جمال العربية

جمال العربية

البحر والدرّ والغوّاص
هل كانت دعوة إلى الغوص، وسؤال الغواص عن الصدفات التي تتوهج باللآلئ تلك التي أطلقتها شاعرية شاعر النيل حافظ إبراهيم في مستهل القرن سنة ألف وتسعمائة وثلاث- من خلال قصيدته الشهيرة التي أطلق عليها هذا العنوان الدال والمحرك للاهتمام والاغتمام معا: اللغة العربية تنعي حظها بين أهلها"؟

وهل كان موقف حافظ إبراهيم- في ذلك الزمن البعيد عنا- يمثل المواجهة الصحيحة، مع ما اعتبره لوثة- للإفرنج سرى لعابها -الذي يشبه لعاب الأفاعي- في مسيل العربية العذب، وفراتها السائغ للناهلين؟

إن قصيدة حافظ إبراهيم ليست مجرد نص شعري، يمكن أن تسحرنا بلاغته، أو تتملكنا انسيابيته وقدرته على التوصيل والتأثير، فضلا عن إحكام صنعته الشعرية واحتشاد معجمه الشعري بالمفردات والصيغ والتراكيب التي جعلته نصا مفتوحا، متدفقا، حاراً، نابضا بشاعرية صاحبه.

لكنها- قبل هذا كله وبعده- موقف يقفه الشاعر، ممثلا لأبناء أمته، في مواجهة ما يعتبره هجمة شرسة وغارة شعواء على العربية، اللغة التي وسعت كتاب الله، ولم تضق عن آياته وعظاته، لكن ها هي ذي لا تجد الرجال الأكفاء لبناتها، فتسرع إلى وأدهن، خشية أن يلحق بهن عار الهجنة وفساد الألسنة والأقلام، والممات الذي لا قيامة بعده.

حافظ إبراهيم يعطي للغة العربية فرصة أن تتحدت بلسانها عن نفسها، شارحة شكواها، باثة همها وأحزانها، بعد طول تأمل وتدبر وتفكير، وبعد أن اتهمت رأيها وعقلها- في كل ما هو حادث لها- وأساءت الظن بقدرتها وكادت تصدق ما رماها به أعداؤها من قصور وتخلف:

رجعتُ لنفسي فاتهمت حصاتي

 

وناديت قومي فاحتسبت حياتي

رموني بعقم في الشباب، وليتني

 

عقمتُ، فلم أجزع لقول عداتي

ولدت ولما لم أجد لعرائسي

 

رجالاً وأكفاء وأدت بناتي

وسعتُ كتاب الله لفظاً وغاية

 

وما ضقت عن آي به وعظات

فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة

 

وتنسيق أسماء لمخترعات

أنا البحر في أحشائه الدر كامن

 

فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي!

في هذا البيت الأخير تطاطعنا ثلاثية البحر والغواص والأصداف، كما يطالعنا الهدف الجيد الذي إليه السعي والبحث والغوص العميق، إنه لدر" الذي تمثله هذه اللغة الجميلة الحية، وهو كنز كنوز أسرارها، إبداعاً وبياناً، وتعبيراً وتصديراً، وموروثاً ومعاصرة، وانفتاحاً وتواصلاً، وتمثلاً واستيعاباً، وإضافة وتجاوزا وبحجم البحر تتحدد سعة هذه اللغة، ليس لها حدود ولا ضفاف، ولا حصر لمادتها الحية، وعطائها المتجدد، ولا نفاذ لما يستخرجه غواصوها الهائمون بها عشقاً وتفانياً من كنوزها ولآلئها.

إنها اللغة العربية في زهوها الكبير بالذات، ووعيها بما تحمله وما تمثله من حضارة وإبداع، وقدرتها الدائمة على أن تظل زاداً ومدداً، وحلولا وتواصلا، خاصة إذا كانت المشكلة اليوم تتمثل في وصف آلة وتنسيق أسماء للمخترعات الحديثة، وهو ما نسميه ألفاظ الحضارة ومسميات الحياة العامة وقد نضيف إليه أيضاً مصطلحات العلوم.

ناعب من الغرب:

حديث اللغة العربية عن نفسها، تنعي حظها بين أهلها، حديث موصول، والنص الشعري- الذي أبدعته شاعرية حافظ إبراهيم- منذ ست وتسعين سنة- لايزال نصا مفتوحا، حيا، واخزا يخزنا بحرابه المدببة، ويوقظ فينا نخوة الحفاظ والإفاقة، في وجه عوادي الزمان التي يمكن أن تؤدي باللغة إلى الموت والعدم، وفي وجه أعداء اللغة- أعداء أصحابها العرب وثقافتهم العربية- الذين ينعبون كالغربان بأصواتها المستكرهة داعين إلى وأد هذه اللغة والقضاء عليها- وهي لا تزال في ريعان الحياة وربيع العمر:

فيا ويحكم أبلى وتبلى محاسني

 

ومنكم وإن عز الدواء أساتي

فلا تكلوني للزمان، فإنني

 

أخاف عليكم أن تحين وفاتي

أرى لرجال الغرب عزاً ومنعةً

 

وكم عز أقوام بعز لغات

أتوا أهلهم بالمعجزات تفننا

 

فياليتكم تأتون بالكلمات

أيطربكم من جانب الغرب ناعب

 

ينادي بوأدي في ربيع حياتي؟

ولو تزجرون الطير يوماً علمتمو

 

بما تحته من عثره وشتات!

ولا ينسى حافظ إبراهيم وهو يتحدث بلسان العربية ، أو اللغة العربية وهي تتحدث بلسانه- أن يترحم على السابقين من رجالات اللغة وأعلامها ومبدعيها الكبار- من العرب الأولين، والسلف الصالح الذين تضم الجزيرة- شبه الجزيرة العربية- رفاتهم وأعظمهم، فهؤلاء يعز عليهم- لو دروا وأحسوا ما أصاب اللغة- التي ما كانوا يرضون بأن تلين لها قناة، وتضعف شوكة وجناب، هؤلاء هم تاج اللغة ومناط زهوها وفخرها، ومباهاتها للآخرين- من أهل الغرب- أصحاب اللغات الأخرى، والثقافات الأخرى، التي لاتضاهي في عراقتها وأصالتها الثقافة العربية أو اللغة العربية:

سقى الله في بطن الجزيرة أعظما

 

يعز عليها أن تلين قناتي

حفظن ودادي في البلى وحفظته

 

لهن بقلب دائم الحسرات

وفاخرتُ أهل الغرب والشرق مطرق

 

حياء بتلك الأعظم النخراتِ

الثوب المرقع

مكمن الخطر في حديث اللغة العربية ونعيها لحظها بين أهلها -كما يراه حافظ إبراهيم- يتمثل في لغة الجرائد، التي امتلأت بالمزالق، وعندما نتأمل مزالق ذلك الزمان البعيد - في مطالع القرن- سنجد ركاكة وضعفا، وشيوعا لكثير من الألفاظ الوافدة- التي كانت تسمى ألفاظا أعجمية- سرت على ألسنة الناس وأقلامهم، عندما لم تسعف العربية بالبدائل الفصيحة، وعندما بدأت صفوة المجتمع تتفاخر بإتقانها للغات الأجنبية، وتطعم لغتها في الأندية والدواوين والأسواق بخليط من الكلمات الأجنبية- الإنجليزية والفرنسية والإيطالية على وجه الخصوص- لتؤكد تعاليمها وترفعها عن غيرها من فئات المجتمع وطبقاته. وعندما انتقل هذا كله إلى صحافة البلاد، أحس حافظ إبراهيم بأعراض الكارثة، ورأى في هذا بوادر موت لا قيامة بعده. والمقارنة بين لغة حافظ إبراهيم في قصيدته وفي غيرها من القصائد، ولغة أقرانه من الشعراء الكبار في ذلك الوقت- البارودي وإسماعيل صبري وأحمد شو قي- واللغة السائدة في صحافة مطلع القرن ،، التي كانت تجنح أحيانا إلى نزعة عملية تتخلص فيها من حلي البيان ومواصفات البلاغة والفصاحة، و العناية بالأساليب والصيغة اللغوية المشرقة، تكشف لنا عن نظرة حافظ إبراهيم المتأثرة بمحاكاة الماضي ومراعاة الموروث اللغوي والثقافي، والميل إلى المحافظة، والبعد عن المغامرة والتجديد، والنظر إلى كل ما هو مغاير وغير مألوف باعتبارها هدما وموتا ونكوصا، من هنا كان تشبيهه للغة عصره الصحفية بأنها ثوب ضم سبعين رقعة مشكلة الألوان مختلفة المناظر والتأثير، وهي صورة تدمغ بالإدانة والسخرية كل تململ- صحيحا كان أو زائفا- قام به صحفيو ذلك الزمان و كتابه من أجل إبداع لغة تتسع لاحتياحات العصر وتفي بمتطلباته وتطلعاته وتتجاوب مع طفراته ومتغيراته.

أرى كل يوم بالجرائد مزلقاً

 

من القبر يدنيني بغير أناة

وأسمع للكتاب في مصر ضجة

 

فأعلم أن الصائحين نعاتي

أيهجرني قومي- عفا الله عنهمو-

 

إلى لغة لم تتصل برواة

سرت لوثة الإفرنج فيها كما سرى

 

لعاب الأفاعي في مسيل فرات

فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة

 

مشكلة الألوان مختلفات

الدعوة لريح الشمال

الطريف أن هذا الموقف المحافظ لحافظ إبراهيم، المتمثل في خشيته الشديدة على اللغة العربية، لما قد تسلل إليها- بفعل الترجمة والتعريب- من مفردات أجنبية، واعتبارها هذا الأمر إيذانا بالموت والفناء والقضاء على العربية، لن نجده، بل سنجد نقيضا له، في قصيدة له عن "الشعر" أبدعها بعد قصيدته عن اللغة العربية بسنوات عدة يعلن فيها نفوره من التقليد والجمود، ومحاكاة القدماء في الموضوعات والأغراض ومجالات القول، وقد آن- في رأيه- أن نفك عن الشعر القيود التي قيدتنا بها دعاة التخلف والجمود وأن نرفع عنا الكمائم التي حجبت الهواء الجديد النقي والنسيم الصافي الساري، وأن نشم ريح الشمال، التي تهب حاملة كل جديد و"الشمال " هنا رمز لكل ما هو أجنبي وغربي على وجه الخصوص. لاشك أن نضج حافظ إبراهيم، شخصية ووعياً ورؤية، ونضج خبراته وأدواته الشعرية، كانا وراء هذا التحول العميق في نظرته، وفي دعوته وتبنيه لأفكار مغايرة وأفق للقول جديد.

يقول حافظ إبراهيم مخاطبا الشعر العربي:

ضعتَ بين النهى وبين الخيال

 

يا حكيم النفوس يا ابن المعالي

ضعت في الشرق بين قوم هجودٍ

 

لم يفيقوا وأمة مكسال

قد أذالوك بيت أنس وكأس

 

وغرام بظبية أو غزال

ونسيب ومدحة وهجاء

 

ورثاء وفتنة وضلال

وحماس أراه في غير شيء

 

وصغار يجر ذيل اختيال

عشت ما بينهم مذالاً مضاعا

 

وكذا كنت في العصور الخوالي

حملوك الغناء من حب ليلى

 

و"سليمي" ووقفة الأطلال

وبكاء علي عزيز تولى

 

ورسوم راحت بهن الليالي

وإذا ما سموا بقدرك يوماً

 

أسكنوك الرحال فوق الجمالِ

آن يا شعر أن نفك قيوداً

 

قيدتنا بها دعاة المحالِ

فارفعوا هذه الكمائم عنا

 

ودعونا نشم ريح الشمالِ

الأمل في الكتاب والمبدعين

يختتم حافظ إبراهيم قصيدته عن اللغة العربية تنعي حظها بين أهلها بدعوة الكتاب إلى مواجهة الشكاة التي بسطها وشرحها وكشف عن خطورتها ولأنه مبدع حقيقي، فهو يرى أن حل مشكلة اللغة العربية في مواجهتها للعصر وتحدياته، لن يكون إلا على أيدي المبدعين من الكتاب والشعراء، فبهم وحدهم تتجدد دماء اللغة، ويينع شبابها وربيعها، ويتجلى رواؤها وجمالها. هم القادرون على أن يجددوا فيها، ويضيفوا إليها كما قال جبران: أشرعة جديدة إلى سفينتها، وألواناً جديدة إلى عالمها من الصور والأبنية والرسوم، وروحاً جديدة تدب في شرايينها الخامدة وأنفاسها الهامدة، فتمتلئ بالحياة، والتألق والإبداع. لم يشر حافظ إبراهيم بكلمة واحدة إلى أساتذة اللغة وعلمائها، هؤلاء يستطيعون أن يقعدوا وينظروا ويبوبوا ويفصلوا، أما المبدعون، فهم وحدهم القادرون على إحياء اللغة، وتجديد اللغة، وإثراء اللغة. وحدهم الذين يغامرون ويدهشون ويعودون محملين بكنوز جديدة، ولآلئ لم يكشف عنها من قبل. إنهم "الغواصون" الذين عناهم حافظ إبراهيم في مستهل قصيدته، ينزلون إلى بحر اللغة، مزودين بالموهبة والوعي والثقافة والدراسة والتمكن الشديد، ليعودوا من رحلة "الغوص" بالدر الكامن في صدفاته، في بحر لا تنفد لآلئه ولا تنتهي كنوزه!

يقول حافظ إبراهيم مخاطباً معشر الكتاب والمبدعين:

إلى معشر الكتاب والجمع حافل

 

بسطت رجائي بعد بسط شكاتي

فإما حياة تبعث الميت في البلى

 

وتنبت في تلك الرموس رفاتي

وإما ممات لا قيامة بعده

 

ممات لعمري لم يقس بممات

ولن تموت لغة إبداعها حي، وحفظتها أحياء!

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات