قصة × صفحة (وجع الرمال)

قصة × صفحة (وجع الرمال)
        

          أعرف رجلا تدرب قلبه على البداوة. لم يعاند الصحراء, فهو يعرف طبعها. حدث ذلك في البداية فقط. أعرفه يمشي طوال الوقت, لا يتوقف, يدرّب قدميه وقلبه على السبل, وئيدا تختلج المسارات تحته, على غير هدى يخب في رمل الأرض, لا يركن لمكان لأن وجوده الأول علّمه أن البدوي الحق لا يستقر إلا حين يموت. هذا الرجل قد يتوقف. لكن إذا حصل الأمر ستفاجئه الحياة بسُمّها. في كل توقف وجع. والمسألة ليست أن نتغلب على مشاكل الحياة, المسألة ببساطة, أن ندرك قوانينها.

          أعرفه يسير كما قدّر له, تظلله الغيوم حينا, والشمس كثيرا, ثم يتوقف فجأة, حين تعبر فوقه غيمة وحيدة وتسير, وقتها سيتساءل عمّا يفعل, عن الجدوى, ويدرك أن الحياة هي المسافة بين ما نريد وما نستطيع, هذا الرجل قد يموت بعد مدة قصيرة إذا ساد الالتباس.

          الرجل أسمر, كما قدّر لكل معاشري الشمس, يلبس أزرق حائلا من الوجه حتى القدمين, اسمه لا يهم, ولا يهم الزمن الذي ينتمي إليه, قد يكون من الحاضر أو الماضي, من بداية القرن أو وسطه, وقد ينتمي للمستقبل! مَن قال إن للزمن معنى في الصحراء? أعرفه وأعرف وجهته ومبتغاه, لكنني لن أقول كي لا يفتضح  الأمر.

          لن أقول إنه يخب في الرمل بحثا عن امرأة, أجدى بكثير, سوف أكذب إذا قلت إن الرجل يبحث عن مال أو تبر, وسأكون مفتعلا إذا قلت إنه يبحث عن فكرة, إنه يبحث وكفى, عن شيء غامض, بودي لو أحدد صفاته, لكن مهمتي الدفاع عن الالتباس, رجل تدرّبت على كتابته طوال الليل, لكنني لا أنتهي منه إلا لأبدأ من جديد, ولقد تدرّب بدوره على النيل مني: هل أقول إن حكايتي عن المشي وكفى? إنها تسير وتُرهقني.

          هذا الرجل قوّست الشمس والزمان حبال ظهره, غير مطمئن بالمرة لأن سم الحياة زعاف. قال له شيخ الزاوية التي مرّ بها في رحلته واستطعم أهلها إن التيه ليس في الرمال والحر والريح. البدوي تائه على الدوام, التيه هنا في الداخل, وأشار إلى صدره, نحن التيه, وإذا لم تجد ضالتك في صدرك فلن.

          هذا الرجل يسير محني الظهر, تدفعه الريح حين تكون إلى صفه, تعانده حين يتواجهان, فيخرق صلابتها برأسه, الرمل يملأ عينيه, والزوابع موسيقى: تسكنه فكرة واحدة: الصحراء لم تعد صحراء: بتأفف تسكنه, رجل يخب في الصحراء باحثا, في الزوابع والحر, عن المعنى يبحث أم عن المبنى أم عن سراج يضيء القلب?

          سوف يسير, ثم يأنس نارا ويقصدها, يسلم على أهل الخيمة هذه المرة, يقودونه بعد الأكل إلى مضجعه, فيختلي مع الهواجس في الظلام, كان الليل طويلا والنجوم سهارى وجفونه لا تذوق ما تريد, مستسلما لنشوة الظلمة, ولنشوة الراحة بعد التعب, كانوا يتكلمون, ما همّه إن تحدث أصحاب الخيمة عن غيره, في خلوتهم, المهم ركونه للراحة, لا يهتم لهؤلاء الغرباء الذين توقف عندهم, طالبا حمايته من تعب البحث, فأذغنوا. لم يهتم لكلامهم ولا لحوارهم الذي بدأ الآن يصخب فلا تعود الأمور كما كانت, ستطفو المشاكل كالأوساخ على سطح ليلتهم هاته, يشاركون الطبيعة عنفها وهم ينحدرون جهة اصطخابهم, ينبشون حياة الآخرين فيعرون على جروح لم تندمل. تصل أصواتهم مضجعه, فيحسّ ألم ما يحصل, ساخنا, في إحساس الراحة, غير متواطئ مع تفاصيل حكاياتهم, لا يشكو تعبا في ثباته, ذاته عميقة جدا كما لا يبوح: قال قبل أن ينام ويحلم, بحيرة, لا يسقط, لا حاجة له للكلام. المرأة التي تتلوّن في وجوه وملامح كثيرة, لكنها لا تستطيع تغيير شكل رجليها, يا حزنها, وصلت, كانت تقف أمامه, أسنانها تكاد تبلغ الأرض, أذناها أذنا حمار, قالت: هل ترى أسناني? لكنه ظل واقفا كالعود الصلب, لا يرشح قلبه خوفا ولا قلقا ولا فوضى. لا يذوب أمامها كالثلج في الصهد, لا يرتّل الرجفة, ممتلئا رغم تعبه, ممتلئا بحسّه البدوي القادر على تخطي العقبات, وقدرته على عيش أي احتمال.

          ولم يرتجف الرجل, لكنه كان يبحث عن سيفه فلم يجد, وتذكر ما كانت أمه تحكيه عن جد قديم أظهر لعيشه الغمد, وقال: وأنت ألا ترين سيفي? ثم يفيق على صفير الريح. كان الفجر قد هلّ فواصل المسير مودعا أهل الدار بعد أن تمعن بأسف في الخيمة وأهلها باحثا عن المعنى. سار بعد أن أكّد له حالهم جدوى بحثه, سار ينتابه الأمل, قد يجد ضالته, لكنه لم يجد في المدى المفتوح سوى غربان طالما راودته, فاجأته والتفّت حول جيفة غزال, الغربان حوله تنعق ثم تستحيل مناجل تعمل فيه, يُفيق ويدرك أنه نام ماشيا وأن كل ما حدث كان صدى لأحلامه.

 

عبدالعزيز الراشدي   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات