بيتنا العربي: أبطالُنا الجدد

بيتنا العربي: أبطالُنا الجدد

رئيس التحرير
د. سليمان إبراهيم العسكري

تمتلئ أذهانُ أطفالنا بصور أبطال كثيرين، من شخصيات كرتونية ورياضية، وفنية، وربما الإعلام، وهي نتيجة لزخم كبير تقدمه الصور التي تنهمر مثل شلال لا يتوقف، تتدفق خلالها صور هؤلاء ليشغلوا مكان البطولة ومكانة الأبطال.

ليس عيبًا أن يشجِّعَ الأبناء رياضة وأبرع لاعبيها، ولكن العيب أن تختصر معاني البطولة في أضواء الشهرة والمال التي تحيط بهذا البطل أو ذاك.

يتحدثون عن أثمان اللاعبين وأجور الممثلين وقيمة بيع الشخصيات الكرتونية، ولا يتحدثون عن الجهد المبذول لصناعة هؤلاء الأبطال، وهو جهد استثنائي لأنه يتطلب منافسة كبيرة تبذل فيها جهود لساعات من التدريب الدقيق والعمل الشاق.

ليست هناك نقطة نهاية لأحلام أبطالنا الجدد، والمهم هو نقطة البداية، في البيت والمدرسة، وفي وسائل الإعلام.

إننا بحاجة إلى أمرين؛ الأول أن نبين القيمة الحقيقية للبطولة، وهي قيمة العمل والمثابرة والتواضع والطاعة لأوامر المدرب والمعالج، وأن يتولى كل شخص ما يفهمه ويتقن ما يجيده.

لكن الأمر الثاني والأهم هو أن تدخل حياتنا منظومة جديدة لأبطال جدد، من التاريخ القديم والمعاصر، في الآداب والعلوم مثلما هم في الفنون والرياضة.

هؤلاء الأبطال الجدد هم من سنعوِّل عليهم في دفع أبنائنا وبناتنا للعمل، ليكونوا علماء مبتكرين، وأدباء مرموقين، وأطباء متميزين وكذلك رياضيون وفنانون مشهورون بجهدهم وجديتهم.

---------------------------------------

  • تراث: إعادة التأهيل الشعبي لفنون التراث اللبناني

د. فردريك معتوق
عميد معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية

عندما يأبى التراث الشعبي لأمَّة ما التغيّر، يتحوّل إلى فولكلور، أي إلى أشكال احتفاليّة موروثة لا علاقة لها بالحياة اليوميّة والعمليّة الراهنة. وهذا حال عدد لا بأس به من الفنون الشعبيّة في الغرب، حيث يتذكّرها الناس عن بُعد، دون التفاعل الحيّ معها، فتدخل المتاحف أو الفولكلور وعصر التحنيط الثقافي. في المقابل، في العالم العربي هناك تواصل لافت بين عدد كبير من الفنون الشعبية والتراثية المنقولة عن الأسلاف والحاضر، حيث لم تتعطل فاعليتها الاجتماعية ولا حضورها الثقافي.

واللافت للانتباه في هذه الظاهرة أنّه حيثما حصلت ونجحت، أتت من تحت، أي من مبادرات شعبيّة، عمليّة وذكيّة، أعادت تركيب الأمور على نحو مختلف عمّا كان عليه في الأصل، فالفنون التراثية هي ملك الناس، جميع الناس، ولا عجب إن قرَّر هؤلاء الناس إدخال التعديل على مسارها، حيث إنهم يتعاملون معها بغيرة معرفية كبيرة، إذ عندما يُعاد تأهيل فنّ شعبي كالدَبْكَة في لبنان، أو حرفة النحاس في مصر أو تونس، أو فنّ الطبخ في المغرب، فهذا يعني أنّ أهل هذه الفنون متمسِّكون بها وبما تعنيه لهم ثقافيًّا وحياتيّا، كما يعني احترامهم الشديد لتراثهم. كما يعني أيضًا أنّ أهل هذه الفنون الشعبية تعاملوا بشكل حيّ مع موروثات الماضي وعرفوا كيف يُبقون عليها بإعادة تأهيلها بحسب مقتضيات العصر وتغيّرات نمط الحياة الجديدة. فالمبادرة إلى هذه العملية كانت شعبيّة وقد شارك فيها الجميع دون أن نتمكّن من أن نعيدها إلى شخص محدَّد أو جهة معيَّنة. وسنحاول في هذه المقالة متابعة هذه الظاهرة كما عاشها ويعيشها اللبنانيّون اليوم، علمًا بأنّ الاستطراد والسَّحب على تجارب عربية أخرى ممكن ومبرَّر موضوعيّا.

فنون الرقص:

الدبكة اللبنانية هي من أقدم الرقصات الشعبية المعروفة في التاريخ، وتنقل هذه الرقصة مخزون حياة أهل الريف الذين كانوا يشكِّلون منذ العصور الفينيقيَّة الأولى حتى نهاية الحرب العالميّة الأولى 90 في المائة من مجموع سكّان لبنان. حيث كانت حياة السواد الأعظم من اللبنانيين حتى زمن قريب حياة مزارعين وفلاّحين، يعيشون من الأرض ولها، بقسوة واجتهاد وصبر وعناد.

وقد عبّرت الرقصة الشعبية اللبنانية المعروفة بالدبكة خير تعبير عن الموقف الوجداني العام للإنسان في لبنان. تأتي الدبكة من فعل «دَبَقَ» بالفينيقيّة والذي حُرِّفَ لفظه بالتآكل، في التداول الشعبي، ليصبح «دَبَكَ». ودبك (دَبَقَ) تعني بالفينيقية «لصق»، ضرب والتصق، بالإشارة إلى حركة القَدَم التي تضرب الأرض، أو سنبلة القمح على الأرض، بحزم وتلتصق للحظة بالأرض، حيث إنّ فصل الحبّات عن بعضها بعضًا بدأ بركلها بالقَدَم، من قِبَل مجموعة رجال في غابر الأزمنة، قبل أن ينتقل إلى المدْرَس على البيدر. وبهذا المعنى فإنّ رقصة الدبكة تستحضر من حيث لا ندري حركة المزارعين على بيادر القمح الأولى في الأزمنة القديمة. من هنا كان ارتباطها بالمجتمعات الزراعية في جبال لبنان، ماضيًا وحاضرًا، وحضورها، بأشكال مختلفة، في كل قرية وبلدة اليوم.

فالصف المتراص والمتمايل مع النغم في الدَبْكة يستعيد حركة السنابل المتمايلة مع الهواء في الحقول. وكانت الدبكة الرقصة التي رقصها الفينيقيّون على البيادر، في شهر يوليو، بعد حصد موسم القمح السنوي.

وبما أنّ هذه الرقصة بحدّ ذاتها إيحاء بتجربة، فعندما يشاهدها حاليًا أي سائح يفهم فورًا ودونما حاجة إلى كلام، أنّ هذا الشعب شعب مزارعين قدامى لا يزالون يحملون في عروقهم امتنانهم الحيّ للأرض وخيراتها ونباتاتها.

فالدبكة هي، تشبُّهًا، رقصة السنابل، لكنها في الواقع رقصة رجال ونساء عاشوا على خير السنابل، حيث تتشابك الأيدي للدلالة على التعاون في العمل كما في الاحتفال بالحصاد. وبهذا المعنى فإنّ الدبكة اللبنانية، المنتشرة في جميع أرجاء البلاد، هي دبكة آتية من أزمنة الوثنيّة، تعبّر عن الشكر البشري للأرض، بالرقص فوقها وركلها بالقَدَم بقوّة كي تشعر الأرض بالرسالة المباشرة، في تشابك بالأيدي بين جميع أهل القرية.

فرحة المجتمع الزراعي المنتِج موجودة في الدبكة، برجاله ونسائه، وكباره وصغاره (ذلك أنّ هناك حلقة للصغار على الدوام تبرز عفويًا في الاحتفالات). وكأني بروح الشعب اللبناني موجودة في هذا الفن الشعبي الآسر الذي أضحى جزءًا لا يتجزّأ من مناسبات الزفاف في لبنان، إذ لا يخلو عرس من حلقة دبكة. وهذا ما يفرح جدًا السيّاح الذين يصادفون حضور مناسبة كهذه.

واللافت للانتباه في هذا المجال أنّ الدبكة أضحت بمنزلة habitus، بالمعنى الذي يعطيه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو Pierre Bourdieu لهذا المفهوم. أي أنّ اللبنانيين يمارسون الدبكة ضمن استعداد معرفي موروث، موجود في الوعي الجماعي الشعبي العام، دون أن يكون مُدْرَكًا بالضرورة. فعندما يهبّ المحتفلون اليوم بمناسبة معيّنة (قد تكون زفافًا، أو مجرّد غداء أو رحلة ترفيهيّة)، رجالًا ونساء، إلى الدبكة، فإنهم يعترفون بأنّ هذا الفن الشعبي هو منهم ولهم، وهو جزء من حياتهم اليوميّة وثقافتهم. حتى لو أُقيمَ حفل الزفاف في منتجع سياحي عصري، أو في فندق، على وقع موسيقى أجنبيّة كما تريده التقاليد البرجوازيّة والمستحدِثة اللبنانية الراهنة، فإنّه في لحظة ما، فجأة وفورًا، تشهد نزول الشباب إلى الدبكة، بين الطاولات أو على حلبة الرقص، فيندمج الكلّ في رقصة شعبيّة تقليدية جامعة واحدة.

ونذكر هنا أنّ رونق الليالي السياحيّة التي تقيمها سنويًّا لجنة مهرجانات بعلبك الدوليّة يقع على عاتق ما يُعرف بالليلة اللبنانية التي تُقدَّم فيها إحدى المسرحيّات اللبنانية المشبَعَة بالدبكة اللبنانية. من هنا تأتي جاذبيّتها الخاصة وسحرها لجمهور السيّاح المشاهدين. وكأني بالدبكة القلب النابض للفنون الشعبيّة اللبنانيّة.

فهذا الفن الشعبي التراثي اللبناني قد أعاد الناس تأهيله بإدخاله في حياتهم المعاصرة، رافضين تسليمه للموت أو للفولكلور لمجرّد تحوّل المجتمع اللبناني بغالبيّته العظمى من مجتمع زراعي إلى مجتمع خدماتي على النمط الحديث، إذ أعاد الناس صياغته بإعطاء الدَبْكة معنىً رمزيًَّا، نفسيًا واجتماعيًا وتاريخيًّا جديدًا.

الحرف اليدويّة:

تشكّل الحِرَف اللبنانية مصدر جذب ثقافي آخر، وهي أيضًا من الفنون الشعبيّة الأصيلة لأنها ترتبط بالإرث الثقافي المحلّي، العربي اللون، واللبناني النكهة والنسيج. فلكل حرفة من الحِرَف الحالية مهاراتها الموروثة عن الأجيال السابقة. وهذه الحرفة إما أنّها أخضعت نفسها لعملية إعادة تأهيل (كحرفة النحاس وحرفة نجارة المفروشات) وإما أنّها اندثرت لعجزها عن مواكبة العصر (حرفة التّناك، التي قضى عليها البلاستيك، أو حرفة الطرابيشي التي فتكت بها عادات الملبس الأوربي).

أما الحرف اللبنانية التي بقيَت، كحرفة النحّاسين، في حلّتها الجديدة، فهي شديدة الجاذبيّة للسيّاح الذين غالبًا ما يقدمون على شراء تذكار أو عدّة تذكارات من النحاس الفنّي المُنتَج محلّيًّا. لذلك فإنّ الترويج لمنتوجات هذه الحرفة ليس فقط في أسواق طرابلس وصيدا والقلمون بات ممكنًا وضروريًا، بل أيضًا داخل الفنادق التي، باستخدامها لأدوات من النحاس مصنوعة محلّيًا على يد حرفيين مهرة، يمكنها أن تعمِّم تذوّق هذا الفن العربي الأصيل الذي يعطيه الحرفي اللبناني لمسة خاصة بابتكاراته المختلفة.

فبعدما كان النّحاس ينتج أدوات نحاسيّة للمطبخ (طنجرة وحَلِّة ودِست وكَركَة ماء الزهر وكانون الفحم وكلّها أدوات يمكن عرض مَسطرة منها في زاوية تراثية تُقام لها خصوصًا في الفنادق اللبنانية لجاذبيّتها السياحيّة) أضحى اليوم ينتج أدوات فنّيّة لا استخدام وظيفيّا لها غير الزينة. وهذا أمرٌ لا يستهان به لأنه حفَّزَ النّحاس اللبناني على أن ينمّي خياله وأن يبحث عن منتوجات تحاكي الأذواق الجديدة. لذلك لا يمكن أن نطلق على حرفة النّحاس، أو على أي حرفة حيّة ترزق اليوم، تسمية الحِرفَة التقليديّة. فالحِرَف اللبنانية الحالية تنتج سلعًا معاصرة بمهارات موروثة. صحيح أنّ المادة واللون والنكهة التي تتميّز بها سلعة الحرفي الحالي منقولة عن الأقدمين، تمامًا كما هي المهارات التي يلجأ إليها العامل في تصنيعها، لكن مآلها الأخير هو معاصر، حيث إنّ مآلها هو رفّ مكتبة أو زاوية من زوايا الصالون، ولم يعد مصيرها، كما في الماضي، المطبخ أو أحد ملحقاته.

وذكاء الحرفي الحالي أنّه لم يعد تقليديًا لكونه عرف كيف ينتقل ذهنيًّا ومعرفيًّا من زمن الأسلاف إلى زمن الأخلاف، ومن دور حرفي تقليدي إلى دور فنّان معاصر، حيث إنّ إعادة الوصل مع الجانب الفنّي من الحِرفة هو الذي سمح لصاحبها بأن يعيد تأهيلها بشكل خلاّق يتناسب مع الأذواق المستجدّة.

وما قلناه عن حِرفة النحّاس يمكن أن نقول مثله عن حرفة الصابون، فحرفة الصابون من الحِرف والفنون الشعبية الموروثة عن الأقدمين، علمًا بأنها قد اتسمت في لبنان، على يد الحِرفيين اللبنانيين، بنكهة خاصة. ويكفي لذلك زيارة خان الصابون في طرابلس حيث يتمّ إنتاج الصابون العربي، أي البلدي المصنوع على النمط القديم، بشكل فنّي منوَّع، ينال إعجاب جميع الأذواق.

فمعامل حسّون تصنع يدويًّا في طرابلس أكثر من خمسين صنفًا من الصابون البلدي، بعطور مختلفة. وجميع السيّاح الذين يزورون معرض الصابون، الكائن في خان الصابون في قلب أسواق مدينة طرابلس، يندهشون لهذا الذوق الرفيع ولهذا التفنّن المرهف في صناعة الصابون البلدي.

والواقع أنّ الصابونة، المصنوعة بالغار (لتطهير الجلد) أو بالبيلسان (لجعله زاهي اللون) أو بالعنبر (لجعل الجسم كلّه يتنفَّس) أو بالعسل (للنعومة والإثارة).. إلخ، لا تعود هنا مجرّد أداة لغسل اليدين تتمتَّع بوظيفة عامة هي المحافظة على النظافة، بل إنّ صابونة الحِرَفي اللبناني هي قطعة خاصة يلجأ إليها الفرد في سياق عمليّة محاكاة حميمية.

فحميميّة الصابونة الفنيّة البلديّة اللبنانيّة تختلف عن عموميّة الصابونة الأجنبيّة، حتى لو كانت معطَّرة كصابونة كاماي أو لوكس، ذلك أنّ الصابونة الفنيّة البلديّة يختارها الشخص شخصيًا، ضمن حاجته الجسديّة والنفسيّة على حدّ سواء. لذلك تلعب هذه الصابونة دورين: دورًا فيسيولوجيّا، كسواها من الصابونات، ودورًا جماليًا ونفسيًا يتناغم مع حاجات المرء وانتظاراته.

وهذه الصابونة المُشخْصَنَة، المصنوعة في طرابلس مثلًا، والتي تخطف قلوب السيّاح بوجه عام والسائحات على نحو خاص، هي منتج محلّي، مصنوع بالاعتماد على مهارات منقولة عن الأقدمين، لكنه منتج معاصر شديد الجاذبيّة.

المطبخ اللبناني:

أما الزاوية الثالثة من مثلَّث الفنون والمهارات الشعبيّة اللبنانية فتتمثّل بالمطبخ اللبناني، هذا المطبخ الذائع الصيت عالميًا، الغني والصحّي على حدّ سواء.

فالمطبخ اللبناني فنّ شعبي نسائي في الأصل، شكّلته مهارات جدّاتنا في الأزمنة الغابرة وطوّره بعد ذلك عدد من الطبّاخين المهرة بذكاء وفنّ، بحيث يناسب الأذواق المعاصرة كما معطيات الحياة العملية الجديدة.

بدأ المطبخ اللبناني في البيوت، لكنه، بفعل حركة انتقال المسافرين، التي سبقت السياحة، تبلورت فنونه ومنتوجاته لاحقًا. فأول ما طلع به المطبخ إلى الخارج، أي إلى خارج البيوت، كان المازة.

فالمازة اللبنانية التي هي اليوم مفخرة المطاعم اللبنانية، والتي تسرّ العين قبل أن تُفرح البطون، نشأت على النحو التالي: بعدما أُنشِئَت سكّة الحديد الرابطة بين بيروت ودمشق في نهاية القرن التاسع عشر، عام 1895 (وكان طولها 174 كلم في حينها) ومع ضرورة توقّف القطارات المُتعَبَة في بلدة شتورا في البقاع، للصيانة والتزوّد بالوقود والماء، كان على المسافرين أن يمضوا ساعة أو أكثر في الانتظار، فكانوا يهبطون من القطار ويشدّهم المناخ الطيّب إلى تناول وجبة سريعة، بلديّة ومحلّيّة، تساهم في تمرير الوقت والشعور بالاستجمام. لذلك نشأت بالقرب من المحطات، في شتورا وريّاق، مطاعم صغيرة يضع أصحابها على الطاولات للمسافرين كل ما هو متوافر في البيت، من طبيخ ومقبّلات وخضار وألبان وأجبان وخبز على الطابونة. فالمازة، في صيغتها الأولى، نشأت من حواضر البيت ومتفرِّقات الطعام، لتناسب جميع الأذواق من ناحية ولسدّ جوع المسافر مؤقتًا ريثما يصل إلى البيت الذي يقصده، في بيروت أو في دمشق. فالمازة كانت اختراعًا محلّيًّا نقل الأطعمة المتوفرة كلّها، على وجه السرعة، لمسافر عجول يأكل بسرعة ويتوارى. لذلك يمكننا أن نقول إنّ المازة، في صيغتها الأولى، قد نشأت على أساس أنّها فاست فود لبناني (fast food). وفيها عبقريّة صاحب المطعم اللبناني الصغير الذي عرف كيف يلبّي حاجة المسافر العابر إلى الطعام، بأسرع وأوسع طريقة ممكنة.

حيث إنّ كل ما كان متوافرًا في البيوت كان يوضع على الطاولات: الطبيخ والقوَرما والمخلّلات والألبان والأجبان والفتّوش والتبّولة واللحم المقلّى، إلى آخره. بحيث يجد المسافر أمامه، بلمحة بصر، وجبة بيتيّة دون أن تكون بيتيّة بالتمام، ووجبة خارجيّة تحمل بصمات التحضير المنزلي. أما المطبخ اللبناني اليوم، فهو تحفة من التحف الفنية الشعبيّة اللبنانية، إذ إنّه أضحى من أشهر المطابخ العالميّة لتنوّعه ورهافة الأطباق التي يقدّمها. فقد غدت المطاعم اللبنانية، في لبنان كما عبر العالم أجمع، مرافق اقتصادية لأصحابها وثقافية وسياحية لمرتاديها. فقائمة المحاشي التي يمتاز بها (محشي ملفوف ومحشي كوسا ومحشي باذنجان، الملقَّب بشيخ المحشي) كلّها أصناف دأبت جدّاتنا فيما مضى على تحضيرها للاستهلاك المنزلي والداخلي. وها هي اليوم تزيّن مائدة المطاعم الكبيرة والصغيرة، علمًا بأنّ هذه الأصناف مدينة أولًا لطبيعة لبنان التي تتوافر فيها بغزارة الخضراوات على أشكالها وأنواعها. لكن الطبيعة بحاجة إلى مساعدة الإنسان، ومن هنا ذكاء ومهارة جدّاتنا في الأزمنة السالفة، اللواتي أخرجن الأطباق من الخضار وأضفن إليها التوابل، في عمليات طهو ومزج لا تخلو من الابتكار. لكن إن تساءلنا اليوم: مَن اخترع السمكة الحرَّة? فلا جواب لدينا، وكذلك بالنسبة إلى المحشي كوسا أو اللبن أمّو. فكلّها أطباق شعبيّة بمعنى أنّها لا تعود لشخص محدَّد واحد، بل لتجربة شعب بأكمله أضافت ستّات البيوت عنده هذه التبلة بالبهارات هنا، وتبلة أخرى بالكزبرة هناك. وهكذا دواليك. فالمثل الشعبي شعبي لأن لا أب محددًا له. والطبق اللبناني شعبي أيضًا لأنّه لا أمّ محدَّدة له، بل إنّ أي طبق مدين لكل ستّات البيوت اللواتي أضفن إليه، ماضيًا، مهاراتهن المتنوِّعة وخبرتهن وذوقهنّ، علمًا بأنّ الاستعارة ليست بعيب في هذا المجال. وبعض الأطباق اللبنانية وافدة إلينا أصلًا، كالأطباق المصنوعة بلبن الماعز أصلًا قبل أن تتحوّل إلى لبن الأبقار (لبن أمّو، شيش برك، كوسا بلبن، الآتية من تركيا), وكذلك الملوخيّة (الملوكيّة في الأصل، الآتية من مصر)، لكنها تلبننت جميعها.

حتى إنّها أصبحت اليوم، في صيغتها اللبنانية، أشهى من الصيغة الأصلية المنقولة عنها. فاللبن أمّو اللبنانية، بتوابلها المضافة محلّيًّا، ألذ من اللبن أمّو التركي. وكذلك الحال بالنسبة إلى الملوخيّة اللبنانية التي تضاهي مثيلتها المصريّة لكن دون أن تتفوّق عليها. وماذا نقول عن الحلويات اللبنانية الحالية، ذات الجودة العالية جدًا، والتي أتتنا من إسطنبول وحلب ودمشق؟ لقد طوّرها معلمو الحلويات في لبنان بحيث أصبحت تتفوّق كمًّا ونوعًا وخِفَّةً على تلك التي استوحيَت منها فيما مضى. ختامًا يمكننا أن نقول إنّ ما أوردناه حول تجربة إعادة تأهيل فنون التراث الشعبي اللبناني يمكن ملاحظته أيضًا في التجارب التراثية العربية الأخرى، في مصر والمغرب وتونس وسورية والأردن على نحو خاص، مع خصوصيّات محلّيّة تميّز كل تجربة عن سواها من التجارب. يبقى أنّ الطابع الطوعي لإعادة تأهيل موروثات التراث الشعبي، ثقافيًا واقتصاديًا، يشير في لبنان كما في جميع البلدان العربية المعاصرة إلى حيويّة وعبقريّة شعبيّة أكيدة. فالمحافظة على الفنون التراثية بإعادة تأهيلها وتطويرها إراديًّا تعبّر عن تمسّك ذكي بها وعن احترام للأجيال السابقة التي كان لها الفضل في ابتكارها. فالعلوم تتطوّر بالاختبارات والتجارب الحيّة، وكذلك تتطوّر فنون التراث الشعبي بعمليات إعادة التأهيل البنيويّة... الشعبيّة والطوعيّة.

---------------------------------------

  • تربية: بيئة إبداعية في بيتك.. لنربي جيلاً مبدعًا

هايدي عبد اللطيف

يُنظر للإبداع بوصفه صفة أصيلة في المرء، ونحن نعتمد على الشخص الموهوب في التعبير عن هذه الموهبة بإبداعه لعمل أدبي أو فني أيّا كان نوعه. ولكن على مدى السنوات القليلة الماضية، اكتشف علماء النفس الاجتماعي أن الإبداع ليس فقط سمة شخصية للفرد، ولكنه ظرف بيئي أيضًا يتغير تبعًا للحالة والسياق، ما يطرح تساؤلًا مهمًا: ما الذي يجعلنا أكثر إبداعًا في بعض الأحيان والأقل إبداعًا في أحيان أخرى؟ بشكل علمي كشفت الأبحاث أن الابتعاد في الزمن تجريديًا بمعنى عدم التفكير في الوضع الحالي وإنما النظر إليه من حالة مستقبلية يمكن أن يعزز أيضًا الإبداع.

في سلسلة من التجارب التي درست تأثير مدى المسافة الزمنية على الأداء في البصيرة والمهام والإبداع، طلب من المشاركين تخيل حياتهم بعد عام واحد (المستقبل البعيد)، أو في اليوم التالي (المستقبل القريب)، ومن ثم عمل تصور لشكل هذا اليوم في المستقبل. وجاء المشاركون الذين وضعوا تصوّرًا ليوم في المستقبل البعيد أكثر بصيرة وإبداعًا من المشاركين الذين تخيلوا تصورًا لإحدى مشكلات يوم في المستقبل القريب.

هذا البحث أشار إلى نتيجة مهمة، وهي أن هناك خطوات بسيطة عدة يمكننا القيام بها لزيادة الإبداع وتشجيع الموهبة، مثل السفر إلى أماكن بعيدة (أو حتى مجرد التفكير في مثل هذه الأماكن)، التفكير في المستقبل البعيد، والتواصل مع الأشخاص المختلفين عنا، والنظر إلى بدائل غير متوقعة للأمور. ربما البيئة الحديثة، مع زيادة قدرتها على الوصول إلى الناس، السينما، الموسيقى، حتى الطعام الذي يأتينا من بيئات وثقافات مختلفة وأماكن بعيدة، يساعدنا على أن نصبح أكثر إبداعًا، ليس فقط من خلال تعريضنا لمجموعة متنوعة من الأساليب والأفكار، ولكن أيضًا من خلال السماح لنا بأن نفكر بطريقة أكثر تجريدية.

هذه الطريقة هي التي يستخدمها علماء التربية مع الأطفال في خلق بيئات إبداعية وتحفيز الخيال وهو ما يمكن أن يقوم به الوالدان أيضًا. فخلق بيئة إبداعية في المنزل يلغي القواعد المعتادة ويتسبب في الفوضى، ولكن الأطفال الذين ينشأون في بيت يشجع على الإبداع، يكبرون ويتطورون بطرق رائعة ومدهشة في بعض الأحيان.

مونتيسوري.. رؤية واسعة

ويعد تشجيع الإبداع وتغذية الشعور بالتفرد جزءًا مهمًا من دور الوالدين في تطوير أطفالهم. وهناك العديد من الطرق التي يمكن بها للأمهات والآباء تشجيع الروح الإبداعية للطفل. فالإبداع هو عملية الخروج بأفكار جديدة، وبالنسبة للأطفال الصغار تشتمل عادة على طرق جديدة في استخدام أو النظر إلى الأشياء المألوفة.

وتعد طريقة مونتيسوري من أشهر الأساليب المستخدمة لتشجيع الإبداع. ففي عام 1907، بدأت الدكتورة ماريا مونتيسوري أول صف مونتيسوري، حيث جمعت الأطفال في مجموعات مختلطة تضم فروقا تصل لثلاث سنوات (3 - 6 ، 6 - 12 ، 12 - 15)، والتي تسمح بالتطور على المستويين الفردي والاجتماعي. هذا النهج، المسمى بأسلوب مونتيسوري يقدم رؤية واسعة للتعليم باعتباره وسيلة للحياة. وهو مصمم للاستفادة من التطور الطبيعي للأطفال، وإعطاء الأطفال حرية العمل وفقًا لخطواتهم الخاصة، إما وحدهم وإما مع الآخرين، وبالمواد التي يختارونها.

والمرونة التي يتسم بها هذا النهج، غير المتوافرة عادة في الحياة اليومية أو في مرحلة ما قبل المدرسة، تضع أساسا يمكن من خلاله أن توجه الطفل موهبته الداخلية.

يمكن للوالدين السماح لأبنائهم بحرية الاستكشاف وأن يتعاملوا بحميمية مع جميع جوانب الحياة المحيطة بهم، وظواهرها، وسكانها، من البشر وغيرهم، ووفقا لرئيس رابطة مونتيسوري الدولية رنيلد مونتيسوري: «هذه العلاقة الحميمة تقود إلى كل نوع من أنواع الإبداع».

تعليم الاستقلالية

ليس من الضروري أن تقتصر أفكار مونتيسوري على الفصول الدراسية، ولكن يمكن للوالدين تنفيذ مبادئ أسلوب مونتيسوري في المنزل أيضًا. أولا، يجب أن تنظر إلى منزلك من خلال منظور طفلك. دع طفلك يجرب إلى أقصى حد ممكن، من خلال المشاركة الكاملة في الحياة اليومية الروتينية، حتى يكتسب الشعور بالانتماء، وبالحاجة إليه.

وعادة ما يطلب الصغار أن يقوموا بالتجربة بأنفسهم، وبالرغم من أن السماح لهم بإنجاز الأشياء بأنفسهم غالبًا ما يعني المزيد من الوقت، ولكن من خلال الاستماع للطفل ومنحه الحرية الكاملة تعزز لديه الاستقلالية والإبداع. على سبيل المثال، يمكن إيجاد سبل تسمح لطفلك بالمشاركة في إعداد وجبة، التنظيف، العناية بالحديقة، تنسيق ورعاية الملابس والأحذية، حتى تنظيم ألعابه، وهكذا يمكن أن تساعد في بناء ثقة طفلك بنفسه.

توسيع الآفاق

بالنسبة للأطفال الصغار، غالبًا ما ينطوي الإبداع على طرق جديدة لعمل الأشياء أو استخدام الأشياء المألوفة. واللافت للنظر عدم وجود تغييرات كبيرة في لعب الأطفال على مر السنين. على سبيل المثال، لعبة المكعبات «ليغو» تحتوي على كتل غالبا ما يتم وضعها لتكوين أشكال أو لتشييد المباني، بينما الألعاب التعليمية التي تعلم مهارات الرياضيات أو حقائق الجغرافيا لها قيمتها، لكنها لا تشجع الأطفال على الابتكار.

ويتم تعزيز الإبداع من خلال تخفيف الضغط عن الأطفال في اكتساب المهارات وذلك بتشجيعهم على فعل ما يميل الأطفال إلى فعله طبيعيًا وهو اللعب بطرق مبتكرة، وتشجيع الإبداع لدى الأطفال مهم جدًا. وجود الثقة والخبرة في التفكير واللعب بشكل خلاق لا يساعدان الأطفال فقط على تطوير الهوايات التي توفر المتعة، ولكن أيضًا يمكنهما المساهمة في إعداد النشء لعالم سيتغير سريعا خلال فترة حياتهم. فأجهزة الكمبيوتر ستقوم بالكثير من «التفكير» في المجتمع خلال السنوات المقبلة، ولكن أجهزة الكمبيوتر ليست جيدة خصوصًا في مجال الإبداع!

محفزات الإبداع

تشكو بعض الأمهات من أن أطفالهن لا يلعبون أبدًا باللعب كما هو مفترض أو كما تشير الشركة المصنعة للعبة. فهم أحيانًا يستخدمون اللعب بطريقة مختلفة تمامًا كرصها فوق بعضها بعضًا، أو استخدامها كما الدعائم في عروضهم. وقد يحبون اللعب مع عبوات الكارتون ويستخدمون الشريط، والغراء، والطلاء، في ابتكار نماذج وألعاب مختلفة. وقد تتسبب هذه الطرق في اللعب في الفوضى، ولكنها تعزز الابتكار والإبداع لدى الطفل، كما ينصح الخبراء الآباء بأن يسمحوا للأطفال بالتوصل إلى التعبير عن قدراتهم الإبداعية الخاصة. ويشيرون لأهمية مدح إبداع الطفل أيّا كان مستواه والثناء على جهوده وتشجيعه وعدم انتقاده، فالصورة التي يرسمها طفلك ليس بالضرورة أن تكون مثالية فهي في النهاية تعبير عن رؤيته.

ما يشجع على التعبير الإبداعي والابتكار أيضًا وجود «ركن للإبداع» بالمنزل، تتوافر فيه الخامات المناسبة لسن الطفل مثل الصلصال، الطباشير الملون، والورق العادي وورق القص واللصق، ومقص آمن، وورق ملون وغيرها من الخامات.

افعل ولا تفعل
7 خطوات تدعم مشروع تربية نشء خلاق

1 - خصص مساحة لعرض الإبداعات والجوائز.

2 - حاول أن تكون حلقة الوصل بين مواهب طفلك الخاصة والعالم من حوله بمساعدته على إيجاد منافذ لعرض هذه المواهب.

3 - تعامل مع المنزل كمكان للتعلم. على سبيل المثال، المطبخ مكان رائع لتدريس الرياضيات والعلوم من خلال الطهي.

4 - تجنب المقارنة بين طفلك والآخرين. ساعد طفلك على مقارنة أدائه الحديث بأدائه السابق.

5 - لا تضغط طفلك في التعلم وتنمية موهبة ما. إذا تم إرسال الأطفال لدروس خاصة بشكل يومي على أمل تطوير مواهبهم، فإنها قد تصبح أمرًا مرهقًا يفقدهم التألق. شجع، ولكن لا تدفع.

6 - عرّض طفلك لمجموعة واسعة من الخبرات، تنشط المواهب الكامنة. ولا تفترض أنه ليس موهوبًا في أمر ما لأنه لم يبد اهتمامه به.

7 - لا تنتقد أو تحكم على ما يفعله طفلك، فقد يتخلى عن مواهبه إذا شعر بتقييمها.

---------------------------------------

  • مجتمع: خطورة الزواج المبكر على الفتيات

منى خير

الزواج المبكر ظاهرة منتشرة في العديد من الأسر التي لا تؤمن بحقوق المرأة في تكملة دراستها واختيار شريك حياتها، وتعتبر ظاهرة الزواج المبكر من الظواهر التي يكون نتاجها الفشل، بسبب افتقاد المعايير الأساسية التي لا بد أن تتوافر للزوجين من توافق فكري واجتماعي وعاطفي.

قضية الزواج المبكر قضية اجتماعية ذات أبعاد طبية خطيرة لما لها من انعكاسات على صحة المرأة والطفل والمجتمع، حيث تدل معظم الأبحاث والدراسات الطبية والبيئية على أن مضاعفات الحمل والولادة تزداد بشدة في حالات الزواج المبكر عنها في حالات الزواج بعد سن 18 سنة، ومن أهم هذه المضاعفات تسمم الحمل وضعف الجنين مما يؤدي إلى ارتفاع نسبة الوفيات في الأطفال حديثي الولادة. ومن أهم مخاطر الزواج المبكر:

1 - تسمم الحمل: نتيجة ارتفاع ضغط الدم أثناء فترة الحمل وحدوث بعض المشكلات التي تؤدي إلى تأخر نمو الجنين، مع حدوث تشنجات وغيبوبة، ونسبة وفيات الأمهات في هذه الحالة عالية جدًا.

2 - الولادة المبكرة: حيث تقل نسبة استعداد الرحم لتحمل الجنين في السن المبكرة، والولادة المبكرة لها تأثيرها المباشر على ازدياد نسبة الوفيات في الأطفال حديثي الولادة.

ويعتبر مجتمعنا العربي من أكثر المجتمعات تعرضًا للأضرار الناجمة عن ترسيخ الأعراف والقيم التقليدية، وحصر دور المرأة في حدود دورها الإنجابي. وتهميش دور المرأة في العملية التنموية، والاهتمام بالشأن العام بمختلف مجالاته، وتشير الإحصائيات إلى تفاقم مشكلة الزواج المبكر في العالم العربي حيث وصلت نسبة الزواج المبكر في مصر إلى أكثر من مليون فتاة، واليمن 48 في المائة يتزوجن بين سن 10 و14 سنة، وفى الأردن 13 و 4 في المائة، وترتفع نسبة الوفيات نتيجة الحمل المبكر لأقل من 18 سنة في العالم العربي - طبقًا لإحصائيات منظمة اليونيسيف - إلى امرأة في كل 70 حالة، وهي نسبة مرتفعة مقارنة بالدول المتقدمة.

وقد ارتبط الزواج المبكر للفتيات بعملية البلوغ للفتاة، ويتراوح سن البلوغ للفتاة في مجتمعاتنا العربية ما بين 11 و 14 سنة. والمعنى الحقيقي للزواج المبكر من الناحيتين الطبية والعلمية هو الزواج قبل البلوغ، فبالنسبة للفتاة الزواج المبكر هو زواج الفتاة قبل فترة الحيض، والبلوغ عند الفتاة هو الفترة الزمنية التي تتحول فيها الفتاة من طفلة إلى بالغة، وخلال هذه الفترة تحدث تغيرات فسيولوجية وسيكولوجية عديدة، والبلوغ لا يحدث بصورة طارئة وإنما خلال فترة من الزمن ويرتبط بعوامل جينية وراثية وعوامل معيشية، وخلال هذه الفترة يحدث الحيض وتصبح الفتاة بالغة.

سن الزواج في الشريعة والقوانين الدولية

لم تحدد الشريعة الإسلامية سنًا معينة بالنسبة لعقد الزواج، ولكن قوانين الأحوال الشخصية في البلاد العربية حددت أنه يشترط في أهلية الزواج أن يكون الزوج تم سن الـ 16 سنة وأن تكون الزوجة تمت سن الـ 15 سنة. ومن أهم أسباب الزواج المبكر:

1 - أن يكون نتيجة خوف الأهل على ابنتهم من الانحراف.

2 - أن يكون لدى الوالدين عدد كبير من البنات.

3 - فقر العائلة وعدم قدرتهم على تعليم البنات.

4 - جهل الأهل وعدم إدراكهم المشكلات التي تحدث للبنات نتيجة الزواج المبكر.

5 - أن يكون الشاب هو الأكبر لعائلة ويريدون الفرح به.

الآثار المترتبة على الزواج المبكر

عدم القدرة على الإنجاب أو إنجاب أطفال مشوهين، وكثرة الإنجاب ترهق المرأة وتسبب لها العديد من الأمراض, مثل سرطان الثدي وسرطان الرحم، والزواج في سن مبكرة يكون مبنيًا على جهل الشاب أو الفتاة بالأمور الزوجية مما يضعف الرغبة الجنسية أو ممارسة الجنس بطريقة خاطئة، وأغلب حالات الطلاق بين المتزوجين في سن مبكرة.

ومن الآثار الاجتماعية: انخفاض مستوى التعليم في المجتمع، وعدم قدرة الوالدين على التربية السليمة لأبنائهم.

---------------------------------------

  • طب: احتشاء العضلة القلبية: طريقة جديدة لشفط الجلطة

د. نزار الناصر

أتاحت الثورة العلمية والتكنولوجية في المجال الطبي القلبي استحداث تقنيات متقدمة في حال حدوث الجلطات القلبية، وذلك في الساعات الأولى من حدوثها، إذ يجب أن يقتصر القيام بهذه التقنيات على الأطباء المختصين ذوي الخبرة، وأن تجرى في مراكز مجهزة بأحدث الأجهزة.

احتشاء العضلة القلبية ظاهرة كثيرة الانتشار في العالم، ففي فرنسا وحدها 120000 إصابة في السنة يموت منها 60000 شخص، إذ أضحى يهدد الإنسان ويودي بحياته حتى وهو في عز شبابه أو في أوج إنتاجه وعطائه، ويحدث ذلك نتيجة انسداد مفاجئ لشريان إكليلي: الأساسي أو الفرعي، مما يؤدي إلى موت العضلة القلبية، فكل دقيقة نربحها في إسعاف المريض تنقص من خطر الوفاة، فالإسراع في فتح الشريان في الساعات الأولى من حدوث الألم القلبي (ويفضل خلال ساعتين أو خمس ساعات) نستطيع أن نتلافى تحول الخناق الصدري غير المستقر أو الاحتشاء في العضلة القلبية الوشيك الحدوث إلى احتشاء عضلة قلبية، أو العمل على عدم اتساع مساحة الاحتشاء، وبالتالي تلافي المضاعفات الخطرة كقصور القلب واضطرابات النظم القلبية، الصدمة القلبية وذمة الرئة الحادة وتلافي توقف القلب المفاجئ والموت المفاجئ. وإذا كانت الحالة محدودة فإننا نعطي المريض حقنة وريدية من مميعات الدم ذات الفعالية القوية خلال الساعات الخمس الأولى من الإصابة كمذيبات للجلطة، بهدف التخلص من الخثرة التي تسد الشريان وللحفاظ على عضلة القلب، ولكن الخثرة قد لا تذوب مباشرة وقد تحدث مضاعفات نزفية دماغية.

قد تحصل من 1 في المائة إلى 2 في المائة من الحالات، أما في الحالات الأكثر خطورة فيجب إسعاف المريض إلى مركز طبي قلبي يحوي كامل المعدات الحديثة للتدخل الإسعافي لإجراء قسطرة قلبية ونفخ بالون وزرع شبكة وشفط الخثرة.

القسطرة القلبية:

يتم إدخال سلك في الشريان الفخذي الرئيسي أو في الشريان الكعبري، وهذا السلك مجوف رفيع جدًا لا يتجاوز قطره 1 ميلليمتر، في طرف هذا السلك بالون يتصل بتجويف القسطرة، بحيث يمكن نفخ وتفريغ البالون من خلاله تبدأ العملية بتمرير القسطرة المتصلة بالبالون الفارغ داخل شرايين القلب وصولاً إلى الجزء الضيق من الشريان، عندها يتم حقن مادة ظليلة، بحيث تظهر بوضوح في الأشعة داخل تجويف القسطرة، ومنه إلى تجويف البالون الذي يبدأ في الانتفاخ داخل الشريان ويؤدي الضغط الواقع على المنطقة المتضيقة إلى دفع محتوياتها من دهون وكوليسترول إلى المحيط الخارجي للشريان، والدعامة عبارة عن شبكة معدنية على شكل أنبوب أسطواني، تركب وهي مطوية فوق البالون الفارغ، وتدفع منها إلى منطقة التضيق في الشريان، وعندما ينتفخ البالون تتسع الدعامة حتى تدعم جدار الشريان المتوسع بفعل البالون، الذي يتم سحبه إلى الخارج، في حين تبقى الدعامة مثبتة داخل الجزء الذي تم توسيعه، حيث تبقى الدعامة في الشريان مدى الحياة، وتشير الدراسات إلى أن 20 في المائة من الضيق يعود خلال الشهور الستة الأولى، فإذا انقضت تلك المدة يصبح احتمال عودة الضيق ضعيفًا.

لمواجهة هذه النسبة المرتفعة، تم ابتكار ما يعرف بالدعامة الذكية وهي دعامة ذات سطح مغلف بمادة أسفنجية، مشبعة بأحد الأدوية المانعة لتكاثر الخلايا، بعد التركيب يتسرب الدواء من المادة المغلفة للدعامة إلى جدار الشريان يمنع تكاثر الخلايا حول الدعامة، وبالتالي يحول دون معاودة حدوث الضيق بنسبة تصل إلى 95 في المائة.

وبذلك نكون قد أنقذنا حياة المرضى عندما تكون في المنطقة القلبية التي يخصها المرض تصبح مروية من جديد، ولكن بعد فترة قد تحدث بعض المضاعفات التي تنتج عن تحطيم الخثرة أو العصيدة الشريانية إلى جزيئات أو خثرات صغيرة تندفع في كل مكان في الدوران الإكليلي بعيدًا عن مكان الانسداد إثر توسيع الشريان، وتستطيع بذلك أن تشكل خطورة، لأنها تسد بدورها شرايين فرعية صغيرة وأوعية شعرية رفيعة جدًا كالشعرة.

وجودة معالجة الجلطة القلبية تحصل ليس بسرعة فتح الشريان، ولكن الأهم هو جودة جريان الدم الحاصل في كل دوران الدم في العضلة القلبية، إذ قد تتكون جلطات صغيرة وعديدة تستطيع أن تسبب تلفًا وأذية للعضلة القلبية.

ولتلافي هذه المضاعفات نستخدم البالون لإغلاق ممر الدم في الشريان خلال عملية التوسيع، ثم تقوم قساطر خاصة بشفط الخثرة ومخلفات التوسيع قبل تفريغ البالون وإعادة جريان الدم الطبيعي.

وهناك دراسات عديدة على هذه الطريقة الجديدة في عدة دول أجنبية ومنها الأكثر أهمية في هولندا، أجريت على 1000 شخص قسمت على فريقين، الأول حصل على الإنجيوبلاستي (بالون وشبكة) من دون شفط الخثرة، والفريق الثاني خضع إلى الإنجيوبلاستي مع طريقة شفط الخثرة.

وقد وجد أنه عندما تكون الخثرة محطمة إلى خثرات صغيرة عدة منتشرة في الدوران تكون الوفاة بمعدل 5.2 في المائة، وفي حال شفط الخثرة يكون خطر الموت 2.5 في المائة أو أقل من ذلك حسب الحالة.

---------------------------------------

  • تغذية: كلوديا رودان رحلة على بساط الطهو بين الشرق العربي والغرب الأندلسي

سناء محمود

من القاهرة إلى باريس ولندن، ومن لبنان إلى المغرب وإسبانيا، تقرأ كتب الطهو التي تكتبها كلوديا رودان فيتحول عالم المطبخ كرواية كتبها جراهام جرين، قاومت كثيرًا مغادرة الشرق، بوصفاتها المثيرة، ولكنها لم تبتعد كثيرًا عن حوض البحر المتوسط.

تقول إن رحلتها إلى إسبانيا تأخرت كثيرًا بسبب فرانكو، إيماءة إلى عصر الجنرال الديكتاتور الذي حكم وعسكره إسبانيا، قبل أن تتحول فكرة الكتابة عن الطعام الإسباني إلى كتاب ينضم إلى سلسلة كتبها عن مطابخ المشرق والمتوسط.

تُجل كلوديا الأفكار التي صادفتها في رحلتها الجديدة، الثقافة تعم بالسكينة في أطباق قائمتها، مثلما تنهل من ثمار تلك الأرض الطيبة.

اكتشفت رودان أن إسبانيا لم تفقد حسها في اكتشاف أطعمة تخصها، وقد أرسل لها المعهد الكاتالوني لفن الطهو الأرشيف الخاص بتلك الوجبات المثيرة بأكمله. وحتى الخمسينيات كان نحو 80 في المائة من عدد السكان يعيشون في الريف، يورثون ذكرياتهم ووجباتهم بالمثل.

حين تكون خارج المطبخ تكتب كلوديا رودان، وتسافر لتحاضر، وتعود من أجل حوار هنا أو لقاء تلفزيوني هناك، وحين تحذر ضيفتها من أنها لن تستطيع - بسبب انشغالها - دعوتها إلى الغداء، يتحول ذلك المشهد حين ترى الضيفة على مادة كلوديا سمك السلمون المدخن والحمص، وبعض فطائر اللوز الهولندية، مع طبق من استورياس وقشدة مانزانا، أو كريمة التفاح.

في حواراتها توزع وجبات، الأوفاز؛ الدجاج مع العنب والتفاح، والأرز العائلي مع طبق الفطر، وهي أصناف يعشقونها كثيرًا في كاتالونيا وفالنسيا. هناك أيضًا كعكة سانتياغو وكعكة اللوز التي سميت باسم القديس جيمس، الذي يعتقد أنه دفن في كاتدرائية سانتياغو دي كومبوستيلا في غاليسيا.

تقول كلوديا، فيما بقي من آثار عربية ويهودية في إسبانيا، إثر خروج المسلمين من الأندلس، أمر منطقي أن تفكر كيف جاءت كعكات الشرق الأوسط إلى هنا، مصنوعة من أشجار اللوز والبرتقال وعندما يتعلق الأمر بالفتح العربي لإسبانيا، وجدت كلوديا في اليكانتي امرأة من الطبقة العليا تقول لها: نحن أبناء الرومان والقوط الغربيين، كما أن لدينا تأثيرات مغاربية، وقد وجد الرومان أيضًا في الأردن ومصر، بعد كل شيء بعض الناس يريدون فقط أن ينفوا المسلمين من الذاكرة بعد أن غادروا عام 1492، لكن العديد منهم، مثلهم مثل اليهود، بقوا وبقيت آثارهم.

بدأت رحلة كلوديا رودان في الكتابة عن الطهو، الذي لم تكن تجيده، عام 1953، وفي سن الخامسة عشرة ذهبت للدراسة في باريس، من القاهرة حيث كانت تقيم، وكانت اللغة الفرنسية هي اللغة المفضلة للبرجوازية المصرية، تتذكر تلك الأيام:

«كنا كل يوم نجتمع مع إخوتي وابن عمي حول أطباق الفول، ذي اللون البني، ذلك الطبق الشعبي المصري، حيث عُد طبق الفول وصفة ناجعة للفقراء».

لكنها تكتب في مقدمة كتاب أصدرته عن منطقة الشرق الأوسط نشر عام 1968، بالعاصمة الفرنسية:

«أصبحت هذه الحبوب المملة مثل كيمياء الذهب، بعد استثمارها، لتعيد ذاكرة مجيدة لأيام القاهرة الدافئة، بيننا جميعا نحن الذين كنا نشعر بالحنين إلى الوطن».

في أسفارها، تطلب كلوديا رودان من كل شخص تلتقيه وصفة للأكلة المفضلة لديه، سواء كانت تعود لآبائهم، أو أجدادهم، وتكتب كيف كان كل منهم يتناولها، أي طقوس تقديمها، وكأنها لا تكتب عن الطهو، وإنما تفسر رواية لمارسيل بروست!

جاء والدا كلوديا؛ نيللي وسيزار رودان، من سورية إلى القاهرة عام 1890م، على درب تجارة القطن مع فتح قناة السويس. في القاهرة، كانت طفولتها تستيقظ على مشاهد تجمع العرب واليونانيين والأتراك والأرمن والأقباط واليهود.

في عام 1959، تزوجت بول رودن، وهو رجل أعمال من عائلة من المهاجرين الروس. في الماضي كان لديها مطبخ خاص بها، وعلى مدى العقد التالي أنجبت أطفالها الثلاثة!

بدأت رحلة الكتابة بالبحث في المكتبة البريطانية، وعند باعة الكتب القديمة، وصفات من العراق وسورية، وكتب الأساطير العربية، قبل أن تكتب أول إصدار خاص لها. استمر زواج رودان 15 عاما، وعندما انتهى وأصبحت أما وحيدة، قاومت الفقر بإعطاء دروس الطبخ في منزلها.

بعد عقود من السفر عادت رودان إلى القاهرة أثناء الثورة المصرية، وذهبت إلى مطعم تناولت فيه بعض الكبة المقلية حديثا (وهي كما نعرف كرات من لحم الضأن المتبل، والبرغل والصنوبر والجوز. وتقول كلوديا إنها طبق وطني لبناني وسوري). تتأمل الكبة وتقول:

«قرأت عن الكبة في نسخة من كتاب عن الغذاء في منطقة الشرق الأوسط، وطريقة إعدادها يلفها الغموض، وبعض النساء لديهن نفس خاص وأصابع يد خاصة، هي الأصابع الطويلة، التي تجعل من السهل تشكيل الكبة». اليوم يتردد اسمها وأصبحت أيقونة في عالم كتب الطهو، ومعظم الشعب البريطاني يفكرون فيما قدمته، وخاصة حين ابتكرت لهم (أو أعادت نقل الفكرة من مصر) محشي ورق العنب ليكون لدى محلات السوبر ماركت. اليوم أيضا تستطيع الأسر أن تجد الملوخية في محل بقالة بشارع فينشلي هرمز، وهي تقول عن تلك الأوراق الخضراء: إنها موجودة حتى في بطون المومياوات المصرية.

---------------------------------------

  • مساحة ود: ثقافةُ الإنترنت

حنان بيروتي

نشأنا على احترام وتصديق الكلمة المطبوعة باعتبارها مصدرًا موثوقًا للمعلومات، لا يمكن أن يخالطها الشكّ، ولكن الزّمن تغير في ظلّ الثورة المعلوماتية والطغيان الهائل للتكنولوجيا التي تتطوّر باستمرار، تقلص دور المطبوعات الورقية واتجهتْ الأنظار وتعلقتْ القلوب بالشبكة العالمية للمعلومات حيثُ الكم الهائل من المعلومات المتاحة بسرعة ويسر وبأقلّ تكلفة.

ثمة ظاهرة مؤسفة ومؤلمة تتمثّل في اعتماد المتلقين على ما يقرؤونه عبر الإنترنت وهجرهم الكتاب وظنهم أن كلَّ ما هو موجود على الشبكة في المنتديات والمواقع والرسائل الإلكترونية يحوي معلومات صحيحة ودقيقة، يتخذونها بصفتها من المُسلَّمات فيصدقونها ويضيفونها إلى رصيد ثقافتهم، ويسعون لتعميمها ونشرها ونقلها لأبنائهم وبعض هذه المعلومات مغلوط وغير صحيح ولا يستند الى حقيقة علمية ويخالف أحيانًا أبسط مبادئ المنطق والعقل، ويتّصف بالسذاجة، لا بل إنّ بعضها يستند إلى مُعتقد راسخ، ليتسرّب إلى العقول ويجعل ما جاء به من خزعبلات يبدو كأنه حقائق مثبتة لا يطالها الشكّ، لا بل كل من تسول له نفسه التساؤل عن مدى صحتها تنقصه المعرفة والثقافة والإيمان!

كيف ننسى أنّ الإنترنت مدى واسع ومفتوح وهو متاح للجميع على اختلاف مشاربهم وثقافاتهم ومقاصدهم؟ والجميع قادر على نشر ما يشاء والوصول إلى متلقين كثروا أو قلوا؟ وما يُنشر غير خاضع لجهة رقابية مُتخصصة لمتابعة الصحة العلميّة أو اللّغوية أو حتى الأخلاقية؟! والتّحقّق من صحة المعلومة مسئولية المتلقي والباحث لتمحيص ما يرى ويقرأ والبحث عن مصدر موثوق قبل أن يسارع إلى التصديق، وعليه ألا يغفل أننا نعيش في زمن لم تعد فيه الكلمة المطبوعة وحدها موضع تشكيك فحسب، حتى الصورة التي تراها أمامك قابلة للتشكيك وغير مصدقة بالمطلق! وإنّ الأمثال الشعبية التي حفظناها عن تصديق ما نراه تحتاج إلى تعديل وباتت هي الأخرى موضع شكّ!

هناك من يسعى بحسن نيّة ربما - وحسن النيّة وحده لا يفيد- إلى نشر ما يرى أنه غير مُضرّ لتقريب وتحبيب مُعتقد ما هو بحد ذاته نبيل، لكنه بتفسيره له بما لا يستند إلى حقيقة علمية وبما لا يخدم الحقيقة، تصدقه فئة غير قليلة، لا بل تجدهم يتحدثون بطريقة تدعو للرثاء، رثاء ما وصل إليه حالنا الثقافي وما انحدرتْ إليه درجة الوعي لدى البعض، وثمة إجابة جاهزة وقاطعة لقطع أيّ نقاش أو أيّة نصيحة «قرأتُه على الإنترنت!» فهل بات الإنترنت أبو العُرّيف في عصرنا؟! صحيح أنّه مصدر للمعلومات والبحث، لكن هل كلّ ما يُنشر عبره صحيح وخال من المغالطات المقصودة وغير المقصودة؟! وليس ثمة رقيب ودليل إلا منارة العلم وتحكيم العقل وبوصلة الوعي قبل تبني المعلومة ونشرها والإسهام في انتشارها. إنّ نشر وانتشار المعلومات المغلوطة أمرٌ مُخزٍ في زمن العلم والتطوّر الحضاري المذهل، وإنّ الاعتماد على الإنترنت بصرف النظر عن الموقع ودون التحقق من المعلومة وإخضاعها للعقل والبرهان أمر مثير للتساؤل والشفقة وهو عَرَض من أعراض التعلّق المرضي بالإنترنت الذي أصبح ينافس أمراض العصر، وإشارة غير صحية إلى اندفاعنا للجانب السلبي ونأينا عن الجوانب الإيجابية في الثورة المعلوماتية، ويتطلّب منا حملة إعلامية توعوية تبدأ بالنشء الواعد من طلبة المدارس لغرس بذرة الوعي ونعمة التمييز لديهم. إنّ ثقافة الإنترنت مهما بدتْ برّاقة وواسعة تظلّ منقوصة إن تمَّ تلقيها دون تعقُّل وتمحيص وحذر.

---------------------------------------

  • تلفزيون: الدراما الترْكِية التارِيخيةُ... العَزفُ عَلَى أَوتَارِ النَّجَاْح مُسلسل «حَرِيْم السُّلْطَان»

د. علاء عبد المنعم إبراهيم

حققتْ الدراما التُّركيةُ في السنواتِ القليلةِ الماضيةِ نجاحًا لافتًا على شاشات الفضائيات العربيةِ، وبلغتْ نسبةُ مُشاهدةِ هذه الأعمال أرقامًا قياسية، بحيثُ غدا التفافُ الأسرةِ حول المسلسلِ التركيِّ وترقبُهم لمتابعةِ أحداثِ حلقاته ممارسةً تقليدية، فاجأتْ - في بدايتها - الكثيرين بمَنْ فيهم أبطالُ العملِ أنفسُهم الذين ألفوا أنفسهم نُجومًا لامعةً على شاشات البرامجِ الحواريّةِ العربيةِ وشاشاتِ الإعلانات المُتلفزة أو المكتوبة، حتى إنَّ بعضَ النقاد قارن بين شهرة هؤلاء الفنانين في بلادهم ونظيرتها في عالمنا العربي، مؤكدًا أن شهرتَهم في عالمِنا العربيّ تفوقُ بكثير شهرتَهم في سياقِهم التركيّ الأبوي.

واستجابة لهذا القدر الوفير من النجاح ومن إقبال المشاهدين على هذا النمط من المسلسلات كان من الطبيعي أن تتلقف الفضائيات العربية أعمالًا تركية جديدة تحاول عبر استجلابها ودبلجتها استثمار حالة النجاح في مداها القصير أو الطويل، وهو ما يمكن تلمس آثاره من خلال استخدام أداة التحكم، والتنقل بين هذه القنوات الفضائية المتعددة - سواء المتخصصة في الدراما أو الشاملة إذ سيتبدى لنا الحضور الباذخ للمسلسل التركي المدبلج إلى اللهجة السورية في الأغلب الأعم - أو المصرية بشكل قليل أو الفصحى في أحوال أقل حيث أصبح هذا المسلسل عنصرًا رئيسًا على مائدة هذه القنوات التي تحاول عبرها استقطاب المتلقي ومغازلة ذوقه في إطار صراع إعلامي شرس يظل المتلقي هو المستفيد الرئيس منه.

ولا شك أن ظاهرة «الدراما التركية» قد أثارت قلق وهواجس الكثيرين من النقاد والمشتغلين بالدراما العربية، وتباينت ردود أفعال هؤلاء، فبينما أعلن البعض انزعاجه الشديد من هذه الظاهرة محاولًا الانتقال بها إلى دائرة المصطلحات السياسية من نحو الغزو التركي والخطر الأوربي والتوغل العثماني، متخذًا من هذه المداخل مبررًا لمناشدة المسئولين عن القنوات العربية التوقف عن إذاعة هذه الأعمال، حاول البعض الآخر التهوين من هذه الأعمال وآثارها، رافضًا إطلاق لفظة «الظاهرة» عليها ومؤكدًا أن نجاحها لا يعدو أن يكون نجاحًا وقتيًا، سرعان ما ستزول أسبابه، مستدعيا تجربة الأعمال اللاتينية التي حققت نجاحًا قصيرًا على المستوى العربي سرعان ما توارى بمرور الوقت، أما الفريق الثالث فطالب بأن تُترك الأمور للمتلقي ليمنح حقه الكامل في الحكم على تجربة استدعاء الأعمال التركية للعالم العربي دون تعجل وبعد اختمار التجربة وتشكلها.

«حَرِيْمُ السُّلْطَان».. أَصْلُ الحِكَاية

على الرغم من تواصل النجاحات التي حققتْها الأعمالُ التركية الدرامية من أمثال «نور» و«سنوات الضياع» و«العشق الممنوع» مما يجعل من رهان مسئولي القنوات العربية على هذه النوعية من الأعمال رهانًا يملك مبرراته، على الرغم من هذا كله فوجئ الجميع بالإعلان عن بدء إذاعة المسلسل التركي التاريخي «حريم السلطان» على القنوات العربية الفضائية، وهو الخبر الذي تلقاه الكثيرون بعدم الاكتراث، مراهنين على فشل المسلسل، ومستندين في تبنيهم هذا الحكم الاستباقي إلى تجربة المسلسلات التاريخية العربية ذات الإنتاج الضخم التي لم تحقق نسبة المشاهدة المتوقعة لها، غير أن هذه الآراء المتشائمة من نجاح العمل والمتفائلة بانقضاء عهد الدراما التركية على الشاشات العربية وجدت نفسها مضطرة للتراجع عن موقفها السابق عند متابعة الحلقات الأولى من المسلسل التي حققت نجاحًا باهرًا ترددت أصداؤه في أرجاء الوسط الدرامي، مما جعل الكثيرين ينتظرون المسلسل بشغف لاهث ليتابعوا قصة حياة «السلطان سليمان» سلطان العثمانيين العظيم، ومغامراته الحربية، والعاطفية وعشقه الاستثنائي لجاريته الروسية، لتكون الدراما التركية المعروضة على المشاهد العربي عبر هذا العمل - قد نحت منحى جديدًا تذرعت فيه بالإطار التاريخي، لتدخل هذه الدراما في نسختها العربية إلى مرحلة جديدة وهي مرحلة «الأعمال التاريخية الباهرة».

أما الأصول التاريخية لأحداث المسلسل فهي تتعلق بالسلطان العاشر من سلاطين الدولة العثمانية، وهو السلطان سليمان الأول الذي تولى الحكم وعمره 25 عامًا، عقب وفاة والده السلطان سليم الأول سنة 1520م، وظل يحكم حتى وفاته سنة 1566م، مما جعله صاحب أطول فترة حكم في الخلافة العثمانية، عرف عن سليمان طموحه إلى التوسع الكبير فقد قاد الجيوش العثمانية لغزو المعاقل والحصون المسيحية في بلغراد، وضم أغلب مناطق الشرق الأوسط في صراعه مع الصفويين، ومناطق شاسعة من شمال أفريقيا حتى الجزائر، كما ضم أثينا وصوفيا وبغداد ودمشق وإسطنبول وبودابست وبلغراد والقاهرة وبوخارست وتبريز، وسيطرت الأساطيل العثمانية في عهده على بحار المنطقة من البحر المتوسط إلى البحر الأحمر حتى الخليج، وهو ما يبرر اللقب الذي أطلقه عليه الأوربيون وهو «سليمان العظيم»، أما في الشرق فقد عُرِف باسم سليمان القانوني لما قام به من إصلاح في النظام القضائي العثماني. حيث أدخل إصلاحات قضائية تهم المجتمع والتعليم والجباية والقانون الجنائي. كما اشتهر السلطان سليمان الأول بكونه شاعرًا وصائغًا ومحبًا للأدب والفنون.

وتظل قصة زواجه من جاريته الروسية إحدى أشهر القصص في التاريخ التركي، حيث اخترق سليمان بهذا الزواج التقاليد العثمانية، وتزوج إحدى جواريه، وبعد زواجه منها عرفت هذه الزوجة بوصفها ملكة قادرة على تدبير المؤامرات في الحاشية، وعرفت كذلك بتأثيرها الشديد على السلطان، وهو ما يؤكده نجاحها في تهيئة الظروف لتولي ابنها، سليم الثاني، خلافة سليمان بعد وفاته عام 1566 على الرغم من وجود ابن أكبر لسليمان من زوجته الأولى.

الحقيقة المؤكدة أن مسلسل «حريم السلطان» قد طرح مؤشرات نجاحه فور بدء عرضه، وهو ما تأكد بتتابع حلقاته، هذا النجاح الذي يطرح في الآن ذاته جملة تساؤلات مشروعة حول مسبباته التي تتقاطع في بعض جوانبها مع طبيعة الأعمال التركية الدرامية وتفارقها في جوانب أخرى محتفظة بأسبابها الخاصة، وهو ما سنحاول استجلاءه في الجزء التالي من المقال.

الخطوط الدرامِيّة المتَوَازية

على الرغم من المشاكل العديدة التي تكتنف عملية إنتاج عمل تلفزيوني تاريخي، فإن أبرز هذه المشكلات - فضلًا عن التمويل هي الطبيعة الجافة لهذه الأعمال، هذا الجفاف الذي يكتسب كينونته من فكرة انتقال التاريخ من متون الكتب إلى شاشة التلفزيون، وبقدر موهبة مؤلف العمل في النجاة بعمله من شِرك هذا الجفاف - مع حفاظه على الطبيعة التوثيقية للعمل التاريخي - بقدر ما يتحقق لهذا العمل من نجاح.

وقد نجح مسلسل «حريم السلطان» في تحقيق هذه المعادلة الصعبة، لسببين رئيسين؛ أولهما أن المسلسل يرصد فترة تاريخية بعيدة عن الذاكرة العربية المتلقية، فهو يتناول فترة حكم السلطان «سليمان بن السلطان سليم الأول» وفتوحاته المتتابعة، وهو جانب يتلقاه المشاهد العربي - في الأحيان معظمها وهو مرفود بحالة ترقبية طبيعية مصاحبة لعملية التلقي المعلوماتي في صورته المباشرة الأولى، فالمشاهد العربي لا يقوم هنا بعملية مقارنة بين خبرته المعلوماتية التاريخية السابقة وما يشاهده في اللحظة المعاصرة، وإنما تتحد العمليتان ليغدو التلقي والتراكم المعرفي الجديد فعلًا واحدًا، أما السبب الثاني فيتمثل في قدرة مؤلفة العمل «ميرال أوكاي» على صنع عالم ذي شفرة درامية زاعقة، من خلال عزفها على خطين دراميين يتوازيان، وفي بعض الأحيان يتقاطعان، الخط الأول هو الأكثر حيوية يتمثل في صراع الجارية الروسية «ألكسندرا» مع طموحها.

إذا كان الخط الدرامي للعمل يدور داخل القصر، فإن الخط الموازي له يتفاعل خارج حدود القصر، في أثناء رحلة سليمان لتحقيق حلمه القديم بأن يغدو أشهر من الإسكندر بفتوحاته التي يأمل أن تنجح في تحقيق ما فشل فيه أبوه، وما بين الخدع والمؤامرات والتوفيق وعدمه يرتفع المستوى الدرامي لهذا الخط ومن ثم للعمل كله.

العِنَايةُ بالتفَاصِيل

من الأمور المهمة التي تفتقدها الدراما العربية التاريخية الاهتمام بالتفصيلات الدقيقة، وهو ما يتحقق بصورة داهشة في هذا العمل، حيث تبدو الأمور مهما بدت هامشية وثانوية محل اهتمام القائمين على العمل، فانتقاء أماكن التصوير من القصور ومواقع الحروب امتاز بدقة شديدة ساعدت على عكس الطبيعة المتنامية للحضارة التركية آنذاك.

الطبيعة الأيديولوجية للعمل تظل موضع أبحاث استقصائية لا يتسع المقال بالطبع للإحاطة بها، ولهذا سنكتفي بالإشارة إلى بعض جوانبها، علّ الظروف تسمح باستكمالها في حين آخر، فلا شك أن إنتاج عمل يتناول هذه الفترة الزاهية من الحضور التركي على المستوى العالمي، بوصفها الإمبراطورية الحاكمة لنصف العالم، يحقق قدرًا من التناغم مع ما نلاحظه من بزوغ للسياسة التركية وتغلغلها في ثنايا الشأن العربي، ونذكر هنا مظاهر احتفال المصريين بقدوم «رجب طيب أردوغان» رئيس الوزراء التركي واستقباله في مطار القاهرة استقبال الفاتحين، حيث غدا النموذج التركي - على المستويين السياسي والاجتماعي - من النماذج التي يضعها الجميع صوب أعينهم - معترفين أو منكرين وهم ينتقلون لمرحلة جديدة عمادها الديمقراطية، حتى إن أقسام اللغة التركية في كليات اللغات المصرية - على سبيل المثال حققت إقبالًا غير مسبوق هذا العام. معنى هذا أن المجتمعات العربية أصبحت في حالة هيام بالحالة التركية بعد عقود طويلة من الجمود الناتج عن إرث تاريخي كئيب وضبابي.

إن السلطان سليمان يصير بهذا نموذجًا للسلطان العادل الحازم الفاتح والعاشق المحب، الذي يقدس وطنه ولا ينسى قلبه، سليمان الحكيم نموذج الحاكم اليوتوبي في المخيلة الإنسانية.

---------------------------------------

  • ديكور: أحاديثُ الوسائد السبع!

إقبال محمد فريد

على الرغم من أن بيوتنا العربية تمتلئ بالوسائد، مختلفة الألوان، ومتعددة الأشكال، ومتباينة الأحجام، إلا أننا قليلاً ما نحظى بهدية على شكل وسادة من أحد! ربما لأن الوسادة اختيار شخصي، وحميمي، يصحبك في المنزل إلى أي ركن. وفي المنازل العصرية أصبحت الوسائد تشكل جزءًا أساسيًا من الديكور، وعلى سبيل المثال فإن ركنا فارغًا يمكن أن يتزين كأبهى ما يكون ببساط داكن ووسائد ملونة!

1 - الوسائد الزخرفية الكبيرة مهمة في تكوين الغرفة وهي طريقة سريعة وغير مكلفة لتحسين التصميم الداخلي. إن الخيارات الكثيرة للوسائد تتماشى مع خفتها وسهولة نقلها، وإعادة تصميمها بغطاء جديد.

2 - الوسائد الزخرفية الأكثر شيوعًا هي وسائد الحرير الأنيقة والعصرية، ذات التطريز التقليدي. اختيارك للوسادة يعكس أسلوب حياتك، فهي قطع زخرفية قوية، وهي توجد على الأرائك، وعلى الأسرة، والمقاعد، حتى في الأرفف وفوق الأرضيات. ولذوق رفيع يتكئ المصمم على اختيار وسادة الحرير الزخرفية، ذات النسيج الهش، وتستوحى رسومها من الطبيعة، وخاماتها تتسم بالقوة بالرغم من رقتها.

3 - ألوان الوسائد الزاهية والجريئة تحدد موضوعها، ولكن الوسائد ذات الألوان المحايدة يمكن تحريكها بسهولة مع أنواع مختلفة من الأثاث.

4 - الوسائد تعكس أحد أمرين، إما أنها ذوق شخصي لأصحاب المكان، وإما أنها مكمل تصميمي للمهندس المزخرف الذي يختار الوسادة لتستجيب مع لون الطلاء أو زخرفة خشب الأريكة أو قماشها، على سبيل المثال.

5 - تقدم الوسائد إيحاءات الجغرافيا والتاريخ، ولذلك نجد وسائد البوب آرت التي تقدم شخصيات عالمية، ووسائد لمعالم المدن، وأخرى تطرزها أبجديات ولو كانت غير مفهومة الحروف!

6 - لذوق طفولي هناك وسائل محورة على شكل حيوانات. وضع هذه الوسائد في غرف الأطفال يساعد على جذبهم للنوم، خاصة هؤلاء الذين يعانون الأرق.

7 - نحتاج في تصميم الوسائد إلى تجربة مزج الأقمشة المختلفة، تمامًا كما نؤكد على أهمية تعدد الأشكال والأحجام، هذا يعطي عمقًا في تصميم المكان. ويعرف المصممون المحترفون أهمية نظرة الطبقات المتعددة لخلق وهم مساحة ثلاثية الأبعاد باستخدام مجموعة متنوعة، هناك وصفة مجربة لوضع وسائد زخارف نباتية، مع طبيعة صامتة، وخطوط تجريدية، لتكون مجموعة تحيط ضيوفك وأفراد أسرتك على حد سواء بالدفء.

---------------------------------------

  • عمارة: المدينة في رحلة داخل سيارة الأجرة

زينة الشيخ

الكل يستقل سيارة الأجرة لأنه مستعجل، إما للذهاب إلى العمل، وإما إلى السوق أو ربما لحضور مباراة كرة قدم. وغالبًا ما يكون السيناريو المعتاد للرحلة, مهما طالت أو قصرت, على النحو التالي: نفتح الباب ونجلس، ثم نخبر السائق بوجهتنا فيمضي في طريقه، وتنتهي هذه الرحلة بدفع الأجرة والترجل ويذهب الكل إلى حال سبيله. وكثيرًا ما تمضي الدقائق بصمت لا يكسر جداره سوى أصوات السيارات من حولنا، أو صفارة شرطي المرور، وربما الباعة المتجولون، أو صوت المذياع والأغاني التي يفرض علينا سماعها عنوة بحسب رغبة السائق ولونه الموسيقي المفضل.

ومن حسن الحظ أو ربما سوئه، قد يكون السائق اجتماعيًا أو فضوليًا أو ثرثارًا. فبعض سائقي سيارات الأجرة يفتح أحاديث شتى بإذن أو من دونه: غلاء المعيشة، سعر البنزين، مصاريف الأولاد، إلخ. وتضطر للاستماع شئت أم أبيت. وهو لا ينتظر في أغلب الأحيان ردًا أو حتى مشاركة في الحديث، بل يكفي الاستماع، وكأن حديثه مونولوج داخلي بصوت مرتفع أمام غريب قد لا تشاء الأقدار أن يلتقي به مرة أخرى. ولكن ماذا لو علقنا وسط زحمة السير الخانقة، أو أصبحت الرحلة أطول بسبب الحفريات المفاجئة؟ فهل سنستسلم للقدر المحتوم في سماع أغانٍ لا نحبها، أو قصة حياة السائق التي لا تنتهي ومشاكله العائلية؟ أم نترجل ونتابع الطريق سيرًا على الأقدام؟ ألا يمكن لهذا الانتظار أن يكون أكثر إلهامًا بمجرد النظر من النافذة، ورؤية ما حولنا بشكل مختلف؟

إن للجلوس داخل سيارة الأجرة والنظر من النافذة متعة حقيقية، وعلى الأخص بالنسبة لمن يرفض فكرة قيادة السيارة داخل المدينة مثلي. فنحن غالبًا ما نسهو عن أشياء كثيرة حولنا لانشغالنا في تفاصيل حياتنا اليومية: فالرصيف الذي أنظر إليه من نافذة سيارة الأجرة لم يعد ذاته الذي أسير فوقه بخطى مسرعة دون أن يتسنى لي الوقت لرؤية ما يوجد على جانبه، وكذلك المتسول الذي كنا نصطدم به، وبائع الفول. وحتى المباني والعمارات، فإن تفاصيلها تصبح أكثر وضوحًا بمجرد السير على بعد مسافة منها، الكل أصبح مختلفًا بمجرد النظر إليه عن بعد، وبعين أخرى.

وتمر بخاطري كلمات كيفن لينش في كتابه الأزرق الشهير صورة المدينة (The Image of the City) الذي يصور فيه الانطباعات البصرية لثلاث مدن أمريكية بوسطن، جيرسي ولوس أنجلوس، والذي يعد ألف باء التصميم العمراني من خلال ما قام بتحليله ومناقشته في دراسة عناصر التصميم العمراني لتلك المدن، حيث قال: «... مثل قطعة هندسة معمارية، المدينة بناء في الفراغ لكن بمقياس واسع، شيء يتم إدراكه فقط على مدى فترات طويلة من الوقت. في كل لحظة هناك أكثر مما يمكن للعين أن ترى، وأكثر مما يمكن للأذن أن تسمع، مكان أو منظر ينتظر أن يتم اكتشافه. لا شيء مجربًا وحده، ولكنه دوما على علاقة بمحيطه، تعاقب الأحداث التي أدت إليه، ذاكرة التجارب الماضية...». فالمشاعر والأحاسيس التي تنتابنا في كل مكان نكون فيه تختلف بحسب ما نحمله في الأصل بداخلنا من مشاعر وذكريات، ويكفي في بعض الأحيان أن يقع بصرنا على شيء صغير ليؤجج الكثير من المشاعر. وربما يلعب الطقس دورًا فيما نشعر به أيضًا، فالنظر للشارع من النافذة في صباح يوم ماطر واللون الرمادي يغلف المدينة، يمنح شعورًا بالسكينة والحزن الهادئ الذي قد يدعو للبكاء أحيانًا، في حين أن النظر من النافذة نفسها في صباح ربيعي مشمس سيوحي بمشاعر أخرى أكثر بهجة.

وكذلك وصف الفنان التشكيلي البلجيكي باترك كوريون في أحد معارضه، العلاقة بين الإنسان والزمان والمكان، والحنين الغامض الذي يلف هذه العلاقة الثلاثية، في قوله: «إننا نادرًا ما يكون لدينا شعور بالانتماء جسدًا وروحًا - لمكان واحد. إننا نعيش في مكان وسيط يتداخل فيه كل ما تقع عليه الأعين وكل ما يجول في الذهن. من المستحيل وصف هذا المكان الثالث؛ لأنه من الصعب أصلاً إدراك الفراغ الذي نوجد فيه، كيف يمكن الحديث عن العناصر التي نضيفها والمؤلفة من أشياء اعتقدنا أننا عشناها، لكنها كانت ببساطة قد رويت لنا، من أشياء اعتقدنا أننا فقدناها لكن في الواقع لم نحصل عليها قط، كيف يمكن الحديث عن وجه أولئك الذين أحببنا لكننا لم نأخذ الوقت أبدًا لمشاهدته».

كما ناقش د. ناصر رباط العلاقة المتبادلة بين العمارة والذاكرة في كتابه «ثقافة البناء وبناء الثقافة»، حيث قال: «العمارة والذاكرة مفهومان قد يبدوان للوهلة الأولى معدومي الصلة بعضهما بعضًا، بل واقعان على طرفي نقيض في العالم الحسي والإدراكي.

ومع ذلك فالعمارة والذاكرة، ببعديهما الجمعي والفردي، مترابطان في تاريخ التجربة الإنسانية ترابطًا تبادلي التأثير: العمارة تؤطر الذاكرة، تجذرها وتعطيها شكلاً، وهي أيضًا تعكس ما اختزنته الذاكرة من المبدعة من صور ومفاهيم وتجارب، وما أسقطته عليها الذاكرة الجمعية من مواقف ومشاعر ومعتقدات. والذاكرة تستعمل صور العمارة، الواقعية والخيالية، التاريخية وغير المتكونة في آن واحد، كمنافذ للتعبير عن نفسها». فالمكان، أي مكان، يترك أثرًا في الذاكرة بما ولده في يوم ما من ذكريات: فقد يعود المرء بعد غياب سنوات وعقود إلى البيت الذي ولد فيه، وتعود به الذاكرة إلى الدمية التي لعب بها قرب ذلك الباب، أو الحلوى التي أكلها قرب تلك النافذة.

وباختصار، هاهي المدينة من منظور جديد، يدخل فيه الزمن كبعد رابع يجعلنا نرى ما حولنا بشكل آخر ربما أكثر إنسانية وأقل جدية. فالمدينة عندما ننظر إليها من سيارة الأجرة لم تعد مجرد حيز مكاني تحدد ملامحه عناصر مادية ومعنوية، وتنتظم العلاقات بين مكوناته المختلفة ضمن نظام معين، كما أنها لم تعد تشكيلاً ثلاثي الأبعاد مؤلفًا من عناصر أفقية ورأسية ترسم خط السماء، بل شريط سينمائي تتلاحق فيه المناظر بحسب سرعة السير المسموحة. أتابع هذا الشريط بكل ما فيه من ضوضاء وغبار، وازدحام وتلوث بعيون أخرى، أكثر فضولاً وأقل استعجالاً. فالمدينة التي اعتدت أن أراها من وجهة نظر معمارية: مخططات بألوان شتى لاستعمالات ووظائف مختلفة، ومبان بارتفاعات وواجهات مختلفة، وأنظمة بناء أو مخالفات بناء، أصبحت الآن أتابعها بعينين فضوليتين تحاولان الإحاطة بكل التفاصيل التي غفلت عنها في الماضي، وبأقل وقت ممكن؛ فالرحلة قد تنتهي في أية لحظة.

«وصلنا، الأجرة لو سمحت». يبدو أن لحظة التأمل تلك كانت أطول مما توقعت. ترى، هل نسيت أن أدون شيئا مما دار في ذهني في رحلتي اليوم داخل سيارة الأجرة؟