مبالغات الماكروبيوتيك

 مبالغات الماكروبيوتيك
        

          التشافي ببعض الطعام النباتي هو جوهر طريقة الماكروبيوتيك, لكن المبالغات التي يقوم بها غير المتخصصين في الطب أو العلوم الحيوية, عبر وسائل الإعلام تهدف إلى جذب الجمهور أكثر من تنويره. هذه المبالغات لابد أن يتصدى لها المتخصصون لمراجعة الفوضى العلاجية.

          مع تقدم الحضارة والتطور التقني, تطورت الأمراض وتعددت الأوجاع, وبالمقابل تعددت طرق الوقاية والعلاج, إلا أن فشل الطب الحديث في معالجة العديد من الأمراض المستعصية, أو منع حدوثها, جعل العديد من الناس تبحث عن بدائل علاجية غير تقليدية, تحقق لهم الشفاء الملموس, وكان نظام الماكروبيوتيك من أساليب الطب البديل الذي ظهر كفكرة في الشرق الآسيوي حتى أصبح له دعاة ومؤيدون في كل أنحاء العالم.

          كان تمسك الناس بهذا النظام كتمسك الغريق بالقشة, فكلاهما يبحث عن النجاة. غير أن هذا النظام البديل لم يخلُ من العديد من الثغرات التي جعلته لا يصنف ضمن الأنظمة الغذائية الصحية المتكاملة, التي تحقق للإنسان توافر كل أنواع المغذيات الأساسية من جهة, ولصعوبة تطبيقه في مختلف أنحاء العالم من جهة أخرى. بوجه عام, يقترب نظام الماكروبيوتيك من نظام النباتيين, حيث إنه يمنع أغلب المنتجات الحيوانية ويدعو إلى تناول الأطعمة وفق نظرية الين واليانج التي تصنف الأطعمة من حيث شكلها ولونها وقوامها وفصولها ودرجة حرارتها, في حين يرتكز أي نظام غذائي متوازن على ركيزتين أساسيتين هما:

          1 - التنوع الغذائي: بمعنى أن تحتوي الوجبة الواحدة قدر الإمكان على كل العناصر الغذائية الأساسية, الموجودة في المجموعات الغذائية الخمس (مجموعة الحليب ومشتقاته, مجموعة اللحوم وبدائله, مجموعة النشويات والسكريات, مجموعة الخضراوات ومجموعة الفواكه).

          2 - التوازن الغذائي: بمعنى أن يتناول الشخص وجباته الغذائية بالكميات التي يحتاج إليها جسمه بلا زيادة ولا نقصان, ويتم تقدير ذلك وفق الطول والوزن والعمر والمجهود المتمثل بالطاقة المبذولة والحالة الصحية, وغير ذلك من العوامل المعتبرة. وأعتقد أن تسليط الضوء على بعض الثغرات التي وقع بها نظام الماكروبيوتيك كفيل بإثبات عدم جدوى اتباعه, بل إنه قد يمثل خطرا على الصحة في حال التزمت بتطبيق جميع بنوده وشروطه التعجيزية وغير العلمية, ومن هذه الثغرات:

          1 - صمم القائمون على أسلوب الماكروبيوتيك نظاما غذائيا قياسيا يمثل الخريطة الغذائية التي يسير عليها المؤيدون له, حيث يتكون من 50 - 60% حبوبا كاملة ومنتجاتها, 20 - 30% من الخضراوات المزروعة محليا, 5 - 10% من البقوليات والنباتات البحرية, 5- 10% من أنواع الحساء الخاصة بهذا النظام, 5% مشهيات وأطعمة تكميلية غير رئيسية تشمل (المشروبات والأسماك والفواكه والحلويات). في حين أن الأنظمة الغذائية الصحية تتكون من 50 - 60% نشويات, 25 - 30% دهونا, و15 - 20% بروتينات ويختلف هذا التوزيع تبعا للحالة الصحية للمريض, فمثلا يحتاج بعض مرضى القلب والمعرضين لانسداد الشرايين إلى كميات قليلة من الدهون, لاسيما المشبعة منها وهكذا. في حين يحارب نظام الماكروبيوتيك الدهون بكل أشكالها وأنواعها, ويخصص لها فقط 10 - 15% من إجمالي السعرات الحرارية, في حين 12% من السعرات الحرارية تكون قادمة من البروتينات, وتستأثر الكربوهيدرات بنصيب الأسد بنسبة 73% من إجمالي السعرات وهذه نسبة كبيرة جدا وفائضة عن حاجة الإنسان, مما يجعل الجسم يخزنها على شكل دهون, ويحرم بذلك الجسم من فرصة الاستفادة من الدهون والزيوت التي خلقها الله عز وجل للقيام بالعديد من الوظائف الحيوية والمهمة, ولا يدعو وجود أمراض متعلقة بالدهون إلى الإقلال من كمية الدهون والزيوت إلى هذا المقدار الضئيل جدا, الذي لن يوفر الطاقة المطلوبة, وبالتالي سيكون هذا المقدار الضئيل ضارًا كما هي الزيادة.

          2 - يفتقر نظام الماكروبيوتيك إلى وجود اللحوم الحمراء والبيضاء بذريعة احتوائها على الدهون والكولسترول, مع العلم أنه من الممكن تناول هذه اللحوم بكميات صغيرة قد لا تتجاوز 70 - 100جم في اليوم الواحد للحصول على البروتينات والحديد, وفي الوقت نفسه يحتوي على دسامة أقل عما مضى, فمثلا لا تحتوي قطعة البفتيك أو صدر الدجاجة على أكثر من 2% دهونا وهذه نسبة قليلة لا تسبب أي ضرر.

          3 - يفتقر نظام الماكروبيوتيك إلى وجود اللبن والحليب ومنتجاتهما, بل إنه يشجع على تقليل كمية الحليب المقدم للأطفال بعد سن ستة الأشهر, وفور أن يكمل الطفل العامين فإنه يفطم تماما عن الحليب, ولا يجدون أي سبب يدعو إلى شربه بعد ذلك, رغم أن الله عز وجل امتدحه في القرآن الكريم وإنّ لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين   وجاء في السنة النبوية الشريفة قول النبي صلى الله عليه وسلم من أطعمه الله طعاما فليقل اللهم بارك لنا فيه وارزقنا خيرا منه... ومن سقاه الله لبنا فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه, فإني لا أعلم ما يجزئ مكان الطعام والشراب غير اللبن . وروي أن النبي أتي ليلة أسري به بإيلياء بقدحين من خمر ولبن فنظر إليهما, فأخذ اللبن, فقال جبريل: الحمد لله الذي هداك للفطرة, لو أخذت الخمر لغوت أمتك , هذا بالإضافة لما للحليب ومنتجاته من فوائد جمة وعظيمة أثبتها العلم الحديث, أما ظهور منتجات الألبان منزوعة وقليلة الدسم فقد أحرج رواد الماكروبيوتيك الذين طالما حاربوها بذريعة احتوائها على الدهون.

          4 - أثبتت الدراسات العديدة أن المصادر الحيوانية التي تحتوي على بروتينات وكالسيوم وفيتامينات ومعادن, تتميز بأفضليتها غذائيا مقارنة بالمصادر النباتية التي تقدم هذه المغذيات نفسها من وجوه عدة منها:

          أ - أن الكالسيوم الموجود في المصادر النباتية صعب الامتصاص نظرا لوجود مواد خاصة تسمى الأوكسالات تقلل أو تمنع امتصاص الكالسيوم, وبالتالي الاستفادة منه.

          ب - تسمى البروتينات الموجودة في المصادر الحيوانية بـ (البروتينات عالية القيمة الغذائية) لأنها تحوي جميع الأحماض الأمينية الأساسية التسعة التي لا يستطيع الجسم تصنيعها بكميات تفي باحتياجات النمو والتطور وتجديد وإصلاح الأنسجة التالفة, في حين تفتقر المصادر النباتية لواحد أو أكثر من هذه الأحماض الأمينية الأساسية مما يجعلها غير كافية لتأمين الاحتياج الضروري منها, لذلك أطلق عليها اسم (بروتينات منخفضة القيمة الغذائية). ولكي يستطيع الإنسان أن يحصل على كل هذه الأحماض الأساسية من المصادر النباتية فلابد أن يكون لديه دراية وعلم كافيان بمحتوى كل نبات من هذه الأحماض حتى يقوم بالجمع بينها للحصول عليها كاملة ولا يتطلب الأمر كل هذه المشقة عند تناول شيء يسير من المصادر الحيوانية كتناول البيض الذي يصنف من أفضل البروتينات جودة ويأتي بعده الحليب ثم اللحوم.

          ج - يحتاج الجسم إلى وجود الحديد للقيام بوظائفه الحيوية العديدة والمهمة جدا, ولعل أهم هذه الوظائف على الإطلاق, دخول الحديد في تركيب الهيموجلوبين المكون الأساسي لخلايا الدم الحمراء ويوجد في المصادر الحيوانية (الكبد, الكلاوي, اللحوم الحمراء والبيضاء والبيض) على هيئة حديد هيمي (Heme Iron) بنسبة 40% وحديد غير هيمي non heme iron بنسبة 60% وهذا التركيب جعل الحديد يحظى بمعدل امتصاص عال يصل إلى 30%, في حين لا يتجاوز نسبة امتصاص الجسم للحديد من الحبوب ومنتجاتها 0.5 - 6.5% فقط.

          د - تفتقر جميع العناصر النباتية بلا استثناء إلى وجود فيتامين ب 12 الذي يمنع حدوث الأنيميا الخبيثة (أنيميا أديسون), وذلك من خلال دوره في تصنيع خلايا الدم الحمراء في نخاع العظم, وأيضا كريات الدم البيضاء بالإضافة إلى أهميته في مساعدة الإنزيمات للقيام بوظائفها الحيوية, وكذلك أهميته للجهاز العصبي وغير ذلك الكثير. ويوجد هذا الفيتامين في الكبد والكلاوي واللحوم الحمراء والبيضاء والبيض والحليب ومشتقاته. والعجيب في الأمر أن المؤيدين لنظام الماكروبيوتيك لا ينكرون حقيقة افتقار أغذيتهم الماكروبيوتيكية لهذا الفيتامين, ولكنهم في المقابل ينصحون بكل بساطة بالحصول عليه من خلال تناول أقراص المكملات الصيدلانية أو تناول بكتيريا فطر العفن فوق قشر الفواكه والخضراوات المزروعة بطريقة عضوية!!! أو الحصول عليه من خلال تناول الخضراوات البحرية والمحار والسمك وأطعمة الصويا, ولكن الحقيقة أن أعشاب البحر لا تحظى بطعم اللحم المستساغ ولا بأهمية اللبن الذي هو لذة للشاربين, وكذلك الحال بالنسبة للبيض والدواجن, أما المحار الذي يعتبرونه بديلا مناسبا فيحوي نسبة عالية جدا من الكولسترول, وهو العامل الذي من أجله يحاربون استهلاك اللحوم والألبان. ويظل لدينا فول الصويا الذي يعتبر فردا من عائلة الصويا التي حققت شهرة واسعة في السنوات الأخيرة, إلا أنه لم يحقق بعد الانتشار الذي يؤهله لأن يعم أركان العالم.

          5 - لا يحبذ نظام الماكروبيوتيك تناول المشروبات كالشاي والقهوة والحليب والعصائر, ولا يقدم أسبابًا علمية مقنعة تؤيد صحة هذا الاتجاه. وكلنا يعلم  كما أن لها أضرارًا في حالة الإسراف في تناولها, غير أن لها فوائد جمة في حالة تناولها باعتدال. فمشروب كالشاي يحتوي على مضادات الأكسدة والفلافونيدات التي تقلل خطر الإصابة بالسرطان وأمراض القلب, كما يحتوي الشاي الأخضر على نسبة عالية من فيتامين ك, بالإضافة إلى أن مادة التانين تقي من تسوس الأسنان. أما أهمية العصائر والحليب فلا تخفى على أحد.

          6 - تصنف الفواكه الطازجة والمجففة من ضمن أطعمة الماكروبيوتيك التكميلية غير الرئيسية, بل إنهم يصنفون الفواكه إلى فاكهة ذات المناخ المعتدل وفاكهة المناخ الاستوائي, والأخيرة ينصحون بتجنبها من قبل الأشخاص الذين يعيشون في المناطق المعتدلة, ويسمحون بتناولها من قبل الأشخاص الذين يعيشون في المناطق الاستوائية, ولكن بكميات قليلة جدا. وتشمل فاكهة المناخ الاستوائي الأفوكادو, الموز, جوز الهند, البلح, التين, الجريب فروت, الجوافة, الليمون, الكيوي, المانجو, البرتقال, الأناناس. ولا توجد هناك أدلة أو أبحاث أو دراسات تثبت هذه النظرية التي تحرم الناس من العديد من الفواكه الضرورية والمهمة جدا من جهة, ولشيوعها وانتشارها بين الناس من جهة أخرى.

          7 - ليست الخضراوات بأوفر نصيبا من الفواكه في نظام الماكروبيوتيك, بل إنهم يدعون إلى تجنب العديد من الخضراوات المهمة جدا والمتوافرة بين الناس دون الاستناد إلى أدلة علمية صحيحة, وقد يستغرب القارئ أن يجد أن خضراواته المفضلة كالسبانخ والبطاطس والطماطم والقرع والباذنجان والفلفل الأخضر والأحمر والبنجر, تقع ضمن القائمة الممنوعة في حين أن أعشاب وطحالب البحر (خضراوات البحر) وعش الغراب والكابوتشي والخس الروماني والبازلاء الجليدية والكوسا الصيفي وقسطل الماء والبنجر السويسري تتصدر قائمة الخضراوات الواجب تناولها.

ليس الوحيد

          ليس نظام الماكروبيوتيك الوحيد الذي يعالج جميع المشكلات الصحية المتعلقة بالغذاء, بل إن جميع الأنظمة الغذائية الصحية تحقق معادلة الشفاء والوقاية دون المرور على ثغرات نظام الماكروبيوتيك ومن ذلك:

          1 - ارتباط أمراض القلب والشرايين بالدهون لاسيما المشبعة منها.

          2 - ظهور زيادة الوزن والسمنة نتيجة الاستهلاك الزائد للسعرات الحرارية والدهون والكربوهيدرات خاصة المكررة.

          3 - مشكلة فقدان العناصر الغذائية في عمليات المعالجة واستعمال المواد المضافة.

          4 - تشجيع الرضاعة الطبيعية وجعلها بديلا لحليب الأبقار.

          5 - استهلاك الأطعمة التي تنمو في البيئة نفسها التي يعيش فيها الشخص, وكذلك في الفصل نفسه الذي تنمو فيه.

          وكما قلت سابقا, فإن أي نظام صحي ومتوازن يستطيع تحقيق ما حققه نظام الماكروبيوتيك, فليس هناك أسهل من تجنب الدهون وتقليل كمية الدهون, واستهلاك منتجات الألبان قليلة الدسم أو المنزوعة, كما أن مشكلة زيادة الوزن والسمنة تحل باتباع نظام غذائي متوازن, وممارسة الرياضة بانتظام وتغيير نظام الحياة الخاطئ.

          أما مشكلة فقدان العناصر الغذائية فيُنصح بتجنب الأطعمة المكررة والتي تخضع لعمليات المعالجة والابتعاد عن المواد المضافة قدر الإمكان, وتناول الحبوب الكاملة والإكثار من تناول الفاكهة والخضراوات الطازجة والمطبوخة, أما الرضاعة الطبيعية فهي حقيقة فطرية تدعو إليها الفطرة السليمة وتدعمها كل الأبحاث والدراسات والنشرات العلمية.

          يقول ميشيو كوشي في كتابه (أسلوب الماكروبيوتيك): (تفرض كل منطقة من مناطق العالم, من خلال طبيعتها الجغرافية ومناخها, متطلبات معينة وضغوطا ما على السكان الذين يقطنونها, وتناول الأطعمة التي تنمو في الظروف نفسها والأحوال التي نعيش فيها تمكننا من التأقلم بصورة أكثر نجاحا مع التغييرات التي تحدث من حولنا), إلى هنا يبدو كلام المؤلف الذي هو من أشهر رواد الماكروبيوتيك مقنعا وعلميا إلا أنه يناقض نفسه عندما يدعو العالم قاطبة إلى اتباع أطعمة الماكروبيوتيك مثل حساء الميزو, شاي البانشا, خيار سوشي, تمبيه, التوفو, كعك موشي, قهوة الحبوب, أعشاب البحر, الكاشا, جوماشيو, الدايكون, الأماساكي والآجار آجار, وغير ذلك من الأطعمة الغريبة التي لا تقبلها النفس البشرية التي اعتادت على هويتها الغذائية, التي تطبع بها الأجداد والآباء.

          فبيئة منغلقة كالبدوية مثلا اعتادت على الاستفادة من لحوم أغنامهم وإبلهم, وشرب ألبانها وتناول التمور وبعض المأكولات الشعبية في حين تفتقر بيئتهم لوجود الفواكه والخضراوات والأسماك, ورغم ذلك لم يعانوا أعراض نقص العناصر الغذائية الموجودة فيها, لأن الله سبحانه وتعالى كفل لهم التوازن الغذائي من خلال ما يتوافر في بيئتهم, وقس على ذلك أطعمة سكان البيئات الجبلية والساحلية والريفية والحضرية, ولا يخفى على أحد أن اختلاط شعوب العالم بعضها بعضا وانتشار حياة الرفاهية وقلة الحركة والنشاط وأيضا التلوث البيئي والغذائي وظهور الأغذية المصنعة والمضافة والمكررة, كلها عوامل ساهمت في تعددية الأمراض الغذائية وانتشارها, ولن ينفع بالتأكيد استحداث نظام غذائي عالمي موحد لحل هذه المشكلة, لأن العوامل المسببة متداخلة ومعقدة وتضرب بجذورها في أعماق التربة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لكل شعب من شعوب العالم.

          وبعد... فإن ظهور نظام الماكروبيوتيك كبديل للطب الحديث لم يكن ناجحا, ويظل النظام الغذائي المتوازن وتغيير نمط الحياة الخاطئ هو الحل الجذري لجميع المشكلات الغذائية.

 

منيرة مهدي العنزي   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات