معاقبة صدام: سياسات التدخل في العراق

معاقبة صدام: سياسات التدخل في العراق

عرض: د. محمد السيد سعيد

الأزمة الممتدة بين النظام العراقي والعالم هي معمل كامل للتحليل السياسي والتاريخي، مزود بأمثلة لا حصر لها لأشد الأحداث مأساوية، ولأكثر الوقائع مدعاة للحزن.

في هذا المعمل، لا تكف الأسئلة عن الانبثاق، حيث يمكن للعلماء تقديم إجابات جزئية ونسبية، قد تساعدنا- في أفضل الأحوال- على تمثل تقريب بعض مما حدث لعقولنا، دون أن تقدم أبداً إجابات شافية،ودون أن نتمكن من فهمها تماماً، وقد ترجع تلك الصفة لا إلى غرابة تلك الأحداث وخراقة تلك الأفعال التي قادت وعقدت الأزمة، فحسب، بل وأيضا إلى استمرار تعذر الكشف عن بعض أسرار النفس البشرية، وكذا بعض أسرار السياسة والمجتمع، في كل مكان، وفي منطقتنا هذه بالذات.

وربما يتطلب الأمر حقبة ممتدة من الاكتشافات العلمية التي تفك شفرات الحدث التاريخي والقرار وصناعته في ظل النظامين السياسيين: المحلي "العراقي"، والدولي، قبل أن يكون بوسعنا الاطمئنان إلى أن ما فهمناه حتى الآن من ارتطامات صراعية فاقدة للمغزى والمعقولية، والبقاء والتعايش، والتواطؤ المقصود وغير المقصود، والقسوة اللا متناهية والغفران الخامل، والتسليم المذهل أحياناً للأقدار، مع دفع طاقات التحمل لدى الشعوب إلى ما هو أبعد من الطاقة البشرية.. إلخ ، ما فهمناه من ذلك كله يتسق مع حقائق التاريخ العالمي والإقليمي الكثر عمقاً، وليس مجرد كابوس مروع أنتجته أكثر لحظات التاريخ خبلاً.

ويعالج هذا الكتاب بعضاً من تلك الوجوه الكثيرة لتلك الأزمة، كما تداعت منذ حرب تحرير الكويت، وهو ما يتطلب بحث واستعراض التطور الممتد والمعاصرة لأحداث الأزمة ذاتها، ولنظام العقوبات، وما ترتب عليه من نتائج بالنسبة للدولة والمجتمع في العراق، والاختيارات الصعبة المطروحة أمام العمل الإنمائي والإنساني، ومسئوليات مختلف الأطراف عن صعوبات إيجاد علاج ملائم للمآسي الإنسانية التي استمرت دون حل مرض، وآليات السيطرة والتلاعب بعناصر المجتمع العراقي بهدف بقاء النظام، ومن ضمنها هذه المآسي ذاتها.

ويبقي السؤال الرئيسي الذي تطرحه المؤلفة على نفسها، والذي ينتظم أقسام الكتاب كله هو ما يلي: لماذا لم يتمكن أي طرف من وضع نهاية لتلك الأزمة الممتدة. فحتى هذه اللحظة من عام 1999، وفي العام التاسع لتلك الأزمة كانت الطائرات الأمريكية تدك أهدافاً عراقية في منطقة حظر الطيران، وكان الحظر الاقتصادي قائما، ولم يكن مطروحاً أمام المجتمع الدولي أي حل أو تصور واضح يمكنه وضع نهاية حاسمة لتلك الأزمة، ولم يتمكن الأعضاء الدائمون بمجلس الأمن من كسر الجمود الناشئ عن خلافاتهم حول المطلوب عمله تجاه العراق، والأسوأ أنه أيا كان الموقف الذي يتوحد المجتمع الدولي، لو كان هناك مثل هذا الموقف، فإنه سيتضمن علاجاً لعض جوانب الأزمة مع بقاء بعضها الآخر قائماً أو حتى متجهاً للاستفحال. والسؤال هو: لماذا وصلت الأمور إلى هذا الطريق المسدود؟

التحالف غير المقصود؟

وتبدأ الأفكار والاستنتاجات الرئيسية لهذا الكتاب متوافقة إلى حد ما مع النظرية الرائجة شعبياً في الوطن العربي، والتي تقول أن الولايات المتحدة كانت ترغب في بقاء النظام العراقي الحالية بقيادة صدام حسين باعتباره " أقل الاختيارات سوءاً" ، ويبدو أن هذا الموقف كان اختياراً واعياً في البداية. وما لا تقوله المؤلفة هو أن الأمر ربما يكون قد خرج من يد أمريكا بعد ذلك، هذا وإن كان سردها للوقائع واستنتاجاتنا التفصيلية تؤيد هذا الافتراض. ورغم أن هذه المسألة لم تأخذ سوى حيز ضئيل من الكتاب، فإنها تبدو وكأنها محورة ، أو نتيجته الجوهرية والتي تكمن خلف معظم القضايا المبعوثة فيها.

ولنعد إلى الكتاب نفسه، إن ينقسم إلى ثلاثة أقسام ، جاءت في ثمانية فصول، إضافة إلى المقدمة والخاتمة والملحقات والببلوجرافيا. القسم الأول جاء بعنوان السياسية الدولية نحو العراق ونتائجها في الفترة 91-1998 . أما الثاني فيعالج التطور الداخلي في العراق منذ نهاية الحرب وجاء بعنوان "سلطة الدولة " البقاء والصراع في العراق منذ 1991 .

أما الجزاء الثالث فيركز تحديداً على سياسات الإغاثة والمساعدة الإنسانية في العراق، وهو بعنوان "تجميع الأجزاء" برامج المساعدة الإنسانية في العراق 91- 1998 .

والواقع أنه لن يكون من الممكن فهم هذا الكتاب، بما جاء فيه وتم توثيقه بدقة، وما غاب عنه وحجب عن البحث ، إلا من خلال تجربة المؤلفة كواحدة من المشتغلات مع وكالات الإغاثة الدولية بين عامي 91 و 1994 .

فالأسئلة والقضايا الرئيسية التي تبحثها المؤلفة انطلقت كلها من انشغالها بمسألة الإغاثة الإنسانية ، ومن ثم بقضية العقوبات . وقد انطلقت من هذه المسألة إلى القضايا السياسية الأوسع حسبما حتمه قلقها بصدد مغزى وفعالية الإغاثة الإنسانية في ظل الأزمة وما صاحبها من شروط سياسية . وبذلك احتلت قضية العقوبات الحيز الرئيسي للكتاب كله .

ولا شك أن أبرز القضايا التي أثارتها المؤلفة في مقدمة الكتاب هي ما أسمته سياسة المعلومات Politics of infrmation ، وتعني بذلك صعوبة الحصول على معلومات بريئة من الأهداف السياسية ومنزهة عن التلاعب. فالمعلومات المحيطة بالأبعاد الإنسانية للأزمة داخل العراق ومن ثم بنتائج العقوبات الدولية كانت دائماً مسيسة . فالحكومة العراقية دأبت منذ بدء نظام البعث عام 1968 على التلاعب بالمعلومات. وقد سعت الحكومة لإلقاء اللوم على الولايات المتحدة والنظام الدولي لاستمرار معاناة العراقيين. أما هؤلاء، فقد سعوا لإبراز مسئولية الحكومة والنظام البعثي والقيادة العراقية وحدها عن استمرار العقوبات وعن الأوضاع الإنسانية المتردية في العراق.

وفي نهاية المقدمة ، تحاول المؤلفة الفكاك من أسر حرب المعلومات بالقول إن التركيز الأحادي على صدام حسين وبعض الشخصيات المشهورة بالقسوة حوله منع إمكان تفسير لماذا استمر النظام الذي زج بالعراق في حربين مدمرتين وعقوبات اقتصادية ممتدة وصارمة .

قبل غزو الكويت

وتقول المؤلفة إن الإجابة لا بد أن تذهب بعيداً، وإلى ما قبل أزمة الغزو العراقي للكويت، حيث إن القضايا الجوهرية التي برزت بعد 1991 بدءاً من أسلحة الدمار الشامل حتى حقوق الإنسان كانت لها جذورها الواضحة في الثمانينات ، ومعروفة تماماً لدى الدول الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، وهو ما أظهرته لجنة سكوت في المملكة المتحدة وتحقيقات الكونجرس في الولايات المتحدة.

وتشير المؤلفة هنا إلى التواطؤ الصريح والمضمر، والسكوت عن جرائم النظام العراقي أو الاحتجاجات الشكلية التي لم تؤثر سلباً على المصالح التجارية والعسكرية المتنامية مع النظام العراقي. فأوضاع حقوق الإنسان كانت معروفة لعقد كامل قبل الغزو، وهو ما يظهر حتى الآن في بقاء ما يقدر عددهم بأربعة ملايين عراقي خارج بلادهم. وما كان قد ظهر في حملة ترحيل "الفارسيين" ، وفي عملية الأنفال خلال عامي 1988 و 1989 . كما تعاونت دول غريبة عديدة مع برامج التسليح العراقية رغم ظهور تقارير تشير إلى تطور هائل لبرامج تطوير أسلحة الدمار الشامل.

وتؤكد المؤلفة في التمهيد للكتاب أن جانباً كبيراً من المشكلة الإنسانية التي برزت في سياق فرض وإدارة نظام العقوبات ضد العراق يمكن تفسيره بأن القرار الخاص بمواجهة العراق قد تأثير كثيراً بالعسكريين. ذلك أن التهديد باستخدام القوة ، واستخدامها فعلاً لإجبار العراق على الانسحاب من الكويت لم يتم بعد ثبوت عجز العقوبات الاقتصادية في التطبيق، وإنما بالتوازي مع هذه العقوبات. كما أن توقيت إنهاء العمل العسكري قد ترك للعسكريين الذين رغبوا في "المغادرة سريعا" حتى لا يصبحوا أسرى دوامة سياسية داخلية.

النتائج غير المتوقعة

في نهاية الجزء الأول تشير المؤلفة إلى النتائج الأساسية لبحثها حول السياسات الدولية تجاه العراق وهي الافتقار إلى وضوح الأهداف، ومن ثم تآكل الأرضية المشتركة بين الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، وتمكن النظام العراقي من استثمار الخلاف ، والضعف المتزايد للموقف الأمريكي بسبب كونه غير متضافر مع إستراتيجية واضحة.

وتؤكد المؤلفة في الفصل الأول أن الدول الرئيسية دائمة العضوية بمجلس الأمن قد اتخذت مواقف قصيرة المدى من الأزمة الإنسانية التي كانت تستفحل في العراق بسرعة بعد الحرب. ولم يكن لصانع القرار في الغرب معرفة وثيقة بالعراق بما يسمح بفهم النتائج الأبعد مدى للقرارات المتخذة . أما الحكومة العراقية فكانت تتخذ قرارات تدور أساساً حول بقائها في السلطة يوماً بيوم.

لقد كانت الإدارة الأمريكية تتقد أن صدام حسين لن يبقى بعد هزيمته المهينة وكان كل ما لديها هو الإصرار على تطبيق شروط صارمة قاسية للغاية لوقف الحرب، وهو ما يضمن إضعاف العراق، بغض النظر عن نخبة الحكم التي تقوده. ولذلك أصر القرار 686 على أن تقبل العراق جميع قرارات الأمم المتحدة الاثنى عشر الصادرة منذ 2 أغسطس.

وتؤكد المؤلفة أنه عندما تقابل قادة التحالف مع الضباط العراقيين في صفوان في 3 مارس 1991 لم يكن لدى شوارتزكوف أدنى اهتمام بالاضطرابات المدنية التي تفجرت في العراق. بل إنه فاجأ الضباط العراقيين بالموافقة على إمكان قيام العراق بطلعات بالطائرات المروحية العسكرية، ولكن ليس بطائرات مقاتلة أو قاذفة في المناطق التي لا توجد بها قوات تحالف.

وقد سمح ذلك للحكومة العراقية باستخدام الطائرات المروحية مع المدفعية وقوات المشاة لسحق الانتفاضة التي انفجرت في الجنوب ، والشمال. واختارت أمريكا موقف "الحياد" في الصراع الداخلي. وحذرت إيران من التدخل في الجنوب.

وتفسيراً لهذا الموقف من هذا الانتفاضة الشعبية في الجنوب أكد برنت سكاو كروفت مستشاراً الأمن القومي في ذلك الوقت أن الأمريكيين " كانوا بوضوح يفضلون حدوث انقلاب . وقد ساهمت عدة دول عربية في الاعتماد على- أو انتظار- وقوع انقلاب. بينما تؤكد المؤلفة أن هذه الفكرة تفتقد المنطق، لأن الضباط الذين كان ينتظر تحركهم قد اعتقدوا أن "الولايات المتحدة لن تساند تمرداً عسكرياً" ، وذلك بعد قراءة الموقف الأمريكي من الانتفاضة الشعبية.

ويبدو أن مدرستين تصارعتا داخل الولايات المتحدة، الأولى تقبل بسيناريو ثورة شعبية تتحرك أساساً من الجنوب والشمال: أي من جانب الشيعة والأكراد . أما الثانية فكانت تنتظر تحركاً من داخل السنة، وتؤكد أنه لن يتمتع أي تغيير سياسي في العراق بالاستقرار إذا كان محروماً من تأييد السنة.

وقد كسبت المدرسة الثانية المناظرة بسرعة، وذلك بسبب خشية أمريكا والعرب معاً من ثورة في الجنوب تفتح الطريق أمام نفوذ إيراني في العراق.

إن هذا التوقع الأخير لم يكن صحيحاً، وكان يتناقض بشدة سواء مع المشاعر الوطنية الشيعية التي ظهرت أثناء الحرب العراقية- الإيرانية، أو حتى من موقف الشيعة من الشعارات الثورية التي طرحها كادر المجلس الأعلى للثورة الإسلامية المتحالف مع إيران أثناء الانتفاضة، وهو موقف كان سلبياً إجمالاً ، تفسره غيرة الشيعة العراقيين على استقلال بلادهم.

وحيث إن السنة العراقيين لم يتعاطفوا مع الثورة، ولم يقوموا بأي تحرك سريع، فقد اعتمد الأمريكيون على القسوة الشديدة في قرار مجلس الأمن رقم 687 الذي وضع نهاية دائمة لإطلاق النار، والصادر في الثالث من إبريل . ووفقاً للقرار يبقى الحظر حتى إزالة أسلحة الدمار الشامل، وتقوم لجنة أمم متحدة بترسيم الحدود مع الكويت ، ويقبل العراق بدفع تعويضات للحرب. وكان المنتظر أن يؤدي قبول العراق للقرار إلى إزاحة صدام حسين عن السلطة. وهو ما لم يحدث لأسباب تناولتها المؤلفة ضمناً في الفصول التالية من الكتاب.

أو أول هذه الأسباب هو سماح قوات التحالف للحكومة العراقية بسحق الانتفاضة ، في الشمال والجنوب، وهو الأمر الذي أدى إلى أزمة اللاجئين.

وبعد شرح أبعاد هذه الأزمة باستفاضة، تستنتج المؤلفة أن دول التحالف قد أرغمت على إنشاء "المنطقة الآمنة " في الشمال، ثم منطقة حظر الطيران في الجنوب، كاستجابة للتحديات اليومية ، ومن بينها- ولكن ليست كلها- أزمة اللاجئين المترتبة على سحق الجيش العراقي الثور الكردية في الشمال وللانتفاضة الشعبية في الجنوب. وقد نشأ هذا المفهوم بسبب الخوف من الأكراد والشيعة وليس فقط بسبب القلق على مصيرهم.

ولذلك ، يمكن اعتبار إعلان نوايا سحب القوات الأمريكية من العراق أحد أهم أسباب فشل مفاوضات الزعامات الكردية مع الحكومة العراقية. فبينما كانت الأخيرة تبدي مرونة كبيرة في جولة المفاوضات الأولى في إبريل، فإنها بعد إعلان انسحاب قوات التحالف تشددت إلى الحد الذي أدى إلى انهيار المفاوضات في يونيو 1991.

وترى المؤلفة كذلك أنه بينما كانت عمليات "المنطقة الآمنة" و "الإرادة" هي الأضخم والأكثر تعقيدا التي قام بها عسكريون في ميدان تأمين الإغاثة الإنسانية ، فإن الرسالة السياسية كانت مشوشة. وبالنسبة لأمريكا اكتسبت الأهداف السياسية أولوية على الأهداف الإنسانية . وكذلك ، فإنه بينما منح القرار 688 لمجلس الأمن شرعية كبيرة لفكرة حماية المدنيين ضد عسف واضطهاد دولتهم ، فان هذا المبدأ تم تجاهله، في الواقع السياسي العملي.

العقوبات

إن الهدف الأصيل من العقوبات- وهو تحرير الكويت- قد تحقق بالحرب. ولكن مجلس الأمن اختبار إبقاء العقوبات لتحقيق أهداف أخرى. ولم يكن من الممكن التنبؤ بذلك قبل الحرب، أو بأن الحظ الاقتصادي سيمتد إلى اللحظة الراهنة. وقد نتج ذلك عن تشوش هذه الأهداف، وتضاربها. فالهدف الماثل في تغيير سلوك الحكومة العراقية وتحديداً إزالة أسلحة الدمار الشامل ، وقبول سيادة الكويت وعودة الممتلكات، هو ما ورد في القرار 687 ، أما الهدف الثاني وهو إسقاط النظام السياسي أو إحداث تعديلات دستورية وسياسية كبيرة داخلية وكذلك تكثيف الضغوط وتحقيق الاحتواء، تمهيداً لسقوط النظام ، ولكن ما حدث فعلاً هو التعايش مع استمرار نظام صدام حسين. فلم يكن لدى إدارة بوش أو إدارتي كلينتون استعدادا لما هو أكثر من إدارة الأزمات مع النظام العراقي، ولم تتقدم هذه الإدارة الأخيرة لما هو مطلوب حقاً: أي وضع تصور مقبول لمستقبل المنطقة، وهو ما يحتوي على- ويحدد- القضية الخاصة بوضع تصور مقبول من الجميع عن مستقبل العراق.

وقد ترتب على ذلك عندما بادر الكونجرس بإصدار " قانون تحرير العراق" في عام 1998 ، أصبح من الصعب للغاية إسقاط النظام، إذ سيؤدي أي عمل قصدي لتحقيق ذلك إلى قدر هائل من العنف الذي تنفر منه الدول العربية والمجتمع الدولي على السواء.

إن إدراك هذه الحقيقة يقود إلى مزيد من الاعتماد على نظام العقوبات، وهو ما يضاعف الخلاف بين أطراف المجتمع الدولي.

ومثل إقامة ميكانيزم النفط مقابل الغذاء المجسد في القرار 986 توسيعاً مهماً لمجال الإغاثة الإنسانية . ولكن الولايات المتحدة ارتضته لسبب آخر، وهو تخفيف الضغوط من أجل رفع العقوبات. وبقدر ما ينظر لهذا القرار كعمل إغاثي ، فإنه يمثل المفتاح الحقيقي لاستمرار نظام العقوبات على العراق.

ومن الطريف أن نلاحظ كيف تتغير حجج الدول تبعاً لمصالحها . فأمريكا كانت قبل الحرب تقول إنه لا يمكن الاعتماد على العقوبات الاقتصادية لتحقيق أهداف سياسية. ولكنها بعد الحرب صارت المدافع الرئيسي وأحياناً الوحيد عن هذا المنطق. أما المعارضون لاستمرار نظام العقوبات الاقتصادية، فقد كانوا يؤكدون- قبل الحرب- وجوب إعطاء العقوبات الاقتصادية فرصة كافية للتأثير السياسي ، وكانوا متفائلين كثيراً بذلك !!

الفخامة وسط مظاهر الجوع

لماذا تمكن النظام من البقاء ؟ سؤال تحتاج الإجابة عنه إلى بحوث معمقة في ميادين مختلفة . ولا شك أن التاريخ الطويل للحكم التسلطي، والفترة الطويلة من المواجهات مع " أعداء خارجيين " قد خدما هدف بقاء نظام أدت سياساته إلى خراب البلاد. ولا شك أن إعادة الضوابط القمعية للعمل وما يتضمنه ذلك من انتهاكات هائلة وواسعة النطاق لحقوق الإنسان يشكل سبباً إضافياً . غير أن اليأس من التغيير، ومضاعفة كراهية غالبية السكان لنظام الحصار والعقوبات يمثلان عاملين إضافيين.

وأخيراً، فإن نجاح النظام في إعادة بناء بعض المرافق الأساسية التي ضربتها حربان ممتدان قد يلقي مزيداً من الضوء على هذه النتيجة.

يستلزم فهم بقاء النظام السياسي- وهو موضوع الفصلين الرابع والخامس من هذا الكتاب- فهم الكيفية التي مزج من خلالها النظام بين عوامل ووسائل القهر وعوامل ووسائل التلاعب.

فقد نجح النظام أولاً في الإفلات من النتائج الحتمية لهزيمته المروعة وسوء إدارته للأزمة والحرب ليس فقط بسبب سحق انتفاضة الجنوب بدون رحمة. فقد أشعل ضباط وجنود الجيش المنسحبون من الكويت الثورة. ولكن النظام استمر يتمتع بالتأييد بين الزعماء العشائريين في الريف، وبعض المواطنين في المدن. وساعد ذلك على ذلك أيضاً أن بغداد التي لم تكن قد أدركت بعد حجم الهزيمة لم تشارك في الانتفاضة. ولعبت الحكومة أيضاً بالعوامل السياسية، فقد تم تعيين سعدون حمادي- وهو شخصية شيعية بارزة- رئيساً للوزراء في نفس الوقت الذي كان يتم فيه سحق ثورة الشيعة بكل قسوة.

ولا شك أن نجاح الحكومة في استعادة جانب مهم من الخدمات الأساسية بعد فترة وجيزة، وبأسرع مما توقع معظم المراقبين قد أسهم في استعادة الحياة "الطبيعية" إلى حد ما ، وهو ما ساهم بدوره في " إخماد حس الثورة" لدى العراقيين، وخاصة في بغداد ومحافظات الوسط.

لقد قدرت بعض المصادر حجم التدمير الذي وقع للبنية الأساسية في العراق بين عامي 1980 و 1988 فقط بنحو 126 مليار دولار. ونال البصرة والعمار دمار شبه كامل. بينما ظهر فيما بعد أن القصف الجوي من جانب الحلفاء قد أحدث ضرراً أقل بالترسانة العسكرية العراقية، وضرراً أكبر بالبنية الأساسية مما كان مقدراً. وتمثلت المشكلات الأساسية في خسارة الطاقة الكهربية، من ثم انهيار مرافق المياه والصرف الصحي والري الزراعي، وهي أنشطة تعتمد على مضخات كهربية. وقامت الحكومة بخطة طوارئ لمدة ثلاثة شهور بدءاً من إبريل 1991 لاستعادة الخدمات الأساسية، ونجحت في ذلك بتوصيل نسبة التشغيل إلى النصف في بغداد ومحافظات الوسط. أما خارج بغداد فقد استمرت الأوضاع سيئة عموماً.

لقد واظب النظام على التصرف حتى في مجال التعمير وإعادة البناء على ضوء المعايير والأهداف السياسية . إذ كان من الضروري أولاً إظهار الالتزام بإصلاح المرافق وإعادة البناء أمام الجمهور الذي يمثل القاعدة الاجتماعية الأساسية للنظام. كما أن فكرة "الاعتماد على الذات" في التعمير تظهر قوة القيادة، وتخدم هدف إشاعة نموذج"للبطولة" وهو نموذج يلعب دوراً جوهرياً في الدعاية السياسية للنظام.

غير أن هذه الفكرة الأخيرة ذاتها امتدت إلى إفراط ملحوظ في مشروعات "استعراضية" شملت إعادة بناء وزارة الدفاع ، وبرج صدام الذي بني لاستدعاء عظمة برج بابل، وبناء مسجد كبير ببغداد "لم يدخل حيز التنفيذ" وطائفة كبيرة من القصور الجديدة المخصصة لصدام حسين.

والواقع أن الجمهور العادي في العراق لم يقتنع بهذه المشروعات الأخيرة. ولم تكن الدعاية ذكية مطلقاً فيما يتصل بهذه المسألة ، لأن الفخامة غير العادية لهذه المشروعات تتناقض مع الفقر الشديد الذي تعاني منه حتى الشرائح العليا من الطبقة الوسطى.

وعلى نفس المنوال ، فقد أدت هذه المشروعات إلى تكامل استثنائي بين دعاية صدام حسين التي تستدعي ذكريات المجد وحوافز البطولة والفخامة ، ودعاية الغرب وأمريكا تحديداً التي تلقي باللوم في بؤس العراقيين على كاهل نظام يتصرف بعدم مسئولية ويهدر موارد البلاد، في الوقت الذي يتحدث فيه عن وفيات الأطفال بسبب الحصار!!

سوء الإدارة الاقتصادية

إن النجاح النسبي في إعادة تشغيل 50% محطات الطاقة، ومن ثم المياه والصرف والمرافق الأساسية يجب أن يقوم في الإطار الأوسع للإدارة الاقتصادية. فالفقر الذي أصاب العراق ليس نتيجة للعقوبات فحسب، بل ولسوء الإدارة الاقتصادية أيضاً. وقد ترتب على ذلك أن هبط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي عام 1993 ليصل إلى مستواه عام 1960.

ويعنى ذلك إعدام منجزات نصف قرن من النمو والتحسن في مستويات المعيشة. ولا شك أن الإدارة الاقتصادية عن طريق التضخم وطبع النقود تشكل أحد جوانب المشكلة الاقتصادية.

ويكمن وراء سوء الإدارة الاقتصادية أنها تنهض على أسس سياسية وليس أسسا اقتصادية، وغدا شئنا أن نفهم جانباً من نجاح الحكومة في البقاء فغنه يتمثل في التضحية بالنمو الاقتصادي الحقيقي من أجل تحقيق هذا الهدف. ولا شك أن اعتماد السكان على نظام التموين الذي تديره الحكومة يمثل جانباً آخر من أسباب بقاء النظام السياسي رغم ما ارتكبه من أخطاء جسيمة، ويرتبط نظام التموين ليس فقط بالسيطرة على المجتمع، وإنما أيضاً بالسيطرة علي الثروة . إذ إن نظام التموين خلق نشاطا تجاريا واسعاً كان في البداية خاضعا للحكومة ثم انتقل إلى القطاع الخاص، ويمتد نفوذ عناصر الأسرة والعشيرة الحاكمة إلى هذا المجال المهم، حيث تسيطر شركات عدي صدام حسين على الجانب الأكبر من هذا النشاط. وهو يتنافس في السيطرة على النشاط التجاري وتجارة العملة مع عمه غير الشقيق برزان التكريتي، مما يؤدي إلى تصفيات دموية مثل تلك التي جرت في عمان خلال عام 1998. وبذلك يكون الاستبداد قد أنتج الفساد بالضرورة.

إن النتائج الاجتماعية لذلك كله هي موضوع الفصل الخامس من الكتاب.

ضريبة أخطاء النظام

لقد ساهم كل من الحصار، وسياسات الحكومة في زيادة الهوة بين الأغنياء "وهم أيضاً رجال الدولة الذين أفادوا من الأزمة"، والفقراء، وهم أغلبية السكان. وقد ظهرت أنماط جديدة من الفقر بين عناصر وشرائح الطبقة الوسطى التي كانت تصعد سريعاً في عقدي الستينيات والسبعينيات. كما أن الفقر نفسه أصبح يتجلى في مظاهر جديدة أبرزها تدهور التعليم والصحة.

وقد نالت الصحة جانباً كبيراً من الاهتمام الدولي، حيث ظلت الرعاية الصحية في نهاية التسعينيات أقل من مستواها بكثير قبل الحرب، أما التعليم فلم يحظ بالاهتمام نفسه، وفي بلد كانت مؤشراته التعليمية في الماضي ممتازة يشعر الجميع بالأسف على تدهور هذه المؤشرات، مثل معدلات الالتحاق والتسرب ومستوى المهارات التعليمية في مختلف العلوم الأساسية، وبسبب انهيار الدخول الحقيقة للمعلمين والعناصر الإدارية في النظام للمعلمين والعناصر الإدارية في النظام التعليمي، شاع الفساد تماماً في هذا النظام، وهو الأمر الذي العكس على مستوى التحصيل.

وقد صار المجتمع العراقي أكثر تفتتاً من قبل . وتتلاعب الدولة بالمنافسات العرقية والجمهورية والطائفية، حتى تضمن بقاءها.

وسيكون لهذه المظاهر جميعاً نتائجها الوخيمة طويلة المدى.

مضاعفة أي انقسامات

ويعرض الفصل السادس لتطورت كردستان منذ الحرب عام 1991. والفكرة الجوهرية التي يقدمها هذا الفصل هي أن الانقسامات داخل الحركة الكردية قد ساهمت بدورها في بقاء النظام العراقي. وإن هذه الانقسامات ليست محصلة أو بقايا للماضي، ذلك أنها قد انتعشت ووظفت بأشكال شتى بسبب- وفي غضون فترة طويلة- الحروب وانعدام الأمان والاضطهاد والتدمير المنظم للبنيات الاجتماعية. أي أن هذه العوامل ذاتها التي أنعشت الإحساس بالهوية القومية كانت أيضاً وراء الانقسامات العشائرية والقبلية والطائفية والأيديولوجية والجهوية داخل المجتمع الكردي العراقي. وتؤكد المؤلفة أيضا أن الفوارق في التكوين الداخلي والديناميكية السياسية للحزبين الكبيرين: الوطني الكردستاني، والديموقراطي الكردي قد بدأت في الاختفاء. فالتوسع في ضم تشكيلات جحش والجماعات القبلية أضعف الهياكل المدنية والأيديولوجية لحساب الهياكل العسكرية والذهنية القبلية والعشيرية والجهوية.

وفي الجزء الثالث والأخير تتابع المؤلفة تطورت الأوضاع الإنسانية وبرامج وجهود إغاثة في العراق . ويتسم هذا الجزء بالمعرفة التامة بالتفاصيل ودقة التقديرات ، مع غياب الرؤية النظرية والتحليلية التي طبعت الجزأين السابقين.

وتنتقد المؤلفة الأداء الفعلي لبرنامج النفط مقابل الغذاء، وهي انتقادات صارت مقبولة من المجتمع الدولي، ربما باستثناء الولايات المتحدة. ولكن القرار 1153 لعام 1998 ربما يكون استهدف تصحيح جانب كبير من القصور في هذا البرنامج. إذ ضاعف كمية النفط المبيع إلي 5.5 بليون دولار، كل ستة أشهر، وحسن الإجراءات الإدارية وركز على الحاجة لتحسين البنية الأساسية وليس إمدادات الغذاء فحسب، وعزز من إمكان وصول الإمدادات للفئات الأكثر حاجة إليها في كل مناطق العراق.

ومع ذلك، فإن المؤلفة تعتقد أن التحسين الذي جاء به القرار المذكور لن يحل المشكلة. إذ ترى أن جوهر القضية هي أن الحاجة الإنسانية للشعب العراقي مازالت خاضعة للتلاعب السياسي من جانب أمريكا والحكومة العراقية، وهي تشرح هذه المسألة بقدر من التفصيل في الفصل السابع.

أما في الفصل الثامن، فتؤسس المؤلفة فهماً مختلفاً لفلسفة العمل الإغاثي في العراق، انطلاقا من الفوارق النوعية بين العراق وغيرها من المناطق والدول التي شهدت برامج إغاثة كبيرة. فالمشكلة الحقيقية في العراق هي التدهور السريع للمستويات المعيشية وليست الفقر المزمن، وأن الحاجات الحقيقية للعراق ليست الإغاثة وإنما إعادة تأهيل المجتمع بأقسامه المختلفة، والاقتصاد بقطاعات المتعددة، وأخيراً، فإن استمرار الصراعات وكثرة الانقطاعات الناشئة عن تجدر الأزمات قد مثلت أشد مصادر التحدي صعوبة للعمل الإغاثي، إلى جانب الصراع المستمر مع الحكومة العراقية.

وفي النهاية لا بد من الإشادة بروح النزاهة والموضوعية العلمية التي طبعت هذا الكتاب ، وكالترحيب بالتوازن في الرؤية والشمول في معالجة الأزمة بجوانبها الداخلية والدولية. ومع ذلك، فإن الكتاب هو تعبير عن اجتهاد له توجهه اليساري الواضح ، وذلك في الإطار العام للثقافة العلمية الاجتماعية لباحث أمريكي ، بما في ذلك من مزايا وقيود تحد من فهم كثير من المسائل الدقيقة في الداخل، وفي العلاقات العربية العربية. وبينما يتسم الكتاب بتعاطف واضح مع الشعبين الكويتي والعراقي ، فإنه لم يتناول العلاقات العربية- العربية إلا لماما.

 

سارة جراهام براون

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الكتاب