الثورة على العولمة

الثورة على العولمة
        

تواجه العولمة ترحيبًا بها.. وثورة عليها في الوقت نفسه.. ولكن من المؤكد أنه لا أحد يستطيع الوقوف أمام تيارها الجارف.

          كانت المجتمعات الإنسانية خلال كل مراحل التاريخ تحرص بقدر الإمكان على إقامة علاقات قوية مع المجتمعات المجاورة, وتوسيع شبكة هذه العلاقات كلما أتيحت الفرصة, وفي حدود القدرات المادية ووسائل الاتصال المتاحة لها. وكان من الطبيعي أن يزداد هذا الميل قوة وعمقا عبر الزمن, وأن تتشعب شبكة العلاقات الإنسانية بتقدم تكنولوجيات الاتصال وتنوع الوسائل ودقة الأجهزة إلى أن بلغت هذه التكنولوجيات قمة التعقد والتقدم والكفاءة في العقود الأخيرة من القرن الماضي فأصبح من الميسور إقامة علاقات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية مع كل أنحاء العالم, دون أن يكون للبعد المكاني أو الفواصل والحواجز الفيزيقية دور مؤثر في تحديد تلك العلاقات أو وضع قيود على تبادل الأفكار والمعلومات, بل وعقد الصفقات الاقتصادية والدخول في التحالفات السياسية على مستوى كوكب الأرض, كما ازداد إحساس الفرد بالانتماء إلى منظومة واحدة كبيرة تضم سائر البشر رغم ما بينهم من فوارق العرق واللون واللغة والدين ومستويات الحياة وتباين الثقافات, أي أن الفرد أصبح يشعر بكيانه كعضو في مجتمع (كوكبي) واسع وشامل, وليس فقط في مجتمع وطني أو قومي محدد ومحدود. وخلال العقدين الأخيرين بالذات من القرن العشرين تبلور الوعي بعملية العولمة كجزء من الحياة اليومية, كما يكشف عن ذلك كثير من التصرفات اليومية (العادية) للإنسان (العادي) ابتداء من متابعته لأخبار العالم على الشبكات الفضائية العالمية, إلى المفاضلة بين الإنتاج المحلي والإنتاج الأجنبي, إلى الاختيار بين الإقامة والعمل في الوطن أو الهجرة للعمل في الخارج, إلى الاهتمام بتقلبات وتغيرات سعر صرف العملات الأجنبية وغير ذلك كثير جدا من الاهتمامات (الشخصية) التي تصدر عنه بشكل تلقائي, ودون إدراك منه لدلالتها ومعناها. وقد وجدت العولمة أصدق تعبير لها وعن أهدافها ومراميها في قيام الشركات الكبرى متعددة الجنسيات التي تستطيع أن تمارس أنشطتها الاقتصادية المتنوعة بكفاءة عالية في أماكن ومواقع مختلفة ومتباعدة, وتبسط مع هذا التوسع النفوذ السياسي للدول الكبرى التي تسهم بالنصيب الأوفى في هذه الشركات (العابرة للقوميات). واستتبع ذلك ظهور قوانين وتشريعات جديدة بل وتفجر حركات اجتماعية متضاربة ومتناقضة تعكس اختلاف المواقف ووجهات النظر إزاء العولمة.

          فعملية العولمة تقابل من ناحية بكثير من الترحيب من عدد كبير من رجال السياسة والاقتصاد بل والمفكرين والأكاديميين في العالم الغربي باعتبارها - من وجهة نظرهم - عاملا مهما في توطيد وترسيخ روح التفاهم والتقارب وإزالة أسباب سوء الفهم والصراع بين الشعوب مما يؤدي في آخر الأمر إلى إقرار السلام القائم على الاحترام المتبادل. ولكن العولمة تواجه في الوقت ذاته كثيرا من الهجوم بل والرفض الناشئين في الأغلب من التخوف من أن تؤدي إلى هيمنة القوى الكبرى وسيطرتها على أقدار ومصائر الشعوب والدول الضعيفة والصغيرة التي تعجز بحكم تخلفها الاقتصادي والتكنولوجي عن الصمود أمام تيار العولمة الجارف, وبذلك تتعرض هويتها ومقوماتها التاريخية والثقافية لخطر التراجع والاندثار, ولذا تحرص على الاحتماء بقيمها التقليدية ومبادئها المتوارثة الأصيلة, وتجد فيها الملاذ والمأوى وخط الدفاع ضد زحف الهيمنة الأجنبية. وبطبيعة الحال لا تسلم هذه الدول والشعوب المعارضة للعولمة من هجوم الدول الكبرى المسيطرة, وبخاصة أمريكا التي لا تتردد ولا تتوانى عن توجيه أبشع الاتهامات إلى تلك الدول, بما في ذلك اتهامها بالميول الشيوعية - بالرغم مما أصاب الشيوعية من تدهور - وتدبير المؤامرات لقلب نظم الحكم فيها, وفرض العقوبات السياسية والاقتصادية عليها.

تهديد العولمة

          وقد جاء في مقال بعنوان (تهديد العولمة) ظهر في أحد إصدارات منتدى السياسات الكوكبية (أبريل 1999) أن العولمة عملية نشطة تهدف إلى توسيع مصالح الشركات الكبرى متعددة الجنسيات وتكريس العلاقات الاقتصادية التي تتعدى حدود الدولة, وأن لها قدرة فائقة على الزحف والانتشار والنمو والتغير بحسب الأوضاع والظروف, وأن هذه القدرات تزيد من قوتها على التأثير والسيطرة, لدرجة أن بعض المفكرين يعتبرونها شكلا من أشكال الأيديولوجيا التي تؤمن بضرورة القضاء على كل ما يصادفها من عقبات ومناورات وتحديات, وذلك عن طريق الإلحاح والمثابرة والدأب على إبراز فوائدها والمكاسب التي يمكن للمجتمع الإنساني أن يجنيها من ورائها, حتى وإن كان الثمن هو القضاء على الأوضاع السياسية والاقتصادية القائمة الآن بالفعل. فقوة السوق الكوكبية سوف تحل محل القوى السياسية التي تتحكم الآن في مصائر الشعوب, أي أن الذي سوف يحدد مسار الأحداث العالمية الكبرى في المستقبل هو الاقتصاد وليس السياسة أو القوة العسكرية وأن قوة السوق التجارية الحرة هي التي سوف تتولى عملية إقرار التوازنات العالمية كما سوف تؤدي إزالة الحواجز أمام التجارة الكوكبية إلى انتشار الديمقراطية في مختلف بقاع العالم, وبالتالي اختفاء النظم الديكتاتورية والاستبدادية التي تجثم على أنفاس الشعوب في معظم مجتمعات العالم الثالث. والأهم من هذا كله هو أن مفهوم الوطنية والقومية سوف يسقط من الاستخدام, على اعتبار أنه مجرد شعار عبثي سلبي يمنع من تقارب المجتمعات والثقافات وتعاونها معا. والمحصلة الأخيرة من هذا كله هي أن أنصار العولمة يرون أن انتشارها سوف يساعد على رفض العنف الصادر عن التعصب العرقي والسياسي والديني بحيث تسود العالم قيم السلام والأمن والاستقرار.

          ولم تمنع كل هذه الدعاوى حول النتائج الإيجابية التي يمكن أن تحققها العولمة من ظهور بعض حركات الرفض والتمرد والاحتجاج والتحدي لهذه الدعاوى ذاتها, وانتشرت هذه الحركات الرافضة في عدد كبير من دول العالم, بما في ذلك بعض الدول الغربية التي تعتبر من أكبر المستفيدين من العولمة. وليس ثمة شك في أن العولمة حققت كثيرا من النجاح في بعض المجالات المهمة مثل قبول مبدأ التحول إلى الديمقراطية ومؤازرة قضايا ومبادئ المجتمع المدني وتخفيض الديون المتراكمة على دول العالم الثالث وإتاحة الفرصة لكثير من الدول الصغيرة لفتح أسواق جديدة أمام صادراتها وتشجيع الاستثمارات الأجنبية في تلك الدول وهكذا. ولكن الملاحظ في الوقت نفسه أن بعض دول العالم الثالث أمكنها أن تحقق لنفسها قدرا كبيرا جدا من النجاح والتقدم, بالرغم من تجاهلها تعاليم وتوجيهات ومبادئ العولمة وأجهزتها الدولية, كما حدث في ماليزيا على سبيل المثال, بينما تعرضت دول أخرى لكثير من الخسائر بعد قبولها مبادئ ونظريات العولمة, إذ تفشت فيها البطالة نتيجة للاستغناء عن كثير من الموظفين والعاملين بعد اندماج الشركات المحلية الصغيرة في الشركات الكوكبية الكبرى وذلك فضلا عما تعرضت له ثقافاتها من تهميش وتراجع أمام زحف ثقافات الدول المهيمنة. ولذا يسود الآن في كثير من أوساط المثقفين أن العولمة, التي تزعم أنها تهدف إلى تحقيق التقدم والنمو والارتفاع بمستوى المعيشة لجميع البشر على مستوى كوكب الأرض - أدت في الواقع إلى مزيد من الفقر والبطالة وعدم الاستقرار وانتشار السخط والتمرد في كثير من أنحاء العالم, وهذه حقائق تثير القلق لدى كثير من المفكرين. وقد انتبه لهذه الحقيقة جوزيف ستيجلتز Joseph Stiglitz الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد في كتابه عن Globalization and its Discontents الصادر عام 2002 وكذلك في المحاضرة التي ألقاها بجامعة أكسفورد في مايو 2004, حيث يعترف صراحة بأن مجتمعات العالم الثالث لم تحصل على المكاسب المرجوة أو المتوقعة من العولمة, وأن اقتصاديات العولمة بالنسبة لتلك المجتمعات تفتقر إلى الأخلاقيات, خاصة أن الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات لم تكن تهتم بأن تشجع حكومات تلك الدول على الاستجابة لمطالب شعوبها, التي أوصلتها إلى الحكم. وفي ذلك أيضا يذهب المفكر الهندي رومينا سيتي Romina Sethi إلى أن ما يسميه (الثالوث المقدس) المتمثل في منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي مسئول عن التدهور الذي تعاني منه كثير من مظاهر الحياة في تلك الدول, ابتداء من تدهور البيئة إلى انتشار أمراض نقص المناعة والإيدز, إلى ضعف موارد الإنفاق على التعليم والصحة إلى تلوث المياه وغير ذلك من المشكلات الاجتماعية والتشوهات التي تقاسي منها شعوب العالم الفقيرة. فالدول الإفريقية - أو بعضها على الأقل - اضطرت إلى تعطيل بعض مشروعاتها الزراعية الحيوية نزولا على نصيحة البنك الدولي بالاتجاه نحو التصنيع لتشغيل الأيدي العاملة, وأنشأت نتيجة لهذه النصيحة مصانع للكوكاكولا والبيبسي كولا استنزفت الجانب الأكبر من مصادر المياه المحدودة وحرمت الناس بذلك من مياه الشرب والري. ومثل هذه الأوضاع تدفع الكثيرين إلى التشكك في أهداف العولمة ومراميها, وأنها لا تأخذ في الاعتبار بصورة جدية اهتمامات ومصالح وتوجهات الشعوب والطبقات الفقيرة أو تبذل الجهد اللازم للارتقاء بالديمقراطية وتطبيق المبادئ العادلة في حرية التجارة مما يدعو إلى التساؤل عن مستقبل العولمة. وعلى أية حال فإن انتشار العولمة لم يكن اختيارا ديمقراطيا من شعوب العالم, وإنما كان على العكس من ذلك عملية مفروضة من المؤسسات الكبرى تبعا لمخطط مدروس لتحقيق أهداف اقتصادية معينة, وساعدت الحكومات على نجاح العملية وانتشارها, واتخذت في الخفاء القرارات التي تحقق ذلك النجاح والانتشار دون علم من الشعوب أو بعد حملات دعائية وإعلانية مكثفة ومغرضة.

ضد السيطرة والاحتكار

          لذا كان من الطبيعي والمنطقي أن تنمو مشاعر التشكك في فاعلية العولمة وقدرتها على حل مشكلات المجتمع المعاصر, وأن تقوى حركات التمرد والاحتجاج ضد سيطرة المصالح الاقتصادية للشركات الكوكبية الكبرى والحكومات التي تساندها وأن ترتفع الأصوات بضرورة التصدي للعولمة, وكشف أساليب الزيف والخداع التي تلجأ إليها للترويج ونشر مبادئها, كما كان لا بد لهذه الحركات المناوئة للعولمة أن تدعو الشعوب المستضعفة إلى الدفاع عن مقومات ثقافاتها الوطنية والقومية التي يراد طمسها والقضاء عليها. ويذهب بعض الكتاب المعارضين للعولمة إلى أنه ليس هناك ما يسند أو يؤيد ادعاءات العولمة حول النتائج الإيجابية التي حققتها أو التي يتوقع تحقيقها في المستقبل. فحقائق الواقع تشير إلى تراجع معدلات الإنتاج بشكل محسوس وانكماش الاستثمارات الأجنبية في معظم دول العالم اللاغربي واتساع الفجوة في الدخل العام بين دول الغرب الكبرى المسيطرة وبقية دول العالم, وانخفاض دخل الفرد في أكثر من سبعين دولة خلال السنوات العشرين الأخيرة, التي شهدت نمو وتضخم وتوحش العولمة, بحيث يعيش الآن حوالي ثلاثة بلايين نسمة - أي حوالي نصف سكان العالم - على أقل من دولارين يوميا بينما يعاني حوالي 800 مليون نسمة سوء التغذية, مع تضخم مشكلة البطالة واستفحال حدة الفقر, مما يضطر معه حوالي 75 مليون نسمة - أو أكثر - إلى الهجرة من المجتمعات الفقيرة إلى دول الشمال, بحثا عن العمل أو طلبا للجوء السياسي. وهذا كله يحدث في الوقت الذي تسمح فيه حكومات العالم الثالث الضالعة مع الشركات الكوكبية بهروب رءوس الأموال إلى الخارج مما يزيد من تفاقم المشكلات الاجتماعية والاقتصادية. وهذه كلها - في رأي هؤلاء الكتاب - مؤشرات على مستقبل لا يدعو إلى الاطمئنان أو التفاؤل.

          ومن أشد مظاهر العولمة استفزازا للمشاعر الوطنية تدخل الشركات الكوكبية الكبري في الشئون الداخلية للدول الصغيرة والنامية, وتوجيه سياساتها بما يضمن المحافظة على مصالح تلك الشركات, دون مراعاة لحقوق شعوب تلك الدول ومتطلباتها واحتياجاتها مما يعني تراجع دور الدولة أمام زحف مطالب الشركات الكبرى التي نشأت في ظل العولمة. وتذهب بعض الآراء إلى أن هذه الشركات يمكن أن تقوم بدور الدولة, وإن كان الكثيرون يرفضون هذه المزاعم بل ويذهبون إلى حد التشكيك في جدوى العولمة وقدرتها على الصمود والتصدي للأوضاع الدولية المتغيرة والصعوبات التي تواجهها الدول الكبرى ذاتها, من جراء مقاومة الدول النامية والفئات الفقيرة في المجتمعات المتقدمة ذاتها, ومظاهر الاحتجاج وأساليب العنف التي تلجأ إليها هذه الجماعات للتعبير عن رفض مبدأ العولمة من أساسه, بل واتهام العولمة بأنها أحد الأسباب القوية والمباشرة لظهور الحركات الإرهابية التي أصبحت تؤلف واحدة من أخطر الظواهر المميزة للقرن الحادي والعشرين. فازدياد هيمنة الدول الكبرى سياسيا واقتصاديا وتدخل المصالح الاقتصادية للشركات الكبرى العابرة للقوميات في توجيه سياسات دول العالم الثالث, وما ترتب على ذلك من إضعاف سلطة الدولة وضياع هيبتها تعتبر من دواعي العنف الذي تلجأ إليه جماعات تخضع لتنظيمات دينية أو سياسية لمحاربة الدول الغربية التي تقف وراء العولمة وإلحاق أكبر قدر من الأذى بها وإن كان هذا لا يعني بالضرورة أن كل الهجمات الإرهابية الموجهة ضد المصالح الغربية ظهرت كرد فعل ضد العولمة, مع أن العولمة تعتبر في الوقت ذاته وفي نظر الكثيرين صورة أخرى جديدة ومموهة للاستعمار القديم ولذا يجب محاربتها والقضاء عليها مثلما تم القضاء على الاستعمار القديم, وأن هذا سوف يتحقق في المستقبل غير البعيد بفضل يقظة الشعوب في العالم الثالث والجماعات غير الحكومية المدافعة عن حقوق الإنسان في الدول المتقدمة ذاتها. وقد أصبحت التنظيمات الإرهابية مصدر إزعاج وتهديد حقيقي لمصالح الدول الغنية المهيمنة, وتمثل ما يعرف باسم التهديد غير المتكافئ asymmetric threat حيث يمكن لأضعف وأصغر قوة أن تلحق الأذى بل والهزيمة بأكبر وأضخم القوى العالمية وتشل حركتها تماما, كما حدث بالفعل بعد هجمات 11 سبتمبر, التي تعتبر مثالا فريدا لتفوق الضعيف على القوي ولو مؤقتا.

هل انتهت العولمة?

          وتثير هذه الأوضاع كثيرا من التساؤلات حول مستقبل العولمة لدرجة أن بعض الكتاب يذهبون إلى أن عصر العولمة قد انتهى بالفعل. ففي مقال بعنوان (العالم سنة 2025) نشر في The Globalist بتاريخ 24 أكتوبر 2001 يقول الكاتب جيروم جلين Jerome Glenn إن العالم بعد أحداث 11 سبتمبر سوف يواجه تزايد العولمة بفضل تأثير الإنترنت الذي يعتبر الآن الوسيلة والواسطة الأساسية الفعالة لممارسة كثير من أوجه النشاط البشري على مستوى العالم, والذي يقوم بالنسبة لانتشار العولمة بنفس الدور الذي قامت به المدن في الانتقال والتحول إلى الصناعة, وأن انتشار العولمة على هذا النطاق الواسع العريض سوف يؤدي إلى أحد أمرين: الأمر الأول هو أنه بدلا من انقسام العالم الآن إلى الشمال والجنوب, فإنه سوف ينقسم إلى المجتمعات التي وصلت إلى ما يسميه بالمستوى الكوكبي في تعاملاتها واتصالاتها بفضل التكنولوجيا المتقدمة والمجتمعات التي لا تعرف هذا النوع من النشاط, وذلك على اعتبار أن عالم الغد سوف يعتمد اعتمادا كليا على الكمبيوترات الصغيرة ذات الكفاءة العالية, بحيث يرتبط الناس بعضهم بعضا في كل أنحاء العالم بسهولة, وسوف يساعد ذلك على انتشار الديمقراطية وتحرر الفرد من سلطة المجتمع والدولة مع انتشار التعليم عن طريق الشبكات الدولية, ولكنه سوف يؤدي في الوقت ذاته إلى ازدياد الفردية وضعف الدولة وانهيار التماسك الاجتماعي داخل المجتمع الواحد وهذه تعتبر أحد مثالب العولمة.

          والأمر الثاني هو غلبة الشيخوخة على المجتمع الإنساني بشكل عام, وليس المقصود بالشيخوخة هنا الارتفاع في نسبة كبار السن إزاء بقية الشرائح العمرية, وإنما المقصود هو زيادة استنزاف الموارد الطبيعية, وبخاصة في العالم الثالث نتيجة لسيطرة الشركات الكبرى وتحكمها في النشاط الاقتصادي والتجاري على مستوى كوكب الأرض. وسوف يترتب على ذلك ازدياد الفقر في العالم وتركيز الثروات في أيدي عدد قليل نسبيا من الأفراد في الدول المتقدمة, وتفشي البطالة والهجرات للبحث عن العمل والارتفاع في معدلات الجريمة واستفحال ظاهرة العنف وانتشار الجماعات الإرهابية على نطاق أوسع مما هو معروف حتى الآن وعجز الحكومات والمنظمات الدولية عن فرض القانون واستتباب الأمن, وهذه كلها تعتبر أيضا من مثالب العولمة ومن المؤشرات التي تنذر بقرب (موت العولمة) أو على الأقل قرب انتهائها كظاهرة ونشاط وأيديولوجيا وممارسة سياسية واقتصادية.

          وقد نشر جون رالستون صول John Ralston Saul, وهو كاتب وروائي أمريكي, مقالا بعنوان (نهاية العولمة) في عدد 20/2/2004 من جريدة الفاينانشيال ريفيو يقول فيه: إن العولمة بكل ما يتعلق بها من حتمية تكنولوجية وتكنوقراطية وإعلاء من شأن السوق, والتي استمر الحديث عنها طيلة السنوات الثلاثين الماضية لتمجيد فاعليتها والتبشير بالنتائج الباهرة التي سوف تحققها (قد ماتت بالفعل), وإن لم تختف وتزول آثارها تماما من الوجود لأن الاختفاء والزوال التام يحتاجان في العادة إلى بعض الوقت, ولا يحدثان بين ليلة وأخرى تماما كما هو الشأن بالنسبة لكل (الموضات) سواء أكانت هي موضات الزي أو الطعام أو الاقتصاد. وإذا كانت العولمة ستخلف وراءها أي آثار فإن ذلك سيكون فقط من قبيل الاحتفاظ بالذكرى للعولمة كقضية. فالمؤشرات والعلامات الدالة على تراجع العولمة كثيرة ومتنوعة - كما هو واضح في حركات الاحتجاج وفي الدعوة إلى التمسك بمقومات الثقافة الوطنية وغيرها - وقد بدأت هذه المؤشرات تفرض نفسها بقوة منذ عام 1995 على الرغم من كل محاولات أنصار العولمة إقناع الشعوب المختلفة بأنه لا رجعة عنها, وأنها وجدت لتبقى, وأن هذا الوجود أمر محتوم. ولكن الزعم بحتمية الوجود هو في حد ذاته دليل على الشعور الداخلي بالضعف.

          والأغلب في رأي الكثيرين من الكتاب والمفكرين في أمريكا نفسها أن تجد المؤسسات العابرة للقوميات أنه ليس ثمة مخرج من هذا الوضع الذي تواجهه العولمة إلا بأن تقبل تلك المؤسسات والدول الراعية للعولمة القيام بدور أكثر تواضعا, وتتخلى عن طموحاتها بأن تفرض على العالم نظاما اقتصاديا أو سياسيا واحدا معينا يحقق لها أطماعها الخاصة ويغفل رغبات ومطالب الآخرين. ودون ذلك سوف تعم الفوضى والصراع ويسود عدم الأمان كوكب الأرض برمته. فلقد أصبحت العولمة تمثل في نظر الكثيرين شكلا جديدا من الاستعمار والاستبداد ينبغي محاربته والتصدي له حتى تتمتع الدول المختلفة بحقها في حرية التصرف في شئونها الخاصة.

 

أحمد أبو زيد   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات