المفكرون يتراجعون.. والسياسيون يتغلبون

المفكرون يتراجعون.. والسياسيون يتغلبون
        

          يكثر الجدل حول الدور الذي أصبح يلعبه السياسيون في حياتنا المعاصرة أمام تراجع دور أهل الفكر والثقافة في تشكيل عالمنا الذي نعيشه.

          في فترات مختلفة من التاريخ الإنساني منذ الصياغات الأولى للتفكير الفلسفي عند اليونان وحتى بدايات القرن العشرين, لعب المفكرون والفلاسفة والمثقفون دورًا بارزًا في قيادة مجتمعاتهم وتطويرها, بل ووجهوا السياسيين في أنحاء كثيرة من المعمورة. فقد كان أرسطو مستشارًا للإسكندر الأكبر وديكارت مقرّبًا من ملكة السويد وفرانسيس بيكون جزءًا من البلاط الملكي الإنجليزي وغيرهم من الفلاسفة الذين كانوا عونًا وموجهين للعديد من القيادات السياسية. بيد أن هذا الدور تراجع كثيرًا منذ منتصف القرن العشرين, وأصبحنا اليوم في عالم يقوده السياسيون والمصالح السياسية. فما التطورات والعوامل التي أدت إلى ذلك?

الفكر يقود

          كانت السياسة واحدة من بين القضايا المهمة التي تناولها الفلاسفة اليونان بالنقد والتحليل. وقد شهدت أثينا أول مظاهر للديمقراطية, وطرح الفلاسفة العديد من الآراء السياسية التي اعتبرت البدايات الأولى لصياغة الفكر السياسي الغربي, فهاهو أفلاطون يطرح في محاورة (الجمهورية) أول نظام سياسي للمدينة الفاضلة, ويليه أرسطو وغيره من الفلاسفة اليونانيين الذين أثروا العالم القديم بأفكارهم الفلسفية والتي ألقت بظلالها على طابع التفكير الديني الذي ساد في العصر الوسيط في العالمين الإسلامي والمسيحي. ومثلت الأديان السماوية فكرًا دينيًا متكاملاً تشكل بناء عليه طبيعة المجتمع ونظامه السياسي وقيم أفراده وبشكل عام ثقافته بشتى مظاهرها. وقد لعبت على وجه الخصوص أفكار الفيلسوفين اليونانيين أفلاطون وأرسطو دورًا بارزًا في السجالات الفكرية الدينية, إذ تم تبنّي الكثير من أفكارهما والمناهج الفكرية التي عملت كأدوات للجدل الفكري الديني والسياسي والأخلاقي وغيره عند فلاسفة العصر الوسيط المسلمين أو المسيحيين. فعلى سبيل المثال سيطرت أفكار أرسطو بشكل كبير على أوربا والتي تبنتها الكنيسة المسيحية. وفي العالم الإسلامي قام الفارابي بمحاكاة مدينة أفلاطون الفاضلة, واعتبر ابن رشد أيضًا واحدًا من أبرز شراح أرسطو في العصر الوسيط. ولمدة ألفي عام تقريبًا, أي منذ ظهور التفكير الفلسفي تشكل العالم القديم بناء على الفلسفة والفكر الديني, أي أن الفكر كان له اليد العليا, وكان ذلك على حساب العديد من المظاهر السياسية والاقتصادية وغيرها.

          ومع دخول عصر النهضة, أصبحت أوربا أمام وضع جديد بعد انهيار سلطة الكنيسة التي لم يكن انهيارها سياسيًا فقط, بل ثقافي أيضًا, بمعنى أنه انهارت الثقافة التي أنتجتها على مدى القرون السابقة, والتي شكلت رؤية الإنسان وثقافته وتفسيره للعالم ولمصيره...إلخ. وأخذت تحل محلها الثقافة القائمة على التفسير العلمي لظواهر الطبيعة, وحدثت تحوّلات اقتصادية كبرى حيث حلت الرأسمالية بالتدريج محل النظام الاقطاعي القديم, وأصبحت المدن لا الأرياف مركز القوة الاقتصادية ومن ثم السياسية. ومنذ القرن السادس عشر وحتى نهايات القرن التاسع عشر, عاشت أوربا تحوّلات فكرية عميقة عكست نفسها على كثير من مظاهر الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ويمكن تلخيص أبرز العوامل التي جعلت من هذه الفترة محط سجال فكري محتدم ألقى بظلاله على الجوانب السياسية والثقافية.

          وأول ماتجدر الإشارة إليه هو طبيعة الصراع الذي نتج بعد انهيار السلطة السياسية للكنيسة المسيحية. فبعد التطورات التي حدثت في العلم كان السجال الفكري محتدمًا بين رجال الدين والمفكرين المسيحيين من جهة والعلماء والفلاسفة والمثقفين من جهة أخرى طيلة القرون التي تلت ذلك الانهيار, أي أن الصراع كان صراعًا فكريًا بالدرجة الأولى بين طريقتين من التفكير, الأولى وهي الطريقة الدينية الغائية ذات الطابع الميتافيزيقي, والثانية الطريقة العلمية الآلية ذات الطابع الواقعي. فطيلة أربعة قرون كان الصراع محتدمًا إلى أن جاء القرن التاسع عشر الذي تقدم خلاله العلم كثيرًا وظهرت نظريات علمية كان لها عميق الأثر على الديانة المسيحية. فحسمت تلك النظريات الجدل الفكري الذي ساد طيلة القرون السابقة لمصلحة الطريقة العلمية من التفكير.

          أما الأمر الثاني, في هذه الفترة أعيد تأسيس العقل الإنساني على أسس فكرية جديدة تختلف عن الطريقة التي سادت في العصور الوسطى. فمع بروز العلم وتطوره عبر المناهج العلمية التجريبية والرياضية تمكن العلماء من تحقيق الكثير من الاكتشافات والحقائق العلمية التي ساهمت في تطوير وخلق السبل التي تسهل أمور حياة الإنسان وتطورها. وقد استدعى ذلك إعادة النظر في الطبيعة والكون والحياة وإعادة تفسير الظواهر الطبيعية والاجتماعية والإنسانية بطرق وأساليب فكرية جديدة تختلف عن التفسيرات السابقة. وقد توجت تلك العملية بالوصول إلى عصر التنوير أو الأنوار, والذي سادت به نزاعات ثلاثة مهمة وهي العقلية والعلمية والإنسانية والتي تعكس الأبعاد التي ساهم العلم فيها بإعادة بناء العقل والفكر الإنساني من جديد على أسس مادية وواقعية قادته لإحداث تطورات مهمة في مسيرة الحضارة الإنسانية التي قطف ثمارها القرن العشرون.

          أما العامل الثالث, فيعود لقوة العلاقة بين الفلسفة أو الفكر بشكل عام والسياسة التي تميّزت بها هذه المرحلة بالفعل. فانهيار سلطة الإقطاع والكنيسة المتحالفة معها والتحول إلى المدن وظهور الرأسمالية وفر الأرضية لإعادة صياغة طبيعة الدولة في أوربا. وقد تميزت هذه المرحلة بنشاط فلسفي وفكري كبير قاده الفلاسفة والمفكرون عبر طرح العديد من الأفكار حول هيكلية الدولة وعلاقة السلطة بالمواطنين وحقوقهم وواجباتهم والطريقة التي تتم من خلالها ممارسة الحكومة لسلطاتها وطريقة اختيارها وقيام التعددية في المجتمع على أنقاض الدولة ذات الطابع الديني الواحد. فنجد آراء جديدة للفلاسفة أمثال جان جاك روسو, جون لوك, مونتسيكو, توماس هوبز, جون ستيوارت ميل, ديدرو, والقائمة تطول بالأسماء, يطرحون الأفكار والأسس التي تقوم عليها الدولة وعلاقتها بمواطنيها كفكرة العقد الاجتماعي والنظام الديمقراطي وطريقة الانتخاب واحترام حقوق الإنسان وتحقيق العدالة السياسية والاجتماعية في المجتمع وغيرها من الموضوعات التي شكلت محور الجدل الفكري السياسي في تلك الفترة. وقد نتج عن ذلك أن ساهم الفلاسفة والمفكرون في عملية بناء النظام السياسي الذي يقوم على التعددية الحزبية واحترام حقوق الإنسان والحريات العامة والشخصية والتداول الديمقراطي للسلطة الذي تميزت به أوربا الغربية والغرب, وعمومًا عن غيره من الأنظمة في العالم. أي أن العلاقة بين الفلاسفة والسياسيين وصلت إلى ذروتها, وكان الدور الذي يلعبه الفلاسفة في التكوين السياسي للدولة وسياستها على قدر كبير من الأهمية. أما آخر أبرز العوامل في هذا الشأن فيتعلق بظهور المذاهب الشمولية الكبرى في الفلسفة التي وصلت إلى ذروتها في القرن التاسع عشر في مذهبي هيجل وماركس. ففي هذه المذاهب أصبح الترابط بين الفكر والسياسة واضحًا إذ قدمت تصوّرات شمولية لواقع الحياة ومسيرة البشرية عبر أفكار شمولية لواقع الحياة السياسي والاقتصادي والاجتماعي, أي أن هذه المذاهب تميزت بالنظرة الشمولية للحياة من منظور معين سواء عقلي عند هيجل أو مادي عند ماركس ارتكز عليهما الفلاسفة في تفسير الواقع الإنساني برمته لدرجة وصلت إلى التنبؤ بالمستقبل عبر تغيرات حتمية لها طابعها السياسي والاقتصادي, وقد هيمنت هذه المذاهب على القرن التاسع عشر (هيجل) وكان لها حضورها القوي في القرن العشرين (ماركس).

          إن ما سبق ذكره من عوامل يمثل أبرز الجوانب التي دفعت بالعلاقة الراسخة بين أهل الفكر والسياسة والذي نتج عنه الشكل الحضاري الإنساني الذي نراه اليوم في بناء النظم السياسية التي تقوم على التعددية السياسية واحترام حقوق الإنسان, فمنذ ظهور الفلسفة في العصر اليوناني وحتى نهاية العصر الحديث كان الدين والفكر الفلسفي محورين مهمين من محاور الحضارة الإنسانية شكلا رؤية الإنسان للعالم ومن ثم طريقة حياته وثقافته, ولكن مع نهايات القرن التاسع عشر أخذت الفلسفة منحنى جديدًا تمخضت عنه تحولات كبرى في طابعها ومناهجها, بل وقضاياها, فحدثت تغيرات في طابعها وعلاقتها مع ضروب أخرى من المعرفة بعد أن تحولت معظم المذاهب الفلسفية للتعددية وأخذت تركز على العالم الواقعي وجزئياته.

من الفكر إلى الواقع المادي

          لاشك في أن التحولات التي حدثت في طابع التفكير الفلسفي منذ نهاية القرن التاسع عشر كان لها تأثيراتها التي امتدت إلى جميع مظاهر الحياة والثقافة الإنسانية. فقد شكل هذا التحول ضربة قاصمة لطبيعة الفكر الفلسفي الشمولي. فنتيجة للتطورات الهائلة التي حدثت في المجتمع الإنساني من شتى النواحي أصبح من الصعب أن يتم تفسير العالم أو الوجود من منظور واحد أو نظرية أو مذهب فكري واحد يطبق على كل مجتمعات وثقافات العالم, إذ أصبح التفاوت واضحًا بين المجتمعات الإنسانية التي تعقدت فيها ظروف المعيشة وتطورت بشكل جعل من التجديد الثقافي والفكري ضرورة لا مفر منها. فطريقة التفكير التي سادت معظم القرن التاسع عشر لم تعد تصلح للقرن العشرين الذي شهد أضخم التطورات العلمية في شتى فروع المعرفة الإنسانية.

          ولعله لا يخفى على أحد أن القرن العشرين شهد صراعًا أيديولوجيًا كبيرًا بين النظامين الاشتراكي والرأسمالي ظل عقودًا عدة إلى أن انتهى بتفكك الاتحاد السوفييتي في بداية العقد الأخير من القرن نفسه. فعلى الرغم من أن الطابع العام للفلسفة الماركسية كان على عكس تيار الفكر الفلسفي المعاصر القائم على التعددية, فإنها سجلت انتشارًا كبيرًا لا لشيء إلا لكونها جزءًا من نظام اقتصادي وسياسي ساهم بانتشارها في العديد من بقاع المعمورة. فقد تم بناء الدول الاشتراكية على أسس أيديولوجية فكرية قائمة على أساس الفكر الماركسي المستند إلى دكتاتورية الطبقة العاملة, وصيغت العديد من سياسات هذه الدول بناء على المنطلقات الفكرية اليسارية, واستقطبت قطاعًا كبيرًا من حركات التحرر في العالم الثالث. لكن ما لبث هذا الزخم الكبير أن تراجع ثم انهار في مقابل تقدم النظام الرأسمالي الذي يكاد أن يكون الآن النظام الوحيد في عالمنا. وفي هذا الصدد هناك أمران مهمان لعبا دورًا أساسيًا في انهيار التجربة الاشتراكية من زاوية فكرية, من عوامل أخرى عدة بالطبع, وهما الجمود العقائدي وعدم الواقعية. فقد تسبب الجمود العقائدي في الدول الاشتراكية السابقة في توقف التطور الفكري ومن ثم السياسي في هذه الدول, وتحولت إلى أنظمة قمعية تعاملت مع أي دعوة للإصلاح السياسي أو التطوير الفكري على أنها انحراف يصل أحيانًا إلى حد الخيانة للمبادئ الاشتراكية, وقد نتج عن ذلك جمود أي محاولة لتطوير هذا النظام على أسس فكرية أو فلسفية تتماشى مع التطورات الكبرى التي حدثت خلال القرن العشرين. فقد كان من الممكن أن تمثل هذه التجربة الوليدة للنقاش الفكري والفلسفي لتشكيل وتطوير الدول على مبادئ الاشتراكية مثلما كان الأمر مع تحول المجتمع الأوربي في نهايات العصر الوسيط من الإقطاع إلى الرأسمالية, حيث لعب الفلاسفة والمفكرون السياسيون دورًا مهمًا في تشكيل طبيعة النظام الديمقراطي الرأسمالي وصولاً إلى شكله الحالي. ووقف الجمود العقائدي أيضًا عقبة أمام الاستفادة من التراث الفلسفي السياسي الغربي وتطويره بما يتماشى مع الدولة المعاصرة والاستفادة من جوانب كثيرة من النظام الرأسمالي في خدمة النظام الاشتراكي, فقضى ذلك على إمكان استمرار دور المفكرين والفلاسفة في تطوير هذا النظام والمساهمة بشكل عام في توجيه السياسيين مثلما كان الأمر سابقًا. وساهم انهيار التجربة الاشتراكية في تراجع الدور الذي يمكن أن يلعبه الفكر على المستوى العالمي.

انهيار الحلم الاشتراكي

          ومن جانب آخر كان لعدم واقعية الأيديولوجيا دور أيضًا في انهيار الجوانب الفكرية ذات البعد السياسي. فالفكر الاشتراكي كان يُمني معتنقيه بمجتمع عادل يدعو للقضاء على الطبقات ومن ثم إشاعة العدالة في المجتمع الذي سيسود فيه التآخي والمساواة وإلى آخره من المصطلحات الإنشائية. ومع مرور عقود من التطبيق لم يتحقق ذلك في الدول الاشتراكية. وأثبتت الأيام أن المجتمع الاشتراكي العادل ما هو إلا فكرة مثالية قامت عليها الأيديولوجيا بشكل نظري لا واقعي إذ تجاهلت الطبيعة الإنسانية بما فيها من نزعات من الخير والشر, وأصبحت الأيديولوجيا صحيحة من الجوانب النظرية والفكرية فقط, ولا أساس لها في الواقع, أي لا يمكن تحقيق النظام الأيديولوجي الفكري المتكامل إلا من ناحية نظرية وليس على أرض الواقع, إذ لا يمكن للفكر فقط تصنيع الواقع. وأمام هذه النظرية المثالية تسيد العلم بواقعيته وأساليبه الإنتاجية والتكنولوجية القرن العشرين, فمن خلاله أصبح الإنسان يصنّع الواقع ويطوّره لا من ناحية الفكر فقط. ويتميز العلم بطابعه الموضوعي والمادي وغير المتعلق بأي جوانب عقائدية أو ذاتية, فهو يتطور بمنطقه لا بمنطق فكري خارجي. وقد حدثت التطورات العلمية المذهلة في شتى المجالات في العالم الغربي والرأسمالي, وأصبح العلم الأداة أو الوسيلة التي تتشكّل من خلالها المعرفة, ومن ثم الثقافة الإنسانية. وأصبح العلم مسئولاً عن ذلك لدرجة أن الابتكارات التي يتوصل إليها بشكل شبه يومي, أصبحت تقود الإنسان - إن جاز التعبير - إلى المجهول لأن الكثير منها بدأ في هز الأسس والقيم الثقافية الاجتماعية لشعوب عدة. هذه العوامل مجتمعة ساهمت خصوصًا في الربع الأخير من القرن العشرين في تراجع الاهتمام بالفكر والفلسفة ضمن النطاق العام, ومن ثم تأثير الفكر والمفكرين في عالم اليوم, عالم الشركات المتعددة الجنسية, عالم الخصخصة والثقافة المادية التي جلبتها وحولّت اهتمامات الأفراد من القيم الإنسانية والثقافية إلى عالم المال والمادة, عالم تحويل الدولة إلى شركة من الشركات الكبرى.

عالم الشركات العملاقة

          دخل العالم في العقد الأخير من القرن العشرين مرحلة جديدة بعد انهيار المنظومة الاشتراكية, وبدأ معه الحديث عن العولمة, هذه الظاهرة الآخذة بالتبلور بالتدريج والتي أصبح من الواضح أن الشركات العملاقة هي التي تقودها في هذه الآونة, الأمر الذي يتطلب توفير حماية سياسية لها لحل المشكلات التي قد تعترض طريقها في الانتشار في شتى أرجاء العالم. فالاتفاقات الاقتصادية والتجارية انتشرت في كل أرجاء المعمورة وصولاً إلى اتفاقية (الجات) التي تكاد تشمل كل العالم. ولاشك في أن هذه المرحلة اتضح فيها دور السياسيين بشكل كبير الذين أصبحوا يقودون العالم ويدافعون عن مصالح الشركات الكبرى. وقد تميزت هذه المرحلة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية للعالم الغربي, والتي انفردت بدور أساسي وقيادي بارز في العالم وأصبحت الدولة العظمى الوحيدة فيه. ولاشك في أن قيادة واشنطن للعالم عززت من تراجع دور أصحاب الفكر بشكل كبير وذلك للأسباب التالية:

          فالولايات المتحدة الأمريكية دولة حديثة جدًا بالمقارنة مع دول أوربا وتفتقر إلى بعد حضاري وثقافي كالذي حدث في أوربا منذ ظهور التفكير الفلسفي وإلى عهد قريب. فالتطورات الفكرية التي رافقت التطورات السياسية في أوربا لم تحدث فيها, بل جنى العديد من المفكرين والفلاسفة الأمريكيين ثمار الفكر الغربي السياسي بالدرجة الأولى وبنوا نظامًا ديمقراطيًا, لكن نشروا فيه ثقافتهم وفلسفتهم. فقد تميز التفكير الفلسفي الأمريكي بواحدة من أبرز الفلسفات المعاصرة وهي الفلسفة البراجماتية التي يرفض فلاسفتها الجوانب النظرية العقائدية والبديهيات الفكرية المسبقة, ويركزون في المقابل على الفعل, فتحول الاهتمام من النظري إلى العملي, ومن المنظومة الفكرية إلى الفكرة أو الهدف الواحد الذي يتحقق عن طريق الفعل. ومع مرور الوقت أصبحت روح المجتمع الأمريكي قائمة على هذه الفلسفة, فعكست نفسها على الجوانب السياسية فقدمت مصالحها السياسية وأمنها القومي على حساب أي جوانب فكرية أو ثقافية, وغابت عن السياسيين أي مبادئ أو قيم. في المقابل قدمت ثقافة استهلاكية لا تقوم على الفكر, بل على حاجات الإنسان الغريزية والكماليات, فحوّلت كل شيء, سواء كان ماديًا أو ثقافيًا, إلى سلعة. وأصبحت بذلك الذراع الحقيقية للقوة الاقتصادية للشركات المتعددة الجنسيات التي أضحت تتحكم في القرار السياسي في الدول الصناعية الكبرى التي تقود العالم. وهذه الشركات لا تتحدث بمنطق الفكر أو القيم أو المبادئ, بل بمنطق الربح والخسارة, وبلغة الأرقام التي يغيب عنها أي بعد إنساني. ففي سبيل استمراريتها وتحقيقها للأرباح تكون على أتم الاستعداد لخلق جيوش عاطلة عن العمل, بغض النظر عن الجوانب الأخلاقية والإنسانية التي يمكن أن تنتج عن ذلك. ومن جانب آخر, ولتغذية الروح الاستهلاكية في شعوب العالم تقوم العديد من الشركات بتشكيل جانب من إنتاجها بناء على ثقافات الشعوب الأخرى ومعتقداتها ومظاهر حياتها اليومية وحاجاتها. فنجد - مثلاً - الملابس وبعض أنواع الأغذية أو بعض الأدوات, أصبحت تنتجها شركات متخصصة تدرس ثقافات الشعوب وتشكّل بضائعها بناء عليها. فالمهم بالدرجة الأولى هو الاستهلاك والربح.

هل من دور لرجال الفكر والثقافة?

          إن التحوّلات التي يشهدها العالم اليوم والتي تتجه بشكل تدريجي ومتسارع نحو العولمة الاقتصادية, ومن ثم ما ينتج عنها من ظواهر سياسية واجتماعية وثقافية لا يشير حاليًا إلى إمكان لعب رجال الفكر أو الفلاسفة دورًا يذكر, فنحن مازلنا في المراحل الأولى للعولمة والتي ستأخذ وقتًا لابأس به حتى تتضح معالمها وتتبلور ركائزها وتصبح واقعًا فعليًا يصعب التخلص منه أو التراجع عنه. فلاشك في أن المرحلة الحالية تشهد نجاحات اقتصادية نتيجة لتوسع الشركات على مستوى العالم, واتساع الأسواق الاستهلاكية والنجاحات التي تحققها التكنولوجيا في إنتاج الأدوات التي أصبح لا غنى للإنسان عنها. ولم تستكمل النجاحات هذه دورتها الاقتصادية بعد حتى تتضح طبيعة العالم أو الواقع الجديد الذي ستخلقه التطورات الجارية. ويمكن القول بأنه في هذه المرحلة لا يوجد دور حقيقي أو فعلي يمكن أن يلعبه المفكرون أو الفلاسفة في عالم تقوده الماديات والربح والشركات, فكل شيء في التنمية والتطوير أصبح تقريبًا يعتمد على رجال الأعمال لا المفكرين, وعلى التقنيات لا الأفكار, وعلى الفعل والاستخدام العملي لا التأمل والتفكير النظري, وبشكّل عام على التكنولوجيا لا الإنسان. فعندما لعب المفكرون والفلاسفة في السابق دورًا مهمًا, كانت هذه قضايا ومشكلات حقيقية وتحوّلات كبرى في طبيعة المجتمع, وكان للإنسان دور فاعل فيه استوجبت ضرورة قيامهم بهذا الدور من أجل إحداث التغيرات الفكرية والثقافية, وتأسيس النظم السياسية, والتي ترافقت مع التغيرات المادية التي جاء بها العلم. أما اليوم, فنحن في عالم مختلف يكاد يختفي منه هذا الدور. والسؤال الذي يتوارد للذهن هنا: هل سينتهي دور المفكرين والفلاسفة في الشأن العام أو العالمي, ويتم الاستغناء عن هذا الدور? والإجابة عن هذا السؤال ما هي إلا تخمينات مبنية على توقعات شخصية لا دراسة علمية وتقوم على النفي. فإذا كان الدور الحالي محدودًا جدًا, فإن أصحاب الفكر والفلاسفة سيعودون إلى الطليعة التي تقود العالم من جديد لسببين مهمين, الأول: يتعلق بظهور مشكلات وقضايا جديدة ناتجة عن التحولات التي تحدث في عالمنا, والتي ستظهر بعد فترة من الآن, سواء كانت على الصعيد الاجتماعي أو الثقافي أو الإنساني. علاوة على التأثيرات التي سيتركها التقدم العلمي والتكنولوجيا على تفكير الإنسان, إذ ستهدم مسلمات قد نراها ثوابت في عالم اليوم وتغير من نظرتنا للعالم والكون, ويفتح الباب على مصراعيه للجدل والنقاش من أجل إعادة بناء العقل الإنساني من جديد بناء على مستجدات العلم وابتكاراته. يضاف إلى ذلك أنه ستظهر بالتأكيد علوم جديدة, تحتاج أسسها ومضامينها إلى بحث وتمحيص من قبل أهل الفكر والفلسفة لمعرفة مدى علاقتها بالجانب الإنساني والمجتمع بشكل عام. أما السبب الآخر, فيعود إلى أن المشكلات المستجدة والقضايا الاجتماعية والثقافية التي ستنتج في المستقبل لن تكون إقليمية, ويتطلب حلها جهدًا عالميًا, فمشكلة مثل التلوث لا يمكن أن تحل على مستوى إقليمي أو الانفجار السكاني أو المياه أو غيرها, بالإضافة إلى القضايا الأخلاقية والثقافية والاجتماعية التي نتجت عن التطور العلمي ستعيد - بلاشك - للمفكرين والفلاسفة الدور في صياغة وتشكيل الثقافة والقوانين التي يمكن أن تحمي الإنسان, وتعيد التوازن بينه وبين الطبيعة والتي تستدعي أيضًا نقاشًا عالميًا لا إقليميًا, ولعل ما نراه من مؤتمرات تعقد على مستوى العالم لمناقشة العديد من الأمراض أو المشكلات الطبيعية أو الإنسانية ما هو إلا مقدمة لاستعادة دور أهل العلم والثقافة والفكر الذي صادره السياسيون ورجال الأعمال الذين إن تركوا وحدهم يصوغون ويشكّلون العالم كما هو حادث حاليًا, فستدفع الإنسانية ثمنًا باهظًا في المستقبل.

 

عبدالله الجسمي   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الفيلسوف سقراط كان مستشارا للإسكندر الأكبر ولكنه لم يردعه عن حروبه