التاريخ المختزل والتاريخ المحاصر

التاريخ المختزل والتاريخ المحاصر
        

هل كان المؤرخ العربي دائمًا هو فقيه السلطة, يروي التاريخ ويلوّنه ويختزله من أجل صالحها?  

          عقود قليلة يطويها القرن السابع الميلادي, وإذا بالقبائل العربية المتناحرة في الوثنية, تصبح جبهة متحدة في الإسلام, وفي وعيها التاريخ الذي رأت بدايته في انطلاقة الدين الجديد, لم تكن من قبل خارج التاريخ, ولكنها باتت محورًا فيه, وتهيأت للإمساك بزمامه, حين أخذ بها الإسلام في رؤيته الشمولية, إلى تعميق تجربتها وتوسيع مداها الكوني, لاسيما بعد انتشار الفتوحات التي غيّرت صورة العالم خلال سنوات قليلة من الزمن.

          والتاريخ الإسلامي, منذ الهجرة إلى يثرب, كان لا يزال يتدفق كالنهر, غير أن أحدًا في حينه لم يتنبّه له أو يراقب عن كثب حركة سيره وتعرّجاته, فيما الأنظار مشدودة آنذاك إلى الرسول عليه الصلاة والسلام, الحاضر في تفاصيل الحياة اليومية للعرب المسلمين, يسترشدون بأفعاله, ويردّدون أقواله, وما كان يتلوه من آيات حفظوها عن ظهر قلب. والنخب لشدّة اتّساقها بذلك الموروث, أعرضت عمّا عداه, وإن كان شيء منه, مما يسري فيه من غابر الماضي البعيد, فبدت وكأنها (تجبّ) ما قبل الإسلام برمّته, ذاهبة إلى أبعد ما يعنيه أساسًا ذلك (الحديث), من جبّ فقط للوثنية واجتثاث لمفاهيمها المتخلفة, ومعرضة, إلا قليلا جدا, عن قراءة المراحل السابقة من تاريخها المديد.

          وتأسيسًا على ذلك, كانت (السيرة النبوية) ما رهصت بها المرويات الأولى في الإسلام, من غير أن يكون هاجسها التأريخ المباشر للحدث, بقدر ما تقاطعت اهتمامًا مع الحديث وتجليّات المرحلة, المتصلة بالتجربة - الأنموذج في (المدينة), والمطابقة لفكرة الأمة في مشروع الدولة - الأنموذج أيضًا, للخليفة الراشدي الثاني, إذ كان من تعبيراته المبكرة, ظهور التقويم الخاص بالمسلمين, معزّزا الشعور بالانتماء التاريخي إلى هذه الأمة, وإذا كانت الدولة, بهذا المفهوم, لم تستكمل بنيانها على الأرض نتيجة لاغتيال الخليفة, وربما مشروع الدولة معه, فإن تفاصيل الأخير - على المستوى النظري - تداولها, خصوصا, الخليفة الرابع في (نهجه), كذلك الفقهاء في مصنّفاتهم, من دون أن تخلو المرويات التاريخية من إشارات واضحة في هذا السبيل, وهي تؤكد جميعًا على الأولوية المطلقة لوحدة الأمة, على الرغم من اختلال صيغة الخلافة المقترنة بها, وضمور صفتها التمثيلية فيما بعد.

          وقد يبدو بدهيًا استئثار رموز الإسلام الأوائل باهتمام نخب الثقافة, في وقت كانت للمراحل خصوصياتها التي جعلت (المؤرخ) يرى نفسه داخل حركة الحدث, وليس مجرّد راوية له. ولكن ذلك جنح به, ليس فقط إلى الانحياز لمشاعره, منبهرًا بذلك التراث, وإنما إلى اختزال التاريخ بالموقع القيادي, نائيًا عن الفئات, مادة الحدث, والأكثر تفاعلاً على الأرض مع تداعياته. وإذا بنا في المحصّلة أمام تاريخ مجتزأ, أو انتقائي, أسقط منه تاريخ آخر لم يُكتب, وهو المتصل بحركة المجتمع, وخارج صخب السلطة حروبًا وفتنًا وأخبارًا خاصة بالخلفاء والأمراء والوزراء.

التاريخ المنزّه

          وهكذا يختلط المقدس بالخاص, في المرويات المستعادة, من غير أن تعكس هذه, على مستوى الفكر, والاجتماع, ما يماثلها على المستوى العام بجزئياته وتفاصيله. ولقد تكرّس ذلك عبر القرون, وترسَخ في وعي الأجيال المتعاقبة التي اتكأت على تراث الأوائل, إخباريين ومصنّفين, وكأنه التاريخ بكليّته قد أحيط برواياتهم, منزّهًا في الوقت عينه عن الشك. وعلى الرغم مما أخذه عليهم ابن خلدون, واتهامه لهم بالذهول (عن تبدّل الأحوال في الأمم والأجيال, بتبدّل الأعصار ومرور الأيام). فإن أي تغيير لم يطرأ على الكتابة التاريخية الإسلامية, التي ظلّت تدور في فلك السلف, بما في ذلك المنهج والرؤية والأسلوب, وثمة ما يُطرح بشيء من التبرير في هذا السياق, إذا كانت الذاكرة المرهقة - وهي لوقتٍ طويل مصدر الخبر التاريخي - قد أسهمت في اعتماد هذا المنهج الاختزالي, وإذا كان الإخباريون, كذلك المصنّفون بعدهم, أكثر استهواءً للحدث الساخن, وهم في غالبيتهم أقرب إلى السلطة في نظرتها الخاصة إلى التاريخ, وأكثر بعدًا عن الشعب في عالمه المتحرّك على صعد السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة?

          ولعل الأسئلة في هذا السياق, ترى ما لا تراه الأجوبة, خصوصًا على مساحة التاريخ الإسلامي الذي تجلّى مفهومه لدى النخب غير منفصلٍ عن الدعوة في خطّها الرسالي, وعن رسولها في (سيرته) التي اتّسع مداها, لينبثق عنها اتجاه آخر, تكامل معها في هذا التاريخ, محوره قريش, القبيلة التي تحدّر منها, قبل أن تروّج له القبائل الأخرى, في محاولتها تحقيق ذاتها في الإسلام, بناء على تراثها السابق عليه, وهو الاتجاه الذي عُرف بالأنساب. وإذا كان من الصعب تحديد المنطلقات للرواية التاريخية الإسلامية, فإنه من الممكن ربط ذلك بما قام به بعض الصحابة من جمع (صحائف) تعرض لتفاصيل عن حياة الرسول وتعاليمه وأوامره للعمّال, مما شكّل نواة الخبر التاريخي الذي أصبح, وإن بصورة غير مباشرة, جزءًا من ثقافة المرحلة المفعمة بهذا التراث.

رواية المغازي

          ولكن الصحابة الذين شغلتهم مهمات أكثر تعقيدًا عن الاهتمام على نطاق واسع بهذه المسألة, كان على أبنائهم أن يتصدّوا لها, لاسيما عبدالله بن عباس, أحد أبرز المؤسسين للمدرسة الحجازية, بما توفّر لها من معطيات الريادة, على مستوى الرسالة والسلطة, فضلاً عن الرموز المواكبة عن كثبٍ لمسيرة الإسلام الأولى. وقد تبلورت حينذاك فكرة التاريخ من خلال رواية (المغازي) المتكاملة مع (السيرة), والمتماهية منهجًا مع (الحديث), فيما المضمون طغت عليه مادة الحدث السياسي, الذي اتّسمت به, فيما بعد, المروياتُ التاريخية بصورة عامة. ومع توسّع الفتوحات, أصبحت الخلافة أمام واقع جديد, فرض عليها اتخاذ نهج مختلف في إدارة دولة مترامية الأطراف. فكان تأسيس (الديوان) في عهد الخليفة عمر بن الخطاب, والذي شكّل بداية نهضة لم تكن محصورة في الجانب الإداري - الاقتصادي فحسب, بل عكست عملية الجانب الثقافي فيها, حين أخذت الكتابة, وإن ببطء تحفر طريقها في حياة العرب المسلمين, ومعها الحافز إلى تدوين تاريخهم, سواء كانت الضرورة ما دفعتهم إلى ذلك, أو الاعتزاز بالمنجزات العظيمة التي ناءت بها الذاكرة, وأهاب الترهّل شريطها المثقل بالأحداث.

          بيد أن الكتابة, باستثناء مؤشرات غير كافية للتأكيد على استخدامها حينذاك في المرويات التاريخية, لم تنتشر عمليًا إلا بعد مرور أكثر من قرنين على الإسلام. وهذا يعني أن الذاكرة بصورة ما, حملت عبء التأريخ, متخليّة عبر تلك المسافة من الزمن, عن جزء من الروايات, لا يستفزّ - على الأقل - الأسماع التي ظلت مشدودة نحو الأحداث الساخنة. وكان ذلك ما حدا عروة بن الزبير على وضع سيرته الرائدة, مؤسسا لما سُمي لاحقا بعلم التاريخ, وإن ظلّ الأخير, منهجًا تتحدّد فيه معالم السببية وصولاً إلى النتائج, ما افتقدته الأعمال التاريخية قاطبة, من دون أن يغيّر القول المبكّر للمسعودي بأن (التاريخ علم من الأخبار), النظرة - وفقا لتلك المعايير - إليه.

          وإذ كانت الرواية الشفوية, موثّقة بالسند, ما شكّل مصدر المصنّفين الأوائل, فإن ذلك لم يكن على السوية عينها فيما بينهم, منطويًا في الوقت عينه على عنصر الشك بالاعتماد المطلق على هذه الرواية. ففي حين التزم الطبري بحلقات السند الطويلة, تحرّر معظم معاصريه أو كادوا منها, بعد أن أصبحت الروايات متداولة ومعروفة, على غرار ما اعتمده اليعقوبي والبلاذري. ولم تكن عبارة (قالوا) أو (رووا) أو بصورة خاصة (حدثني) عند الأخير تعني مصدرًا وهميًا, أو متوكئًا على التواتر, وإنما تتّصل - على الأرجح - بوثيقة مكتوبة, لاسيما أنه كان معروفًا عنه - أي البلاذري - حصر السند بواحد من أولئك الإخباريين أو الرواة, بما يتناسب مع اختصاصه, مثل أبي مخنف, والمدائني اللذين أخذ عنهما أخبار العراق, والزُهري والواقدي اللذين رجع إليهما في مروياتهم عن الشام.

افتقاد المنهج

          لقد نشأ التاريخ الإسلامي ملحقا بالحديث, ومتأثرًا إلى حد كبير بمنهاجه, لاسيما في اعتماد السند تقصّيا للخبر وتوثيقًا له, ولكنه في افتقاره إلى منهج خاص, ظلّ يعاني تبعات ذلك الإلحاق وانعكاساته السلبية عليه. وإذا أخذنا في الاعتبار تباين الطريقة بين جمع الحديث, وتلك التي استُخدمت في تتبع الرواية التاريخية, نجد أن الأول كان محصورًا بفئة لم تبتعد كثيرًا عن مصادرها, ممارسة قواعد صارمة في التوثيق, فيما تعدّدت حلقات الثانية, واتّسعت مسافات الزمن بينها, من غير أن تخضع للنظرة النقدية عينها, لتصبح مادة مكرّسة, يُعاد إنتاجها بكل ما فيها من فجوات والتباسات وأخطاء. وكان ذلك ما توقّف عنده ابن خلدون, آخذًا على أسلافه المصنّفين الأوائل, بأنهم (يُكرّرون في موضوعاتهم الأخبار المتداولة بأعيانها اتباعًا لمن عُني من المتقدمين بشأنها, ويغفلون أمر الأجيال الناشئة في ديوانها).

          ومن منظور آخر, فإن علاقة (المؤرخ) بالسلطة, طبعت هذه (الطريقة) بالانحياز المبكّر لها, فلم تكن (العاصفة) قد هدأت تمامًا, وإذا بالشام التي أصبحت مركز الإسلام ودولته, تستقطب الطامحين, من مثقفي المرحلة, ومنهم كثيرون سارعوا إلى التودّد للخليفة - (الملك). واتخاذ موقع في بلاطه, فثمة ما يُروى في هذا السياق عن شغف معاوية بالاستماع إلى أحاديث عن الماضين حتى ساعة متأخرة من الليل, مستقدمًا كبار الرواة لإشباع رغبته في هذا المجال. وقد شجّع هذا المناخ من دون شك على ظهور مدرسة, ربما كانت رائدة في التاريخ الإسلامي, وإن لم تبلغ في شهرتها ما بلغته المدرستان الحجازية والعراقية فيما بعد. كما أنها اختلفت عنهما في مستوى الولاء للسلطة الذي كان مطلقًا في المدرسة الشامية, فضلاً عن المنحى القبلي بما يعزْز الشرعية في دائرتها القرشية, ودوائر القبائل المتعاطفة مع الحكم الأموي. فلم يكن مصادفة حينذاك, استدعاء عبيد بن شريه ودغفل بن حنظلة, ليس فقط للإشراف على تربية ولي العهد (يزيد), ولكن للتحدّث في الأنساب, خصوصًا عن قريش, قبيلة معاوية, وعن القبائل اليمنية المتحدّرة منها (كلب), أبرز حلفاء الخليفة. وقد أسفر ذلك عن معادلة كانت من أهم ركائز الحكم, والتي استمدّت قوتها من تحالف قريش بصورتها الأموية, مُجتمعًا فيها الإسلام مع تراث ما قبله, إلى القبائل الشامية الأكثر اتصالاً بهذا التراث في ولائها للأسرة الحاكمة.

          وفي ضوء ذلك يأتي قدوم ابن شهاب الزهري إلى الشام, ملتحقًا بالبلاط الأموي, ليس بصفته مؤرخًا, بقدر ما استقرّ فيه فقيهًا, أو (مستشارًا), يدفع الشبهة عن النظام ويسوّغ المواقف لخلفائه الذين أجروا عليه عطاءً مجزيًا خلال نيّف وأربعين من السنين. فقد كان الزُهري, على الرغم من رصانته - وهو أستاذ جيله في السِير والمغازي - تحت هذه المظلة الأموية, لا يتجاوز حدودها, في وقت تصبح الثقافة مشتبكة مع السلطة بشتى تعبيراتها الأدبية والفقهية والتاريخية.

          وهكذا يؤسس الزهري لحال باتت من مألوف طبيعة (المؤرخ), في ارتباطه المباشر بحركة السلطة التي صادرت كثيرًا من أدواته, لاسيما حرية التعبير, وكل ما يجعله مستقلاً في رؤيته, وموضوعيًا في صياغة روايته. فإن لم يكن بالمطلق لسان حالها, إلا أنه يمثّل - على الأقل - نظرتها إزاء خصومها, ماضيًا وحاضرًا, ليصبح في موقعه أقرب إلى موقع الشاعر, متحوّلا حينذاك إلى مؤرخ بلاط, يعبّر عن تطلعاته وسياساته. هذه الحال باتت أكثر تعميمًا في العهود العباسية, مع اتخاذ الخليفة مؤرخه الخاص به, مما تجلى على سبيل المثال في التحاق ابن اسحق بالمنصور, والواقدي بالمأمون, والبلاذري بثلاثة من الخلفاء (المتوكّل والمنتصر والمستعين), من دون الانتهاء بالزبير بن بكّار الذي صنّف لأبي أحمد الموفّق - أخي الخليفة المعتمد - الكتاب المعروف بـ(الأخبار الموفقيات).

فقيه السلطة

          ومن هذا المنظور, يندرج المؤرخ - وهو غالبًا فقيه السلطة - داعية للأخيرة, منخرطًا في حركتها السياسية, فترعاه وتجزل له, بقدر ما يُسهم في تحصين شرعيتها, والترويج لصورتها الإسلامية. ولقد كرّس ذلك نهجًا سار عليه عمومًا المؤرخون الذين صنّفوا رواياتهم أو اختزلوها, أو تدخّلوا في صياغة تفاصيلها, فلم تتعد حينئذ تاريخ السلطة, حيث عاشوا في ظلّها,ورأوا بعينها, وكتبوا بحبرها, ومنحوها كلّ الولاء. وكانت المحصلة أنّ تاريخًا آخر لم يلتفتوا إليه, فغاب إلا من إشارات قليلة جدًا عن مصنّفاتهم, وهو تاريخ المجتمعات التي عانت في الواقع محنتين: محنتها مع السلطة في زمانها, ومحنة التهميش في التاريخ الذي انقطعت بصورة شبه تامة عنه, وسنجد أن مؤرخًا رصينًا مثل الطبري, اعتاش من التدريس, وصرف وقته في العلم, واتخذ فقهًا خاصًا به, لم يكن على الرغم من ذلك خارج دائرة السلطة أو مستقلاً عنها, حين اختار لموسوعته عنوانًا يوائم تقليد المرحلة ومنهاجها في هذا السبيل, وهو (تاريخ الرسل والملوك).

          وبناءً على ما سلف, يتحدّد عنصر الضعف الأساسي في منهج الرواية التاريخية الإسلامية, وذلك في اختزالها التاريخ العام لمصلحة التاريخ الخاص, المتبقي من تلك الحقب الطويلة. ولعل هذا الحصار الذي استهدف الفئات الشعبية, لم يكن متعمّدا من جانب المؤرخين الأوائل, إلا أنهم, وبحكم تكوينهم الثقافي الديني, كانت قضية الإسلام وحركته, ما شدّ أنظارهم ورسخ في وعيهم بالتاريخ, بينما بقية العناوين ظلّت شاحبة في تصانيفهم, ولم يستفزّهم البحث عنها فيما بين السطور أو على الضفاف من الرواية. وفي كل الأحوال, لم تتخذ تلك الفئات حضورًا يشدّ إليها الانتباه, إذ كانت, جبهة, لاتزال خارج التأثير المحصور بالقيادة السياسية - سلطة أو معارضة - في وقت ما برح المؤرخ له موقفه - غير الودّي على الأقل - من حركات الأخيرة, التي رأى فيها تمرّدًا على الشرعية المقترنة عنده بالإسلام.

          وهكذا, فإن المدارس التاريخية, أو ما عُبّر عنها بهذه الصفة, لم تحمل في مضامينها صخب التيّارات الفكرية والاجتماعية, وما يُمكن أن تُثيره من صراعات على مستوى المنهج والرؤية والجدل. فقد كانت هذه (المدارس) تمثّل اتجاهات أقلّ عمقًا في اختلافاتها على هذا الصعيد, من مسائل السياسة الخاصة بالخلافة ووحدة الجماعة. كما توزّعت اهتماماتها أساسًا, ما بين (السيرة) في مكان, و(الأنساب) في مكان آخر. و(الحدث) السياسي في مكان ثالث...وفي كل الأحوال كانت السلطة محور الخبر التاريخي بتفاصيله العامة والخاصة. وعبر القرون لم يعد النهر الذي تدفّق مع حركة الإسلام على الخطّ عينه, وبالتالي فإن التاريخ بات أقلّ نبضًا بهذه الحركة, واضطرابًا بتداعياتها, إذ بدا في الغالب متعثّرًا, منطويًا على فجوات واسعة, أو صفحات بيضاء لم تمرّ عليها الأقلام المترعة بحبر السلطة, والمأخوذة ببريقها, نائية عن الفئات التي اصطخب بها ذلك التاريخ, من دون أن تكون حاضرة فيه.

          والمؤرخون, أو كثيرهم, ما انفكوا عبر هذه القرون, يواكبون المسار المضطرب ويفيحون في تراث لا يمثّل حقيقة ذلك التاريخ, مكرّسين بدورهم نمطًا منه ظل يُستعاد على الإيقاع عينه من الاختزال. وثمة مَن توسّل منهم نهج المستشرقين أو أقام على تخومه, فيما هؤلاء, على الرغم من سبرهم التراث, كان لايزال لهم عالمهم غير المطابق كليًا لعالم النص التاريخي الإسلامي, بما للأخير من خصوصية لا يجوس شفافيتها سوى المنتمين إلى ذلك التراث, المفعمين بروحه, والأكثر اكتناهًا لمصطلحاته وجزئياته.

تحول النظر للتاريخ

          وليس سمة شك أن تحوّلا لافتًا طرأ على الدراسات العربية الحديثة والمعاصرة في التاريخ الإسلامي, وأخذ ببعضها إلى منهج يُفضي إلى القراءة النقدية للرواية خارج حصار التقليد, من الأسباب إلى النتائج التي تسوّغ في النهاية مثل هذه القراءة الرصينة. ولكن جلّ المؤرخين, لا يزال يترنّح بين تراكمين: تراث مكرس ونمط باهر, وفي كليهما يختلط الديني بالزمني, اختلاطهما لدى الفقهاء الذين صنّفوا من التاريخ ما يوائم المرحلة (الرومانسية) التي عاشوا فيها, وما ينفك يعبق بها نتائج المرحلة الحاضرة, في دأبها على التماهي مع تجربة السلف, من غير أن تبرح هذه الدائرة الرتيبة, إلى دوائر لاتزال محاصرة في التاريخ الإسلامي.

          وهي ليست فقط إشكالية الرواية التي تبقى مصدر المؤرخ ونقطة انطلاقه, ولكنها أيضًا إشكالية القراءة غير الخاضعة لمنطق الحدث, وغير الموجّهة بضوء العقل الذي يشكّل المرجعية الثانية بعد الرواية لها, مما يجعل المؤرخ, في ظلّ هذه الرؤية, على مسافة أدنى من الحقيقة التاريخية, ذلك ما أكّد عليه ابن خلدون في قوله: (الحق لا يُقاوم سلطانه, والباطل يقذف بشهاب النظر شيطانه).... وذلك ما أسّس له من قبل الخليفة علي بن أبي طالب, مميّزا بين نهجين, أحدهما تقدمي, والآخر تراكمي, حين قال: (اعقلوا الخبر إذا سمعتموه عقل رعاية لا عقل رواية, فإن رعاة العلم قليل ورواته كثير).

 

إبراهيم بيضون   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات