" شقة الحرية " حوارية النصوص والأشكال الخطابية

" شقة الحرية " حوارية النصوص والأشكال الخطابية

"شقة الحرية" هي تجربة الدكتور غازي القصيبي الروائية الأولى والمقال يكشف عن جانب من تقنياتها الإبداعية ليناقش حوارية النصوص والأشكال الخطابية فيها في قراءة سابقة لـ" شقة الحرية" ، أشرت إلى أن من بين السمات المائزة لهذا العمل والمحددة لهويته العميقة هي كثرة وتعدد النصوص التي يتكون وينبني منها، متنا وهوامش، رغم أن كلا منها يحيل إلى جنس أو شكل خطابي خاص، فالحكاية الهيكل أو "الإطار" لها كل سمات قصة الرحلة التعليمية الموثقة زمنياً ومكانياً ( تاريخياً وجغرافياً ) ومعها أو في سياقها يحضر الشعر والقصة القصيرة والرسالة والحوار الجدلي أو الدرامي ، أكثر من ذلك ، فإن هذه النصوص أو الأشكال الخطابية تلحقها هي ذاتها سمة التنوع والتعدد، فالشعر تقليدي أو حديث ، ويعود للروائي "الشاعر" أو إلى غيره ( المتنبي ) ، والقصص القصيرة العشر تتمايز من حيث الأساليب والتيمات، فهي إما واقعية أو سيكولوجية أو ترميزية اليجورية، ويكتبها فؤاد "القاص" المتميز أو عبدالرءوف. والرسائل تتوزع ما بين رسائل عائلية ووسائل عاطفية غرامية، ولكل منها تيمة وأسلوب، كما تتوزع بين النثري والشعري، المقيد والحر أو التفعيلي إذ يكتبها فؤاد "الشاعر" وليلي الخزيني الشاعرة هي كذلك، والحوارات منها الفكري الجاد والأدبي النقدي المراوح بين الجد والهزل والحوار الاجتماعي العادي الذي يحيل إلى "ثرثرة الحياة اليومية" بكل ما يخترقها من هواجس وقضايا بسيطة أو مبتذلة. هكذا يظهر من القراءة الوصفية الأولية أن سمات ودلالات التعددية في الأصوات والأشكال والخطابات تتحقق في هذا النص بكل مستوياته ومن أي منظور قاربناه . فالكاتب هنا لا يبدو مبدعاً أو مبتكراً خالقاً للنص بقدر ما هو "مؤلف" بين مجموعة من النصوص التي بينها من الاختلافات ما يجعل من عملية التأليف بينها في نص واحد منسجم تبدو وكأنها التحدي الرئيسي الذي واجهة الكاتب وهو يختار إنجازا مغامرته الروائية الأولى بهذا الشكل تحديداً، لكن هذا التحدي نفسه يجابه القراءة النقدية، إذ ما إذ تعاين هذه التعددية من منظور أو تصّور مسبق لما يفترض أو يتعين أن تكون عليه الكتابة الروائية حتى تفسّرها وتؤولها كظاهرة "سلبية" فنياً أو فكرياً ، بعكس القراءة التي تجد في هذه التعددية غير المألوفة دليل وأثر مغامرة إبداعه حرة ومتحررة من سلطة أي نموذج سائد، وهذا تحديداً هو ما تبنيناه كفرضية في القراءة المشار إليها أعلاه وهو ما يشكل منطلق القراءة الراهنة.

فهذا المظهر العادي هو ما يؤمن لهذه الرواية حواريتها العميقة إذ إن بين هذه النصوص والأشكال الخطابية تعالقات بنائية ودلالية كثيرة أو "متعددة" ولن نتمكن هنا من تحديد وتحليلها في مجملها، بل سنركز على ما يبدو لنا الأهم من وجهة نظر هذه القراءة الحوارية.

فمن المنظور الشكلي العام للنص لابد أن كثرة وتنوع هذه النصوص تتحول إلى عناصر بنائية تثري وتغني النص الروائي شكلياً ودلالياً، كما أنها تكسر رتابة السرد المتصل لحكاية الرحلة التعليمية "السيرية" الموثقة زمنياً ومكانياً بشكل "دقيق" ، وتعمل من جهة رابعة على تأمين المسافة الفاصلة / الواصلة بين ما هو "ذاتي" وما هو "غيري"، أي بين ما تدل قرائن نصيّة وخارج نصية على أنه يعود إلى سيرة الكاتب / الشاعر الخاصة ، وما يعود إلى فضاء المتخيل الممكن والفنتازي غير- الشخصي بالضرورة.

أما حين تنتقل القراءة إلى الوظائف والدلالات الأكثر عمقاً وخفاء، فإنه بالإمكان أن نستكشف ونحدد كيف يؤمن كل نص جزئي بعداً حرارياً خاصاً في إطار النص الروائي العام الذي ينتمي إليه من منظور تميّزه و "اختلافه" تحديداً.

فالنصوص الشعرية الاستهلالية لم تعد تنتسب إلى المتنبي إلا بقدر ما تنتسب للكاتب الروائي / الشاعر، بل إنها لا تنتمي ، من منظور آخر ، إلى أي من هاتين الذاتين البشريتين- الخارجيتين بقدر ما تنتمي إلى ذات النص الذي يستقل بوجوده و "حياته " عن كل ما هو غيره.

الخطاب الشعري الروائي

فالخطاب الشعري يتميز، كما أشار إليه باختين ، وغيره بالتأكيد بأحادية الصوت والتفرّد واللزوم والمحو لنوايا الآخرين فيه وبه، أي بكل ما هو مونولوجي ، أو بلغة هيدجر، بكل ما هو إنصات عميق وصموت للكائن في المكان والزمن، لكنه يكتسب هنا، ومن منظور وجوده في النص الروائي "النثري" ، المزدوج أو المتعدد الأصوات والأساليب ، بعض السمات والوظائف "الحوارية" التي تنتقل إليه حتى بالعدوى والمجاورة، فالاختلاف بين النمطين أو الجنسين القوليين يتحول في سياق كهذا إلى شرط ومولد للحوارية، لأنهما أصبحا جزءً و عنصراً في نص آخر يقبل الجمع بينهما ، ويتسع لأنماط وأجناس قولية غيرهما كما هو معروف. وهذه الحوارية تتعزز في مستوى آخر، إذ إن هذا الشعر "الغيري" يحضر في هامش النص العام ( في مفتتحه) وفي هوامش النصوص الداخلية ( في بدايات كل جزء من أجزاء قصة الرحلة التعليمية) ، لكن نصوصاً شعرية أخرى ( ذاتية هذه المرة) تحضر في صلب المتن الروائي، وهذا الحضور قد يبدو لعبة كتابية تكشف عن قدرة الروائي/ الشاعر على التوفيق الحواري بين ماضيه الشعري، من جهة ، وحاضره ومستقبلة الروائي من جهة ثانية، أي بين طريقتين للكتابة، وبين رؤيتين للعالم، وإعادة تشكيل وصوغ لصورته، مرة كما تتراءى في مجال المخلية، ومرة كما ترى في مجال الوعي والفكر، أي سياق الرؤية الشعرية الحلمية مرة، وفي سياق الرؤية الفكرية الواقعية أو الموضوعية مرة ثانية.

أما من المنظور، أوالمستوى الدلالي ، فلا شك أن حوارية الشعري والنثري تتعدد وتتنوّع بشكل لا تستطيع القراءة الواحدة وحدّه وحصره، فكل بيت شعري، يرد في موقع استراتيجي دائماً وهو البدايات ، ليعين ، بطريقة الاستباق ، الاتجاه الدلالي العام لما بعده ، والتعين هنا لا يعني " التحديد" وإنما توجيه القارئ وقراءته إلى أفق معين ، فالحكاية المركزية في الرواية تحيل إلى الماضي، إلى زمن الدرس والطلب، زمن الشباب والأحلام الكبيرة، ولذا فمعظم الأبيات الشعرية تنتمي إلى شعرية الحنين إلى الماضي الذي يمضي ويذهب باستمرار، وهي شعرية عريقة جداً في مدونتنا كما نعلم، أما الكتابة السردية، فقد أنجزت في فترة متأخرة نسبياً من العمر، وفي أماكن وأزمنة غير تلك التي يتجه إليها الحنين مما يدل على أن عملية الكتابة كلها مؤسسة على لعبة اتصال وانفصال ، يمكن معاينتها باعتبارها لعبة "حوار" بين المتعدد والمختلف من الأزمنة والأمكنة المفقودة والتي لم يعد من الممكن استحضارها إلا كآثار في ذات الأثر ، النص.

تعددية الدلالات

وباختصار ، يمكننا القول أننا إننا هنا أمام تعددية حوارية أو "حوارية متعددة المظاهر والدلالات" بين الذات والذات ، بين الذات والغير، وبين هذه الذوات"الكاتبة المبدعة" القادرة أكثر من غيرها على صوغ العالم وتعديد أو "تكثير" أشكاله وصوره لأن الأمر يتعلق هنا، في مستوى الكتابة الإبداعية المتعددة ، بمعالم وأشكال وصور حضورها فيه، ولقد أفضت قليلاً في كشف أبعاد الحوارية بين الشعري والنثري لأنني سأضطر إلى الاختصار والتركيز عند مقاربة الأبعاد الحورية للأشكال والأساليب الخطابية الأخرى في هذا النص، والمقام هو المبرر لهذا الاختصار أو "الاختزال" المخل ولابد .

فتلك النصوص القصصية القصيرة، لابد أنها تؤمن تعالقات شكلية ودلالية كثيرة بين الشعري والنثري باعتبارها أقرب الأشكال السردية إلى الشعر ، هذا فضلاً عن أشكال التعالقات فيما بينها هي ذاتها، أو بينها وبين مقاطع النص وأجزائه ، فهذه النصوص ترتبط دلالياً بما قبلها وما بعدها، إذ إنها دائماً مسبوقة أو متبوعة بحوارات بين الشخوص التي تكتبها ( فؤاد ورءوف) تكشف عن تحفيزاتها وتبين قيمتها التفسيرية- التأويلية بالنسبة للمقاطع والأحداث التي ترد في سياقها مما يدل على أن تعددية مواقعها وأساليبها وقيماتها منبثقة عن استراتيجية كتابية واعية لهذه الوظيفة، أو لهذا البعد الحواري تحديداً.

كذلك الرسائل التي تنبني في مجملها على مبدأي " الغياب " و "البعد" ، في الزمن والمكان، اللذين يتحولان إلى عائق اتصالي بين طرفين يفترض أهمية الاتصال بينهما، وربما ضروريته ، فيأتي النص أو الكتابة الرسائلية لتجاوز هذا العائق، هذه الرسائل تدخل مباشرة من هذا المنظور البنائي لتصبح عنصراً ينوّع ويعمّق و"يعدد" السمات الحوارية للنص ككتابة مسكونة بهاجس الاتصال والانفصال كما رأينا، فالرسائل العائلية هنا خبرية نفعية شفافة لأنها مكتوبة في سياق المعنى المباشر للاتصال والانفصال. والرسائل الحزبية "النضالية" ذات طبيعة كنائية ملغزة إذ إنها معتمدة على شفرة خاصة لا يعرفها إلا المنتمون إلى الجماعة الحزبية باعتبارها جماعة مغلقة مقموعة، وبالتالي تلجأ إلى هذه اللغة أو "الشفرة" الاتصالية الخاصة التي يفككها ويكشفها النص الروائي ذاته بمعنى ما ، أما الرسائل الغرامية ، فأهم جوانب حواريتها وتعلقها بالعمل الروائي ككل يتمثل " في أدبيتها " التي تبلغ حد الصوغ الشعري الراقي سواء كان تناظرياً أو تفعيلياً.

فمن هذا المنظور الأسلوبي تحديداً ، تظهر هذه النصوص المدمجة في الرواية، وتحديداً في سياق العلاقات بين الشخصية الرئيسية "فؤاد" وشخصية الشاعرة "ليلى الخزيني" كأثر لحضور الكاتب الشاعر في النص الروائي، لا كشخص عادي، وإنما كطاقة إبداعية متعددة المواهب ، متفوقة القدرات . وإذا ما تذكرنا أن اسم "ليلى" أصبح في سياق خطابنا الأدبي بمنزل الاسم- العلم- الرمز لكل عاشق ومعشوق ، فإن حضوره هنا يضفي على النص في مجملة أبعاد حوارية منفتحة على مدّونة شعرية غزلية ، عذرية وحسّية وصوفية، عريقة ومتصلة في تاريخنا الأدبي الرسمي والشعبي.

وعي الكاتب

من جهة الشكل الحواري الجدلي أو الدرامي، فقد لا يمثل حضوره ميزة شكلية أو دلالية بارزة لأنه يمكن أن يحضر في كل رواية وقصة، لكن أهميته ووظيفته الحوارية مؤكدة من منظور تعددية الموضوعات التي يخوض فيها الشخوص الروائية خاصة، أي أنه يعزز مظهر الحوارية في مستوى الأفكار ، أو في مستوى " التصور الذهني" بمفهوم باختين، وسوء كان الحوار فكرياً أو أدبياً راقياً أو جاء عادياً مبتذلاً كجزء من ثرثرة الحياة اليومية ، فالمقاطع الحوارية هنا وهناك تكشف عن وعي عميق لدى الكاتب لا بتعددية واختلاف الرؤى والأفكار والمواقف الأيديولوجية لشخوصه، وإنما بأهمية وضرورية الاعتراف بوجود هذا التعدد وبمشروعية الاختلاف والتكامل بين الثقافات الوطنية " القطرية" وبين الفئات الطبقية الاجتماعية وبين الطائفتين السنية والشيعية، بل وبين المتشدد والمتفتح المتسامح داخل الطائفة الواحدة، وكل هذا يرد هنا لوعي الكاتب بضرورة التفاعل الحواري بين كل الأطراف إذ لا بديل عنه سوى " القمع " أو "التمرد" وربما الصراعات والحروب الأهلية !

هكذا يتضح أن هذه النزعة الحوارية " الليبرالية" لكاتب متخصص أصلاً في الفكر السياسي، تظهر قوية ومركزية في هذا المستوى الدلالي الفكري، لأنه الأخطر من غيره نظراً لعلاقاته المباشرة بإشكالية "السلطة" التي لا تزال إشكالية مركزية في المجتمعات العربية كافة كما لا يخفى على الكاتب ولا على القارئ النموذجي الذي يحاوره النص بصيغ وأساليب متنوعة كما لاحظنا

 

معجب الزهراني

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




من مؤلفات غازي القصيبي





من مؤلفات غازي القصيبي





من مؤلفات غازي القصيبي





من مؤلفات غازي القصيبي





من مؤلفات غازي القصيبي





من مؤلفات غازي القصيبي





من مؤلفات غازي القصيبي