الآخرون معاصرون أم قدماء، وابتداع حلول من صنعنا نحن، تعمل حساباً لتاريخنا وواقعنا، وتكفل لنا مكاناً في عالم لا يعترف إلا بالمبدعين" ( خطاب إلى العقل العربي- ص :23.

والإبداع عند فؤاد زكريا ليس تنظيراً عاجياًن بل كان سلوكاً واتجاهاً عملياً وخطة سار عليها سواء في مقالاته أو دراساته أو ترجماته، فهو يلعب دائماً على قيثارة الفكر وفايولينة الفلسفة، بأنامل الفنان وقوس المبدع، وما زال "فؤاد" ينبض.

 

عصام عبدالله

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




من مؤلفات د. فؤاد زكريا