شعاع من التاريخ

شعاع من التاريخ

الظباء والأسود
في مسيرة الحياة، أيام لا ينساها المرء مهما طالت به السنون، ففي أحد أيام شهر أبريل من عام 1960، كنت أقف أمام قبر الشاعر الباكستاني الكبير الدكتور محمد إقبال، حيث وقف الرئيس جمال عبدالناصر يقرأ الفاتحة على روحه، ويضع إكليلا من الزهر، يومها سمعته يقول: "إن محمد إقبال ليس شاعر باكستان وحسب، وإنما هو شاعر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ويعتبر من فلاسفة البعت الإسلامي كالأفغاني والكواكبي ومحمد عبده، وهو أيضا شاعر الإنسانية كلها لما تحمله رسالته من دعوة قوية إلى الجهاد واليقظة والتفوّق ".

وكان ذلك في الواقع هو الحقيقة، يتذكرها الناس في باكستان كلما حلت ذكرى وفاة إقبال في 21 أبريل 1938، والذي قال عنه شاعر الهند الكبير طاغور إن موته خسارة لاتعوض بالنسبة للهند، كما قال محمد علي جناح "لو خيروني بين رئاسة باكستان ودواوين إقبال لأخذت الثانية"!.

وقبل دلك اليوم بسبعة وستين عاما، كان أبوه يقضي الليل كله يتهجد ويعبد الله في خضوع، وكلما أحسن بالجهد من ركوعه وسجوده، جلس يتلو القرآن بضوت رتيب، وراح في إغماءة لم يلبث أن أفاق منها بعد قليل، وقد استراحت نفسه. فقد رأى فيما يرى النائم حمامة ناصعة البياض ترفرف بجناحيها حواليه كأنما تدعوه لأن يحتويها بين يديه، ويقبل عليها وقد أشرق وجهه، ويضمها إلى صدره فتسكن إليه، وفي اللحظة نفسها ترتفع الأصوات من خارج صومعته لتستقبله الوجوه مستبشرة مهنئة، فقد ولد لى في تلك الليلة طفل راح يغمر وجهه بقبلاته، وافترش الشيخ رداءه واتجه إلى صلاة خاشعة، وحين رفع رأسه، أطلق على وليده اسم "محمد إقبال ".

مدينة وشاعر

ويشبّ الطفل، وينتهي من دراسته الأولية ويلتحق بالمدرسة، ويمتاز فيها بذكائه، وأمكن في وقت قصير يتفقه في الدين، ويجيد العربية والفارسية، وينظم الشعر، ويصور به خلجات نفسه، ويرحل إلى لاهور، ويلتحق بالكلية، حيث تتفتح له آفاق جديدة في التفكير، وكان قلمه يجول في نواحي الشعر المختلفة، وكانوا يتغنون بأشعاره وينشدونها في المحافل، ونال إجازة الكلية بتفوق لم تشهده من قبل، ولم يكتف إقبال بما ناله من العلم والمعرفة في بلاده، فرحل إلى الغرب. والتحق بجامعة كامبردج بإنجلترا، ثم هيدلبرج في ألمانيا ، ثم ميونيخ بسويسرا، وحين عاد إلى لاهور واشتغل محاميا، راحت المدينة تردد ما يقوله الشاعر الذي جمع بين ثقافة الغرب وحكمة الشرق، وتراث الماضي وفكر الحاضر، وآمال المستقبل، واستطاع أن ينفث الدماء الحارة في الشرايين. وأخذت أشعاره تتسرّب إلى جميع أنحاء الهند فتلهب حماس أمة تتأهب للمعركة الحاسمة مع المستعمرين ثم عبرت البحار وترجمت إلى لغات العالم الحية.

شارك محمد إقبال في الكفاح الوطني، وانضم إلى حزب الرابطة الإسلامية، وأزكى بأشعاره نار الحماس. ولكنه كان واقعيا في معالجته للمشكلة القومية، رأى المسلمين في الهند يشكلون أمة كاملة متحدة الأهداف والثقافة والتاريخ، كما أن الهـندوس يشكلون كلون أمة قائمة بذاتها أيضا، وإذا كان أنصار القومية يتلمسون الحل للمشكلة بتجاهل وجود الأمتين، وإزالة الفوارق بين الجماعات فإن إقبال يـرى هذا الحل عن طريق تأكيد وجودهما وكفالة حق المصير لكل منهما، وتحقيق استقلالهما الذاتي في نطاق التعاون المشترك فيما بينهما، وهكذا نادى إقبال بتقسيم الهند على أسس جنسية ودينية ولغوية علاجا لمشكلتها القومية المـزمنة، ونزولا عند مقتضيات الواقع، وكان أول من تغنى في أشعاره بدولة باكستان واختار لها اسمها من الحروف الأولى للولايات التي تضم أغلبية إسلامية.

الدولة الإسلامية

كان إقبال يحلم بالدولة الإسلامية المثلى، ويستمد أركانها من الدعوة المحمّدية، ويتصورها على غرار الدولة العربية في صدر الإسلام التي تقوم على أسس من التوحيد والعدل والحرية والمساواة والشورى والتوازن بين القوة الروحية والمادية وإعلاء شأن المرأة، ورفع راية الحق.

ولكن كيف السبيل إلى خلق تلك الدولة السليمة القوية، بينما المسلمون قد حل بهم الضعف السياسي والنفسي، وخضعوا للسيطرة الأجنبية في ديارهم بمشارق الأرض ومغاربها؟ وتدبر إقبال أحوال المسلمين، وما وصلوا إليه من ذلة وركود وغلبة غيرهم عليهم، فعزا كل أدوائهم إلى النزعة المنحرفة التي أفسدت الفكر الإسلامي، وحببت إلى الناس احتقار العمل والركون إلى الدروشة والتبلد، وحشت رءوسهم بالجهل والخرافات.

وعزا سر ضعف المسلمين وتواكلهم إلى فكرة "وحدة الوجود" التي سادت الفلسفة الإسلامية على أيدي متصوفي الفرس، والحقيقة أن هذا المذهب دخيل على التصوف الإسلامي وليس له أدنى سند في القرآن والسنة، بل إن حياة المسلمين الأوائل وعلى رأسهم الرسول وكبار الصحابة تناقضه على طول الخط، ولكنه تسرب إلى أفكار المسلمين عندما أذنت شمس مجدهم بالمغيب، وشاع فيهم الضعف السياسي، فاتخذت الأمة الإسلامية من هذه الفلسفة "الهروبية" مبررا لعجزها عن الالتزام بواجبات الإسلام الحقيقية، بل إنها جبرت أن تبدّل شريعة القرآن التي تدعو إلى السعي والكفاح، بشريعة أخـرى تخفي الهـزيمة وتمجد الضعف.

ويقول إقبال في هذا الشأن: "إن المسلمين قد تبدلوا فلم يطيقوا شريعتهم، مثلما أن الظباء لا تطيق شريعة الأسود"! لقد كانت الفكرة الأساسية في فلسفة إقبال أن واجب الإنسان تقوية ذاته لا إنكارها، والعمل على تأكيدها والسمو بها. وظل إقبال ينادي بأن يتمثل الإنسان في ذاته الخالق والكون بأجمعه، وكان يقول عن العلاقة بين الرب والعبد "احكم نفسك في حضرته، ولا تذب في فيض نوره، فكل ما يقوي الذات خير، وكل ما يضعفها شر، وأكثر ما يقوي الذات الثقة بالنفس والاعتماد عليها، وأكثر ما يضعفها الشك في مقدرتها، والالتجاء بها إلى سؤال الناس، وسيلة تقوية الذات هي العمل والجهاد المستمر، ومسايرة التفاعل الديناميكي للحياة "، لقد عاش حياته نموذجا حيا لدعوته، فقد كان نشطا لا يأتيه الكلل، ومبدعا، لا يعرف الذبول، واتصلت حياته بأحدات الهند، كان يثور لثورتها على الاستعمار، ويسهم في نشاطها الثقافي والاجتماعي والعلمي، فيجوب البلاد يلقي المحاضرات ويرأس الجمعيات الخيرية، وينشئ المعاهد العلمية والملاجئ والمستشفيات، ويدعو لإنشاء الدولة الإسلامية عندما يشتد الخلاف بين المسلمين والهندوس. وتنتشر دعوته، ويؤمن بها المسلمون، ويتحقق حلمه بعد وفاته بعامين، فتقوم دولة الباكستان ويصبح إقبال رائدها والمبشر بها، وأصبحت له مكانة الباعث الأول للدولة الإسلامية الجديدة، وسيظل اسمه مقترنا بها ما بقي لها ذكر في التاريخ.

 

سليمان مظهر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




ضريح إقبال في باد شاهي مسجد بلاهور