فاطمة يوسف العلي في مجموعتها القصصية: تاء مربوطة!

فاطمة يوسف العلي في مجموعتها القصصية: تاء مربوطة!
        

          هذه المجموعة تلفت النظر إلى ذاتها, وتُغوي بالقراءة والتفكيك والتحليل والمحاورة, لما توفرت عليه من تماسك في بنية الحدث القصصي, وإثراء في الأسلوب, وطرافة في اللغة.

          تتميز الأحداث في قصص مجموعة (تاء مربوطة) بهيمنة الحدث الذهني والنفسي على الحدث المادي الحركي لارتباط هذه الأحداث الذهنية بالحالة الشعورية وبالعالم الذهني والنفسي للشخصيات الفاعلة. ويؤكد المعجم هذا الأمر حيث تتواتر جملة من الأفعال بشكل مكثف من مثل: (فكرت - أحس - شعرت - تضايقت - تذكرت - نسيت - اعتقدت...) وتتوالد أغلب هذه الأحداث النفسية والذهنية من الذاكرة المشبعة بأحداث الماضي, فَتُسْتَدْعى بقوة الاستحضار, وفي هذا الإطار يقول السارد متحدثا عن البطلة في قصة (فتاة وحيدة): (تستحضرصورة الأم) ثم إنّ هذه الأحداث تُستدعى أو تُسترجع بواسطة الذاكرة, ويتجلى ذلك في أغلب قصص المجموعة حيث تقول الساردة في قصة (خالتي موزة): (تذكرت خالتي...) وتقول في قصة (فتاة وحيدة): (إنها تتذكرهم جميعا...) وتتكثف عملية تنشيط الذاكرة في أقصوصة (أوجاع امرأة لا تهدأ) فنجد التواتر والتتابع لعملية التذكر واستدعاءالماضي في الحديث عن (لُبْنى الطفران) (إنها تذكرت هذا الموقف الأسود...) ثم تتلاحق الذكريات فتقول: (إنها الآن تتذكر هذه الحادثة البعيدة وتتذكر ما جرى بعدها...) ثم يضيف السّارد في مستوى آخر من القصة نفسها: (ما جدوى أن تتذكر هذا الآن?).

          إن كثافة أفعال التذكر دالّة على أن الأحداث ذهنية نفسية شعورية عالمها الذاكرة وهي بعيدة كلّ البعد عن الحركة الماديّة والوقائع المجسّدة في أعمال ملموسة. ومن ناحية أخرى ألاحظ أنّ الأحداث الماديّة والمغامرات والإنجازات والوقائع يسيرة متواضعة متى قورنَتْ بالأحداث النفسية والذهنية إذ تبدو قليلة متواضعة في المساحات المخصّصة للسّرد في الأقاصيص, ويمكن أن أجملها أيضا في الأفعال المنتمية إلى معجم الحركة والفعل: (اقتحم- اقترب - جرف - حلّق - توقف- نتلاحم- قفر - أدار السيّارة...).

          إنّ الشخصيات السردية في مجموعة (تاء مربوطة) ذوات فاعلة في نسيج الأحداث القصصية وقد تميزت بقلة العدد, ففي عشر أقاصيص نجد ما يزيد على أربعين شخصيّة رئيسية وثانوية, ويقدر عدد الشخصيات النسائية بثلاث وعشرين شخصية لها تأثيرها الفاعل في الأحداث. وقد اضطلعت المرأة بدور البطولة في ثمان قصص في حين لعب الرّجل دور البطولة في القصتين المتبقيتين. وهذا يبين عن موقف الكاتبة من قضايا المرأة فقد وظّفت إنتاجها القصصي لعرض مشاهد من معاناة المرأة الكويتية ومشاكلها المتعددة داخل مجتمعها.

تعبير عن المجتمع

          ما يمكن تسجيله أن الأقاصيص بمنزلة الفضاءالإبداعي الواسع الذي يحتضن أغلب الفئات الاجتماعية, فنجد المرأة السائحة والمرأة الموظفة والأديبة المفكرة وربّة البيت والخادمة الآسيوية والطالبة المراهقة والعانس الوحيدة والأم الطيبة أو القاسية, ونجد الجدة والحفيدة, فكل الأصناف النسائية موجودة في أقاصيص فاطمة يوسف العلي. إنه خليط هائل من الجنسيات والطبائع والأعمار والميول, إذ نجد المرأة العربية الكويتية والأوربية والآسيوية, المرأة الجديّة والمرأة العابثة, الأديبة المستهترة والأديبة الملتزمة, الضّرة وضرّتها, الأم المتفهمة والأم القاسية. وليس بعيدا عن ذلك فإنّ مبدأ التعدّد والتنوّع يعبر عن ذاته من خلال الشخصيات الرجالية, فنجد الأستاذ وتاجر السيارات والبستاني والمضيف المتسلط والزوج الأناني والشاب المتمرد والمتدين العاشق و(هاتف اللّيل..) ولعل قمة الطرافة في مستوى التعامل مع الشخصيات السردية تظهر من خلال تهميشها والحدّ من تضخيمها وإضعاف سلطانها فنجد بعضها قداختزل في أعداد رتيبة وقد تجلّى ذلك في قصة (الثالثة آه) حيث أشار المتحدث إلى زوجاته بـ(الأولى... الثّانية ...الثالثة) وكأن الزوجة مجرّد رقم لا غير, ونجد بعضها الآخر قد عبّر عن حضوره إمّا في شكل صوت هاتف بلا ذات أو صفات وتحديدا في قصة (رنين... جسد), وإما في شكل ضمير ويتّضح ذلك في قصة (أنا.. وهو..وهو) وقد لعبت هذه الشخصيات دورا مركزيا مؤثرا في الأحداث وكشفت الكاتبة عن تعامل طريف وحديث مع الشخصية السردية.

          تتميز أقاصيص المجموعة بقلة الشخصيات الهامشية والفقيرة أو المعدمة (البستاني - الخادمة) وبكثرة الشخصيات المرموقة اجتماعيا وماديا والمثقفة وذات القيمة, وفي الإطار نفسه ألاحظ كثرة الشخصيات المرموقة التي تعيش انهيارها وكوابيسها وعقدها وأزماتها وهواجسها وقلقها وبحثها المحموم عن لحظة فرح, وجوعها الدّائم إلى الجنس. وغير بعيد عن هذه الحالة توجد شخصيات تسعى إلى التملك والسيطرة بواسطة الحبّ وأخرى تفرض تحكّمها وغطرستها على الآخرين.

          يمكن تصنيف الشخصيات إلى أصناف عديدة بمعيار الثنائيات الكثيرة الموجودة في مجموعة (تاء مربوطة) ومن أهمها ثنائية الخيال والحقيقة التي تتجلّى من خلال التعارض بين شخصيات خيالية موغلة في القدم تجسّدها السيدة الجميلة وأزواجها العشرة في أقصوصة (عندما كان الرجال حريما للسيدة) وأخرى واقعية تعيش في عصرنا الراهن وتلتقي في ذلك بقية الشخصيات.كما يمكن تصنيف الشخصيات بمعيار الجنس إلى ذكور وإناث, وبمعيار الجنسية إلى شخصيات عربيّة وأخرى أوربية وآسيوية, وبمعيار الأخلاق إلى شخصيات محافظة وأخرى متحرّرة..إنّ كل هذه الأصناف تسهم في تنمية حركة الأحداث السرديّة وتُضاعف من توهجها وتطوّرها وتقدمها, وتبين عن صلات تُربط وعلاقات تنشأ بين الشخصيات الفاعلة في الأحداث.

أماكن خانقة

          تميّزت أغلب الأمكنة في أقاصيص المجموعة بجملة من الخصائص السليبة كالانغلاق والضّيق والانحصار والمحدودية, فمجمل الأمكنة الخاصّة هي قبور جميلة للحياة ثمّ هي لاتستمد مدلولاتها من ذاتها وإنّما تستمدها من أفعال الشخصيات وأحاسيسها هناك بالوحشة والسّأم والضّيق وعذاب الضمير والكوابيس المتلاحقة, فإن كان هذا شأن المكان فكيف يظهر الزّمان في (تاء مربوطة)? وكيف يعبّر عن نفسه?وما إسهاماته في تأسيس المعنى?

          يوجد تماثل واضح بين المكان والزّمان وتناغم تام بينهما فهناك في الحقيقة زمنان: زمن أسطوري مُتخيل موغل في القدم ويظهر جليّا في قصة (عندما كان الرّجال حريما للسيّدة) ووقع تحديده بعشرين ألف سنة مضت وهو ما يُناسب وجود المجتمع الأمومي الذي كانت فيه السّيادة للمرأة فهو زمن (ديميتر) إلهة الخصب والحُبّ حيث يستمد الإنسان سلوكه وأخلاقه من أخلاق الآلهة وسلوكها.

          أما الزّمن الثاني فهو زمن واقعي منغرس في تربة العصر الراهن (عصر الصواريخ العابرة للكواكب) ويتفرّع هذا الزمن إلى ماض قريب, وقد عبّرت عنه صيغ الأفعال الماضية وتواتر فعل السرد (كان). وينحصر هذا الماضي تقريبا في زمن الطفولة والدراسة والمراهقة ويتميز ماضي الشخصيات بحُلْكة السّواد وعمق الأزمة مع بعض الاستثناءات الطفيفة فهو زمن الاغتصاب والقلق والخوف, ويظهر ذلك في قصة (أوجاع امرأة لا تهدأ) والماضي زمن القسوة والعنف المعنوي في قصة (فتاة وحيدة). أمّا المدّة الزمنية التي تتعلق بالمراهقة فهي وإن كانت حالمة ووردية فإنها سرعان ما تنتهي بالخيبة والانكسار والإحباط. فالساردة تقول في قصة (ما فيها شيء) (انطلقت دمعة وحيدة من عينيها غسلت خدّها...).

          يتسم الزمن الحاضر في أغلب أقاصيص المجموعة بالقتامة والوحشة والأزمات الهيكلية المتواصلة فهو زمن الأحلام والكوابيس والضيق والقلق, يظهر ذلك في شخصية جاسم بطل قصة (هلا يا عيوني) كما أنّ الحاضر يعني الوحدة والضّيق وانتظار الزّوج المفترض الذي يخلصها من الوحدة والعنوسة ويظهر ذلك في قصة (فتاة وحيدة), والحاضر في أقصوصة (أوجاع امرأة لا تهدأ) زمن مناسب لعذاب الضمير ومحاسبة الذات وجلدها كما أنه زمن المباغتة والمداهمة والاقتحام وتبديد الصّفو وهدم اللّذات, فالسّاردة تقول متحدثة عن زوجها الذي يقتحم عليها الغرفة أثناء لحظات الخلق الإبداعي: (عندما اقتحم الغرفة فجأة وجدني معه في حالة من الذوبان). ولولا اللّحظات التي تخلو فيها الكاتبة إلى ذاتها وقلمها وأوراقها فتلتذ بروعة الخلق وتسعد بالولادة الإبداعية لقلنا إن الحاضر في الأقاصيص حالك السّواد إلا من هذه اللّحظات القليلة التي تزيّنه وتضيء ظلمته القاتمة ثم يختلف المستقبل عن زمني الماضي والحاضر فهو أكثر قتامة وسوداوية منهما, فالمرأة المتحدث عنها في قصة (الثالثة آه) لا تعيش لنفسها وعائلتها بل تعيش لخدمة زوجها وتحقيق رغباته, وفي هذا المجال يقول الزّوج حالما: (إني أحلم بزوجة تؤكد لي كلّ يوم أنّها زوجتي...) وكلما توجّهنا صعودا في الزّمن وتوغّلنا باتجاه المستقبل, ازدادت الأزمنة توتّرا وتبدّد الأمل في تحصيل السعادة, ففي قصة (هلا يا عيوني) يتحدّث السارد عن علاقة جاسم بزوجته الألمانية وتطور هذه العلاقة نحو الأسوأ فيقول: (سنة ثالثة ظهرت عليها علامات الضيق, السنة الرابعة تحول إلى مضايقة, السّنة الخامسة تحوّلت المضايقة إلى جفوة...).

          إجمالا أسهمت كلّ العناصر المكونة لبنية الحكاية بشكل حيويّ في رسم معالم هذا الكون القصصي, وفي إضاءة معانيه الكبرى, ويمكن أن نتساءل عن مكونات بنية الخطاب وعن كيفية حضورها في الأقاصيص وعن الوظائف المنوطة بعهدتها.

استكشاف الداخل

          أما الحوار, فإنه منتشر في كل أقاصيص المجموعة بشكل لافت للانتباه, ويحضر بنوعيه: المباشر والباطني, فيسهم في كسر خطيّة السرد وفي الحد من اندفاعه, وهديره, ويعمّق الإيهام بالواقعية والصدق, ومن خلال حديث الشخصية. عن نفسها بنفسها دون واسطة إضافة إلى مهمة الكشف عن المشاعر الباطنية والمواقف الشخصية, غير أن كثافة الحوار واحتلاله لمساحات مهمة داخل أقاصيص المجموعة, يكون أحيانا على حساب السرد, ويسيء إلى النص فيقرّبه من النص المسرحي الدرامي, ويبعده عن النص السردي القصصي, ولعل الحديث عن أجناس الخطاب يسلمنا بدوره إلى الحديث عن بنية اللغة في هذه المجموعة القصصية, وعن طبيعة المعجم المستخدم في الأقاصيص, وعن الوظائف التي تضطلع بها اللغة في هذا الأثر.

          إن لغة السرد أهم عنصر في الكتابة السردية, فالمبدع يبدع بواسطتها وداخلها, ولغة القصة تشكيل خاص للكلام ونسج إبداعي, وهي أساس الجمال وموطن الاهتمام في أي عمل سردي. فكيف تحضر اللغة في هذه القصص? وكيف تعاملت القاصة مع لغة السرد?

          تحضر لغة السرد في الأقاصيص في شكل جمل فعلية قصيرة تتلاحق وتتتابع, فتعكس أحداثا مادية أو ذهنية مجردة, وتخبر بوقائع تقع للشخوص الفاعلين في الأحداث, وقد انتظمت هذه الجمل في شكل تراكيب بسيطة وخالية من أي تعقيد أسلوبي: (لم أجد جوابا...فتحت المظلة وانطلقت من جديد أسير تحت المطر...).

          وعبّرت عن نفسها بألفاظ سهلة سلسة مستمدة من صميم الحياة, فلا حاجة لمعاجم كي نفكّ غموضها, ثم نجد جملا اسمية قصيرة تصوّر مشهدا أو تخبر بحدث أو تسترجع ذكرى أو تؤسس عنصرا أو تجسّم حالة نفسية أو ذهنية, أو ترسم ملامح شخصية من الشخصيات القصصية, تتواتر الجمل تواترًا سريعًا لتعكس نبض الشخصية وتوتّرها, وعمق انفعالها, ويظهر هذا التواتر المتسارع في قصة (أنا وهو وهو) حيث تقول: (يقترب, اقترب..يُقبل, أقبل..يجرفني.. نحلّق, نذوب وننسى الكون).

          وتمسي الجمل في مواطن أخرى شديدة البطء, قليلة التواتر, ثقيلة تمضي ويتجلى ذلك في قصة (أوجاع امرأة لا تهدأ), حيث تنكمش الأحداث وتتضاءل بفعل الوحدة والانتظار, وجلد الذات وضيق الحال, حيث يقول السارد متحدّثًا عن (لُبنى الطفران): (حاولت النهوض لم تسعفها ساقاها...تربّعت في مكانها...).

تنوّع اللغة

          إن الاشتغال على اللغة في مجموعة (تاء مربوطة), يتجلى من خلال تنوع اللغة بتنوع الموضوع, فلكل مقام مقال, فنجد لغة الغزل رقيقة وليّنة مثيرة, فالقاصّة تستعير من الشعر الغزلي توهجه ورقته وتكثيفه.

          لقد حوّلت القاصّة معجم الغزل والرثاء والهجاء والتصوف من مجال الشعر إلى مجال السرد القصصي, ووظفت هذا المعجم المستعار توظيفا ناجحا للدلالة على أن مشاعر الإنسان وانفعالاته هي ذاتها, وإن تبدل المجال, وللتأثير الجمالي في القارئ كثيرا ما خرجت الكاتبة في هذه القصص عن المعنى المعجمي إلى مستوى الانزياح الدلالي الذي يكسب اللغة جملة من المعاني الجديدة التي لم تكن فيها.

          تكتسي الدلالة في المبحث السردي أهمية بالغة باعتبارها المحصّلة النهائية للعناصر السابقة في بنيتي الحكاية والخطاب. فما المجالات التي تتوزع إليها الدلالة? وما الوظائف الأساسية التي اضطلعت بها?

دلالات مختلفة

          يمكن حصر الدلالة في مجال القضايا الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أثارتها الكاتبة في مجموعة (تاء مربوطة) فقد بينت في بعض أقاصيص المجموعة وخاصة في أقصوصة (أنا وهو وهو) وضعية الزوجة المثقفة عموما, والأديبة المبدعة خصوصا, وما تتعرض له من اضطهاد وتنغيص في إطار علاقتها بزوجها, فهي لا تعيش لإبداعها وفكرها وفنّها, بل تعيش لخدمة زوجها وإسعاده, فلابد أن تكون جارية في حضرته إذا ما دخل عليها ألقت ما في يدها وسهرت على راحة هذا الأناني الذي يغار من اختلاء زوجته بالقلم أو بالكتاب, ويعاملها معاملة الخائنة والمقصّرة في حقّه, فهذه الوضعية دالة على العوائق الكثيرة التي تعرقل إبداع المرأة العربية وتضيف إلى أوجاعها الكثيرة وجعا جديدا. ثم تطرقت في مستوى آخر, وخاصة في قصة (أوجاع امرأة لا تهدأ) إلى ظاهرة القرصنة الأدبية والفساد الفكري والأدبي المنتشر في الوطن العربي, وقد استخدمت شخصية (لبنى الطفران) كرمز دال على هذا الفساد المستشري في الوسط الأدبي, فرغم فصلها عن التعليم في نهاية المرحلة الابتدائية لبلادتها وغبائها ومساوئ أخلاقها, فإنها تستغل كل ما وهبها الله من جمال وثراء فاحش لتتقرّب من ذوي النفوذ وأرباب الدعاية والإعلام لغرض الشهرة والانتشار, يقول السّارد متحدثا عنها: (كانت باحثة عن المغامرة والحب والجنس والأضواء...), وقد بلغ بها داء حب الظهور وتحقيق الذات إلى شراء كتب كثيرة من كتّابها لغاية الحديث عنها في وسائل الإعلام والتسبيح باسمها في الملتقيات الفكرية والمحافل الأدبية, فيقول السارد ساخرا: (يغارون من كتبها الكثيرة التي يقبل الناس على شرائها بعد أن تشتريها هي من كتّابها - والحديث عنها في الصحف...).

          يمكن التركيز في القضايا الاجتماعية على الفساد التربوي وظاهرة العنوسة, وتصدّع العلاقات الزوجية, ويتجلى الفساد التربوي في جهل الآباء والأمهات بالمناهج التربوية الحديثة, والسبل العلمية المتبعة في إعداد الناشئة وتخطي مرحلة المراهقة تخطيا سليما ومتوازنا, فقسوة الأم وتعاليمها الجارحة دمّرت شخصية البنت (طيبة) في قصة (فتاة وحيدة), وسممّت حياتها وأوهنت صلتها بالمستقبل, مما جعلها تهادن الإحباط وتراكم العقد النفسية وتحفظ أهاجي أمها عن ظهر قلب, فهي تقول لابنتها: (إنت يا النحسة يومك مثل وجهك يا طيوبة...), ثم تضيف في مستوى آخر من القصة نفسها: (ما عندك سالفة وجهك مثل صحن المموّش...).

          أما العنوسة, فهي ظاهرة اجتماعية سلبية عبّرت عنها شخصية (طيبة) في قصة (فتاة وحيدة), وبيّنت من خلالها ما تعيشه العانس من شعور بالوحدة وإحساس بالفراغ ويأس من الحياة وعدم الثقة في المستقبل, وقد حمّلت الكاتبة العائلة مسئولية ما تعيشه العانس من معاناة بسبب مصادرة رأي الفتاة وحقها في اختيار الزوج المناسب, وبسبب الشروط المجحفة التي توضع للقبول بزوج المستقبل. وأما القضية الاجتماعية الثانية التي تطرحها الكاتبة في مجموعة (تاء مربوطة) فتتمثّل في توتر العلاقات الزوجية وتنامي الطلاق, ولعل تصدّع العلاقة الزوجية راجع إلى نوع من السطحية والتسرع في اختيار الطرف الثاني. وتعود ظاهرة الطلاق والانفصال إلى أنانية الرجل وضيق أفقه, وتصوّره الساذج للعلاقة الزوجية, فلابد أن تكون هذه الأخيرة مؤتمرة بأمره, ساهرة على خدمته, ونسخة طبق الأصل من نموذج المرأة في ذهنه, فقد طلّق البطل في قصة (الثالثة آه), زوجته الأولى لولعها بالسياسة, والثانية لحبّها المفرط لعائلتها, وطلق الثالثة لعنايتها الفائقة بأولادها, وهو بصدد البحث عن امرأة تعبده وتسبّح باسمه في الصباح وعند المساء, فهو يقول: إنني أحلم بزوجة تؤكد لي كل يوم أنها زوجتي, وعموما فإن الرجل العربي كما يظهر في هذه الأقاصيص صعب الطباع, لم ينسجم مع المرأة الشرقية أو الغربية, ولكل ذلك تأثيرات وخيمة على المجتمع.

          القضايا السياسية المطروحة في مجموعة (تاء مربوطة), وفي الأقصوصة ذاتها التي منحت اسمها لبقية الأقاصيص, وأمست لها زعيمة وناطقة رسمية, فتتلخص في النظام الجائر الذي يفرّق بين الجنسين على أساس الجنس, فالذكور لهم الصدارة بكل ما تعنيه الكلمة من تحكم وقيادة وسيطرة ورفاهية, وللإناث الذيل بما تعنيه الكلمة من انحصار وضيق وانقياد وتبعية, ولا غرابة في ذلك, فنحن في مجتمع أبوي شرقي, السيادة فيه للرجل الذي خلق القانون, وقام بتكريسه, وحرص على تطبيقه, غير أن الأمر المحيّر الذي يملأ القلب قيْحا هو التعارض بين مبدأ المساواة في الواجبات الذي يجسّده السعر الموحد لتذكرة الطائرة, ومبدأ المساواة في الحقوق الذي يجب أن يترتّب عن المبدأ الأول ويلازمه ملازمة تامة في ظل هذا الخلل الصراح تعلن بطلة (تاء مربوطة) معارضتها, ويعبر الحوار عن احتجاجها على عدم المساواة بين الجنسين في الحقوق, وقد دفعها تخاذل بنات جنسها (المضيفتين) عن مناصرتها وعجزها عن افتكاك حقوقها وانتزاعها انتزاعًا إلى التعويض النفسي, فقد نأت بذاتها عن هذا المجتمع الأبوي الجائر إلى حضن مجتمع أمومي تظهر خصائصه في قصة (عندما كان الرجال حريماً للسيدة), حيث تسود المرأة, ويُستباح الرجل.

 

الأزهر الصحراوي   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




فاطمة العلي