تحرير الناس رغمًا عنهم.. نظرة فلاسفة فرنسا لقضية الحجاب

تحرير الناس رغمًا عنهم.. نظرة فلاسفة فرنسا لقضية الحجاب
        

قليلة هي القضايا الفلسفية والسياسية السجالية, التي شغلت الساحة الثقافية الفرنسية المعاصرة لأكثر من عقد من الزمن, كالقضية التي أصبحت معروفة باسم الحجاب, والتي تضمنت إشكاليات فلسفية وسياسية شملت الأسس التي يقوم عليها المجتمع الفرنسي.

          مما لاشك فيه أن الفلسفة الفرنسية المعاصرة, عرفت في العقود الأخيرة, تجددا وتنوعا وخصوبة في التيارات والمجالات والآفاق, ولكن هذا لا يمنع من وجود عناصر مشتركة, كالإقرار بضرورة الاختلاف والتنوع والمناداة به, وضرورة ربط الفلسفة بالحياة, والنظرية بالواقع, والفكر بالمستجدات العلمية والسياسية والاجتماعية, ولايزال الفيلسوف الفرنسي المعاصر, يقوم بذلك الدور الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي كان يقوم به أسلافه أمثال (فولتير وروسو وإميل زولا وسارتر وفوكو) وغيرهم كثير.

          وضمن هذا التوجه العام للفكر الفرنسي عموما, والفلسفة خصوصا, ساهمت مجموعة من الفلاسفة والمفكرين الفرنسيين في النقاش الدائر حول الحجاب, فكيف نظر هؤلاء الفلاسفة إلى هذه القضية التي سال حولها, كما هو معروف, الكثير من الحبر, وساهم في مناقشتها العديد من المثقفين والكتّاب والفلاسفة وأصحاب الرأي في مختلف أقطار العالم, نظرا لبعدها العالمي وارتباطها بديانة عالمية هي الإسلام, ولأنها طرحت مشكلة أساسية هي علاقة حرية الإنسان بشكل من أشكال التنظيم السياسي, ألا وهو النظام الجمهوري العلماني الذي يقوم عليه المجتمع الفرنسي.

          هو موقف يرى في العلمانية عقيدة سياسية لا تتغير بتغير العصور والأزمان, وأنها تشكل هوية لفرنسا وللمجتمعات الأوربية, باسم الجمهورية وحقوق الإنسان. يمثل هذا الموقف تيار مهم في الثقافة والفلسفة الفرنسية على رأسه الفيلسوف والسياسي (روجين دوبرييه), صاحب الكتاب المعروف بـ(نقد العقل السياسي), الذي يرى أنه ليس هناك نموذج حضاري إلا وله مقدساته الاجتماعية, وبالتالي فإنه يرفع مسألة العلمانية من تنظيم سياسي يقر بفصل المقدس عن السياسي, إلى مرتبة المقدس. وبالرغم من إقراره بحجم المعارضة التي أثارها قرار منع الحجاب في المدارس الحكومية, سواء في البلدان الأوربية أو في البلدان العربية الإسلامية, وداخل الجالية المسلمة في فرنسا, فإنه يرى أن هذا القرار ضروري لأنه يعالج مشاكل ضرورية, ولأنه يؤكد على الخصوصية الفرنسية.

          وفي تقديره, أن الفضاء الاجتماعي يتطلب أن نفصل فيه, بين ما هو عام وما هو خاص, فإذا كانت حرية الاعتقاد مضمونة وتعليم المواد الدينية أصبح واقعا, والتعبير الديني أمرًا قائمًا, فإنه من الضروري أيضا, احترام الخصوصية الفرنسية, التي في نظره تحترم خصوصية الآخرين. وبالنسبة, له فإن ما يقرر هذا المقدس الاجتماعي, ويقوم عليه هو عقد المواطنين, أو العقد الاجتماعي أو عقد المواطنة, وبالتالي فإنه باسم الخصوصية يفرض قانون الحجاب, وليس باسم الحرية. وما يجعل من طرح هذا الفيلسوف طرحا عقائديا لا يهتم بالمتغيرات هو أنه يرغب في أن يشمل منع الرموز الدينية, ليس فقط المدارس الحكومية, بل حتى المجال أو القضاء الاجتماعي برمته, كالمستشفيات والإدارات والإعلانات الصحفية والتجارية. ويعتقد أن عدم مواجهة أشكال التعبير الجديدة ممثلة في الحجاب, سيؤدي إلى تراجع الحسّ والشعور الوطني.

          يستند هذا الفيلسوف, في طرحه الأيديولوجي لمسألة العلمانية إلى معطى آخر, يسميه بالهوية السردية كما قال بها الفيلسوف (بول ريكور) - ومن المفارقة أن نرى صاحب نظرية الهوية السردية يرفض مبدأ المنع كما سنبين لاحقا - ليؤكد على أن هوية (فرنسا تشكل نوعا من الكيمياء الهشّة. إنها مجموعة من الأحاسيس والمشاعر, وليست نوعا من المصالح, إنها ترتبط بالأدب والفن, وبالتالي فإن هذا الجانب الفكري والأدبي هو الذي يجمع ويدمج الأعضاء في الجماعة, وأن غيابه يؤدي إلى التفكك والتشرذم). وعليه يجب دعم وإسناد هذه الهوية, بأشكال مختلفة كالخدمة الوطنية على سبيل المثال, التي يجب الاحتفاظ بها, مهما كانت الدواعي والأسباب.

          وعليه فإن الفيلسوف, يقر بوجود أزمة في الهوية الفرنسية, أزمة لا تعود إلى المستجدات الداخلية للمجتمع الفرنسي فقط, ولكن إلى التحولات التي تعرفها فرنسا على مستوى أوربا وعلى مستوى العالم, وتحول مكانتها. لذلك يبدي تحفّظا إزاء الوحدة الأوربية, لأنها في نظره, لاتزال تركز على الجانب الاقتصادي الصناعي, وتهمل الجانب الثقافي وهو الأساس في تقديره, وخاصة في عنصر اللغة أو كما قال فإن (المشكلات الخطيرة في السياسة هي المشكلات الأقل ظهورًا للعيان, واللغة هي إحدى المشكلات الخطيرة التي سيواجهها هذا الاتحاد الأوربي غدا). من هنا يدعو إلى تقوية الاتحاد بين فرنسا وألمانيا وتعليم الألمانية والفرنسية, أو على الأقل ضرورة تعليم لغة ثالثة مقارنة بلغة الأم واللغة الإنجليزية.

          وإن أحد الوجوه الأيديولوجية للفيلسوف, إقراره بضرورة وجود عدو أو خصم حتى يمكن قيام جماعة سياسية. يقول (إن أوربا في حاجة إلى خصم كي تتشكل). وليس الإرهاب في تقديره, هو هذا الخصم لأنه مجرد قوة تشويش وعرقلة ولا يعتبر قوة سياسية, أما الخصم الحقيقي لأوربا فهو الذي لا يقاسمها قيمها الحضارية, وخاصة الحركات الإسلامية أو الإسلام السياسي (L islamisme) وأمريكا الشمالية. وطبعا, فإن هذا الطرح يتماثل بشكل كبير مع طرح هنتنجتون.

          وضمن هذا السياق من الطرح الأيديولوجي, نقرأ كذلك آراء مشابهة للفيلسوف (جان ليك نانسي) الذي كتب مقالا عن العلمانية الموحدية تماثلا مع الديانات الموحدية, و(جان فرانسوا ريفال) الذي طرح سؤالا ميتافيزيقيًا مؤداه: هل يجب أسلمة العلمانية أم علمنة الإسلام?

الموقف السياسي

          في شهر مايو 2003, وقع (ألان توران) عالم الاجتماع والفيلسوف المعروف بأعماله حول الحداثة والهوية, عريضة ندد فيها مع زملاء آخرين, بما سمي بـ (القانون الاستثنائي) حول الحجاب, وبعد مرور ستة أشهر من ذلك, وافق على المنع الذي أوصت به اللجنة, التي كان عضوا فيها, والمعروفة باسم (لجنة ستازي) نسبة لمقررها. فكيف انتقل ألان توران من الرفض إلى الموافقة, وهو صاحب فكرة المدرسة الفرنسية المتفتحة, التي تحترم التعدد والاختلاف?

          لقد كان رأيه منذ ظهور هذه القضية عام 1989, أن الأمر يتعلق بالدخول في عالم الحداثة بوسائل تقليدية, وحسب عبارته, لقد كان هؤلاء الطالبات يرغبن في المصالحة بين الحداثة وثقافتهن, وهذا يدخل ضمن اهتمامه الاجتماعي والفلسفي وهو, كيف نصنع من القديم أشياء جديدة?

          ولكن ما لاحظه أن هؤلاء الطالبات أصبحن يرفضن دروس الرياضة البدنية والمعاينة من قبل طبيب, وإن فرنسا أصبحت شيئا فشيئا بلدا جمعويا communautariste)), ليستنتج أن فرنسا هي التي تغيرت, وهو ما عبر عنه في مقال له بعنوان: (الحداثة والقناعة), بيّن فيه أن العلمانية تقوم على احترام الأقليات وتنمية المعرفة حول الإسلام كدين, وبالتالي يجب التمييز بين الإسلام والحركات الإسلامية السياسية, التي توظف الدين.

          وبما أن مسألة الحجاب أصبحت قضية عامة وسياسية, فإنه يجب تحرير الآراء لتعبر عن نفسها من خلال الكتابة أو التظاهر, وهكذا عرفنا كما يقول, مسلمات مناهضات للحجاب, وتعرف الرأي العام, الفرنسي والعالمي, على أن هنالك تيارات حول المسألة, وبالتالي إمكان الاختيار بناء على المعرفة الحاصلة, وأصبح استصدار قرار, إمكانا متاحا, لماذا? لأنه يعتقد أن وجود مسلمة مؤمنة بشكل قوي بقناعاتها الدينية والحداثية يعد عاملا إيجابيا في الانتقال من ثقافة إلى ثقافة. كما يمكن للمرأة المسلمة مواجهة ضغوط المتطرفين. واستخلص العالم أن تقرير (ستاري) يقوي مقدرة الأقليات على التواصل مع جميع أفراد المجتمع. بمعنى أن اللجنة استطاعت في نظره, أن تقف حاجزًا أمام أمرين, الأول: وهو النزعة الجمعوية, والأمر الثاني: احتقار التنوع الثقافي, مادامت تعترف به وتعطيه مجاله الخاص به, وبالتالي, وهذا هو الأمر العزيز على فكر ألان توران, وهو أنه (ليس هنالك طريقة وحيدة للدخول في الحداثة). وهذا يعني أن الفيلسوف يرى أن التشريع مطلوب حتى لا تنفلت الأمور, وحتى لا يستغل المتعصبون والمتطرفون والمتشددون مساحات الحرية, ويحولوها إلى نقمة وتحديد وتضييق, وأن صيانة الحرية مسئولية الدولة والأفراد, ويجب ألا تستغل من قبل جماعات ضاغطة. لكن لا معنى لتشريع يهدر حرية الأفراد على العموم, فالمطلوب من التشريع المرونة الكافية لكي يعبر الأفراد عن حرياتهم دون المساس بالمبدأ.

          ينطبق هذا الموقف كذلك, على موقف الوزير والفيلسوف (ليك فيري), وزير التربية والتعليم, فعلى الرغم من أنه كان وزيرًا للتربية, فإنه اتخذ في البداية موقفًا معارضًا لمنع الرموز الدينية, لأن ذلك في تقديره, يتعارض والمبادئ العامة للقانون والجمهورية, واقترح بدلا من القانون ضرورة استصدار منشور يحدد بعض القواعد العامة, مثل: لا يحق لأحد أن يعارض البرامج التربوية بناء على معتقده, وأن التلميذ الذي يرفض متابعة دروس البيولوجيا أو التاريخ أو التربية البدنية, يقصى أو يطرد. والخطوة الثانية, التقدم بجملة من المواد القانونية تبين ما هي الجمهورية, وما هي مبادئ العلمانية, بمعنى أن الفيلسوف الوزير يرى ضرورة تهدئة الأوضاع. ولكن بعد صدور تقرير لجنة الحكماء غير رأيه, وساند القرار.

          وأما موقفه الفلسفي, فيظهر من خلال كتابه الأخير, (حول الإنسان والله), حيث بين فيه العلاقة الجديدة التي تربط الإنسان بالمقدس, ودافع فيه عن فكرة المعنى والقيم وذلك عكس التيار المادي والعلمي والعدمي, الذي يرى في المعنى والقيمة مجرد بناء إرادي للإنسان, وأكد أن قوة الإنسان تكمن في خروجه من الحياة الحيوانية وقدرته على تفكير المقدس ووضع معايير وقيم متعالية لحياته, وبالتالي فإنه لا يرى أن المجتمعات الملائكية قد توقفت عن ممارسة وتفكير المقدس, ولكن كل ما في الأمر, أن المقدس وكما قال, قد غيّر وجهه وشكله. لذا فإن ما يميز عصرنا في تقديره, هو عملية أنسنة المقدس وتقديس الإنسان.

الموقف الإنساني

          يمثل هذا الموقف, مجموعة كبيرة من الفلاسفة والمفكرين, ومنهم على وجه الخصوص, الفيلسوف وعالم الاجتماع (ادغار موران) صاحب الأعمال المعروفة بالمنهج, حيث أشار إلى أن العلمانية, تأسست في فرنسا في بداية القرن العشرين وتحديدا في سنة 1905, وذلك بفصل الكنيسة عن الدولة وإبعاد الكنيسة عن المدرسة. وتم ذلك بعد نزاع حاد, تميز بالعنف والتطرف. ولكن منذ ذلك الوقت, تغيرت حال الكنيسة وتطورت وسايرت مقتضيات المجتمع. وبالتالي يجب أن ندرك التغيرات والتحولات في مفهوم العلمانية ذاته. وقضية الحجاب في نظره, تم تضخيمها بشكل لافت, فالحالات معدودة, ومن الضروري الإبقاء على هؤلاء الفتيات أو الطالبات داخل المدرسة, وأن تعطى لهن فرصة التطور والتقدم, وألا يتم منعهن أو طردهن.

          وأن ما يجب القيام به هو إدخال مادة الدين في المقررات الدراسية, والأعياد الدينية في الإجازات الرسمية, والاعتراف بأن فرنسا بلد متعدد الأقوام والعقائد, وأن خطر القانون, كما تمت صياغته, أنه يسجن هذه الأعراق والأديان في نوع من (التابوهات), بالرغم من أن الطابع الجمهوري للدولة يقتضي معاملة الجميع كمواطنين. وبالتالي فإن موقفه من مسألة الحجاب تميز بـ(التسامح إلا في حال استعماله أو تحريفه أو في حال النزاع والصراع داخل الأقسام, حيث تكون الحاجة إلى حفظ النظام العام, أما ما عدا ذلك, فإن من حق الطالبة أن ترتدي الحجاب إذا أرادت ذلك).

          على أنه إذا كانت هنالك اليوم بعض الصراعات بين التلاميذ فالسبب, في نظر الفيلسوف وعالم الاجتماع, يكمن في محاولة تصنيفهم إلى أديانهم, وكذلك بفعل الصراع العربي -الإسرائيلي, وعليه, يرى أنه من الخطورة وضع قانون حول الرموز الدينية. يقول: (يجب أن نتوقف عن الضغط على المدرسة والتعليم الثانوي بشكل خاص. وأن ننتقل لمناقشة مشكلة أساسية في الفلسفة السياسية المعاصرة ألا وهي النظرة الجمعوية والنظرة الجمهورية, من أجل إيجاد معادلة تستجيب لخصوصيات الوضع في فرنسا). لأن الفرنسة أو سياسة الإدماج, يجب ألا تحطم الاختلافات والتعدد والتنوع, ولكن عليها أن تدمجها, وهذه العملية لا تنتمي إلى مجال القوانين والمواد التي يوافق عليها البرلمان, ولكن هذا يدخل ضمن إجراءات سياسية.

          وفي إطار هذا المسعى النقدي لتوجه الحكومة الفرنسية ولقطاع من المثقفين والفلاسفة, يذهب الفيلسوف البارز (بول ريكور), والفيلسوفة (كانتو سبراب) إلى رفض هذا التوجه أيضا, وذلك في نص بليغ لهما بعنوان: العلمانية الإقصائية هي العدو الأفضل للمساواة, ليؤكدا أن ما يجري من حوار حول قانون منع الرموز الدينية, يدخل في إطار ما يسمى بضرورة احترام المبادئ. وخاصة مبدأ التعليم, الذي يجب تحييده عن الانتماءات الدينية, بالإضافة إلى مسوغات أخرى تتعلق بضرورة الوقاية والاستعداد قبل فوات الأوان, فإذا ما تم منع الرموز الدينية, فإن العائلات والأنصار عمومًا سيتوقفون عن التفكير في إيجاد علاقة قوة. كما أن القانون هو الذي يمنح السلطة حق المنع أو الموافقة, وبالتالي فإن القانون ضروري, تلك هي الحجج المقدمة عموما.

          على أن هذه الحجج على وجاهتها, فإنها لا تلتفت إلى إمكان حصول إقصاء التلاميذ, وكذلك إلى ضرورة احترام الحرية الدينية, وحق التلميذ أن يعبر عن قناعته الدينية, ليس فقط في إطار حياته الخاصة, ولكن كذلك في الحياة العامة, شريطة ألا يتجاوز حرية الآخرين, أو المؤسسات الاجتماعية. وبالتالي فإن السؤال المطروح هو: هل يشكّل الحجاب فعلا خطرا ويفسد التعليم أو يدخل عليه عنصر اضطراب? هل يمكن أن نثبت بشكل عقلي أن قطعة من القماش يمكن أن يكون لها آثار على التعليم العلماني? دون شك فإن الجواب سيكون بالنفي, وبالتالي فإن المطروح للنقاش ليس الحجاب كعلامة دينية, ولكن كعنصر تهديد للجمهورية. وبما أنه لا يمكن إثبات أن الحجاب يهدد فعلا الجمهورية, لأنه لو كان كذلك لتم منعه, كذلك في الحياة العامة, فلماذا اقتصر الأمر على المدرسة فقط? لماذا لا يمنع في الشارع?

          يذهب ريكور وكانتو سبراب, إلى أنه من الممكن أن نكون ضد الحجاب, ولكن يجب أن نكون أكثر معارضة لإقصاء الطالبات بناء على هذا السبب. إن التسامح الديني, هو مبدأ مؤسس لمجتمعاتنا, وإن الحد من الحرية يتم وفقًا لمخاطر حقيقية, وليس بناء على توقعات, أو انحرافات ممكنة, وإن العلمانية, تعني الالتزام بالضمان لكل فرد إمكان التقدم والرقي من خلال انتماءاته وأصوله, والمدرسة يمكن أن تؤدي هذه المهمة لا أن تفرضها عليهم مسبقا.

          صحيح أن الحجاب بشكله ومعناه يحمل علامة التمييز بين الإناث والذكور, فهل من أجل الحد من هذا التمييز أن نمنع الحجاب ومعه حامله?! ألا نعرف أن المدرسة هي المجال الأساسي للبنات ليتقدمن ويتفتحن? وإن المدرسة هي المجال الأساسي الذي يتعلمن فيه قيمة المساواة. صحيح أن الحجاب يبين أنهن يخضعن للتمييز, ولكن الأساتذة وبقية التلاميذ يعاملهن معاملة المساواة. وإن إدراكهن لهذه القيمة سيربطهن أكثر بالتعليم وقيمه. وأما منعهن, فهو منع لهن كذلك في الالتقاء بهذه القيم.

تحرير الناس بالإرغام

          كما يجب إقرار أمر آخر, وهو أنه يجب ألا نحرر الناس ضد إرادتهم, أو أن نعتقهم ضد قناعتهم, فهنالك مَن يؤمن بالحجاب, وليس مجبرا عليه أو يريد أن يتميز به, إن مهمة المدرسة أن تقدم معنى المساواة وأن تحقق الحرية. ومن المفارقة أن تصبح المدرسة, وهي الميدان الأساسي لحرية الطالبات, وسيلة تفرض عليهن التخلي عن خياراتهن الدينية.

          لابد في نظر الفيلسوفين, من التمييز بين الحجاب الذي يعد تعبيرا عن الحرية الدينية والحجاب الذي هو وسيلة للضغط السياسي, إن هذا الأخير غير مقبول إطلاقا, لأنه يهدد النظام العام. فالجماعات الضاغطة التي تريد أن تفرض قانونها على طالبات المغرب العربي يجب ردعها. وإن التوفيق بين المصلحة العامة والمعايير المشتركة ومبادئ الحرية كانت دائمًا عملية صعبة, ولكنها أيضا ميزة أساسية وإيجابية لمجتمعاتنا الحديثة, لأنها بهذه الطريقة أثبتت أنها مجتمعات قوية بقيمها وواثقة من قدراتها.

          ولقد انتهى فلاسفة آخرون, إلى موقف رافض لكل هذه الإجراءات القانونية والتشريعية لمنع الحجاب في المدارس, وكتبوا بيانا في ذلك بعنوان (نعم للعلمانية لا للإقصاء), بتزعمهم الفيلسوف (إتيان باليبار). ومما جاء فيه, أن الحجاب (يغطي وقائع متنوعة وتقديرات مختلفة وحتى متعارضة في دلالته), وأنه (سواء نظرنا إلى الحجاب بوصفه تعبيرا عن اقتناع أو صورة من صور الإجبار المفروض على البنات, فإن الإقصاء هو أسوأ الحلول). صحيح كما يقول الموقعون أننا (لسنا من المدافعين عن الحجاب, ولكن من المدافعين عن المدرسة العلمانية التي تعمل من أجل ترقية وتنوير الإنسان, وليس إلى إقصائه وحرمانه من العلم), ولأن العلمانية كما تحددها المواد 1882,1886,1881 وفقا للقانون الفرنسي, ملزمة بالنسبة للمقررات والبرامج المدرسية والمدرسين, ولكنها ليست ملزمة للتلاميذ. فما هو ملزم للتلاميذ هو الحضور الإجباري للدروس واحترام الآخرين.

          ولقد قام عدد من الموقعين, بمعاينة عدد من المؤسسات التعليمية, ولاحظوا أن الطالبات المحجبات لم يتسببن في عرقلة مهمة المعلم أو التلميذ على السواء. صحيح أن هنالك مشكلة المساواة بين الجنسين, ولكنهم رأوا أن البنت المحجبة ليست خاطئة أو لم ترتكب أي خطأ, فسواء تحجبت بإرادتها أو بشكل مفروض عليها, ففي جميع الأحوال ليست هي التي يجب أن تدفع الثمن. وأنه باستقبالنا لها, كما يقول البيان (في المدرسة, نكون قد ساعدنا على التنوير والتفتح والتقدم وذلك بأن نقدم لها الأدوات والوسائل المعرفية التي تمكنها من الاستقلال الذاتي, وبطردنا لها نكون قد حكمنا عليها بالقهر). ولقد وقع على هذا البيان في يومه الأول, أكثر من 600 مثقف.

          إننا لا ندّعي, بطبيعة الحال, في هذه المقالة إماطة اللثام عن نقاش قائم ولايزال, وتقديم دراسة تاريخية وافية, إنما أردنا أن نقدم صورة من التاريخ الفكري الحاضر, وفكرة للقارئ عن نقاش فكري وفلسفي لايزال قائمًا. نقول ذلك لأننا نشعر بثقل الخلفيات والأحكام والرؤى والتحليلات والمواقف.

الإسلام في الضفة الأخرى

          إلا أن الأمر الذي لا خلاف فيه هو, أن الإسلام قد أصبح أحد المعطيات الثقافية والسياسية والاقتصادية للعالم المعاصر ولدول الشمال. فلقد انتقل الإسلام في النصف الثاني من القرن العشرين إلى الضفة الشمالية, وبالتالي فإنه من الطبيعي أن تطرح على مسلمي هذه المجتمعات - وعلى تلك المجتمعات ذاتها - أسئلة جديدة ومشاكل مختلفة تبعا لاختلاف المعطى والمقدمات.

          نعم لقد شكّل الغرب معرفة واسعة حول الإسلام, فمَن منا سيتجاهل الجهود الكبيرة للمستشرقين, ومَن منا سيتجاهل ما شكله الاستعمار من معرفة وسلطة حول الشعوب الإسلامية? إلا أنني أعتقد, أن الغرب في الحالتين كان يتعامل بحرية شبه كاملة, إن جاز التعبير, بالتراث الإسلامي ومجتمعات الإسلام نتيجة لقوته العلمية والعسكرية, ولكن المعطى اليوم قد تغير, فلقد أصبح الغرب اليوم مدعوا إلى التعامل مع الإسلام بحرية, ولكن بمسئولية كذلك, لأن الإسلام أصبح جزءًا من هويته, إذ يعتنقه جزء من مواطنيه. من هنا اختلفت التقديرات داخل وخارج المجتمعات الأوربية عمومًا, وفي فرنسا خصوصا وفي حقل فكري كحقل الفلسفة.

          ومنذ أن ظهرت قضية الحجاب في فرنسا سنة 1989 والنخبة المثقفة الفرنسية في جدل ونقاش, ولايزال يعرف تطورات وتحولات في المواقف والآراء, لأن الموضوع ذاته تطور من حيث المضمون ليصبح موضوعا متعلقا بحرية الإنسان وحقوقه الأساسية, ومسألة الاختلاف والتنوع والهوية الإنسانية, كما توسع ليشمل مختلف مجتمعات العالم وخاصة العالم الغربي ونظامه السياسي القائم على العلمانية, وعلاقة التنظيم الجمعوي بالتنظيم الجمهوري, ومشكلة الأقليات وحقوقها, وهي مشاكل أخلاقية وسياسية, شكّلت مواضيع جديدة للفلسفة عموما والفلسفة الأخلاقية والسياسية خصوصا, في زمن العولمة المتسم بالتغير والتحول الدائم. وعليه فإنه, إذا كانت المواقف الأيديولوجية, لا تعنينا كثيرا, ليس لأننا نعيش عصر ما بعد الأيديولوجية, ولكننا أصبحنا نميّز كفاية بين الطرح الأيديولوجي والطرح العلمي, وإذا كنا نتفهم الطرح السياسي, فهذا لا يعني أيضا, الوقوع في التضييق والحد والمنع لأسباب معلومة وغير معلومة, إننا نعتقد أن الموقف السليم هو الموقف الذي يميز بين مستويات القضية ويؤكد على الطابع الإنساني, الذي هو ميزة كل موقف فلسفي قائم على العقل والنقد والحرية.

 

الزواوي بغوره   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات