طرائف عربية

طرائف عربية

خسارة والعوض على الله

كانت مقاهي مصر ومنتدياتها وأنديتها ومجالس الطرب فيها أول القرن عامرة بالشعراء والفنانيين والأولاد وأولاد العرب والترك والأرمن واليونان واليهود والشراكسة.

تجمعهم أغاني أمان أمان والمواويل والموشحات تُغنى بأجمل الأصوات، وينصهر المستمعون في بوتقة من الحرية يتيحها ذلك الزمان، أعني بداية التحديث الذي أشاعه مشروع محمد على الكبير.

كان سي داود حسني " ديفيد " اليهودي الديانة والمصري الجنسية أحد ملحني هذا العصر.

كان سي داود يسير في شارع محمد علي مترنما بلحنه الجديد بينما يتابعه على الصفين أهل الشارع من محبي الطرب والغناء. وكان يطلق صوته القوي، لكنه كان يستمع لعصافير بطنه الجائعة والتي لم يدخلها الطعام من يومين.

اقترب منه "زكي مراد" والد طيبة الذكر المطربة ليلى مراد وكان مطربا وملحناً أيضاً، وكان يتبع داود حسني ويستمع للحن الذي يغنيه وقال :

- يا سلام يا سي داود يا خسارتك في الفقر، كان داود حسني يغيب في لحنه مذهولاً من حالة الحمى الفنية التي تنتابه، همس في أذنه زكي مراد :

- والنبي لتعطيني هذه الأغنية أغنيها يا سي داود.

- لكن أنا متفق مع الست منيرة المهدية أن هذا اللحن لها.

- ويعني هي أعطتك أجرك؟

- لأ .. لكن الأمر..

ودس زكي مراد في يد داود خمسة جنيهات وقال له :

- أفوت عليك بكرة لأحفظ اللحن.

مضى زكي مراد، ومضى داود حسني ذاهلا عن نفسه يغني بصوته الرائع، وحين شعر بشدة جوعه توجه ناحية حسنين الكبابجي ليتناول وجبة لم يذقها من أيام، وحين وصل وتنشق دخان الشواء نظر في كفه فلم يجد الجنيهات الخمسة التي تبخرت من يده مثل فص ملح وذاب، ضاعت الجنيهات بسبب ذهوله.

حزن داود حسني وقال في سخرية :

- يعني يا داود ألم تكن الست منيرة أولى باللحن؟!

- الله يلعنك يا زكي ويلعن صباحك.

عائلة الشوا من أهل الشام

كان فاضل الشوا آخر عنقود يعزف الكمان من آل الشوافي مصر وآل الشوا عرب من حلب سوريا. وفي حلب كما يقول الناقد الفني الراحل كمال النجمي ولدت الكمنجة العربية على أيدي آل الشوا بعد ولادة الكمنجة التركية واستطاع أنطون الشوا الكبير أن يجعل للكمنجة مذاقا عربيا خاص، ولقد أدخلها إلى مصر في العام 1867.

ولقد اشتدت دهشة المدعوين في الأفراح الخديوية حين رأوا الشيخ حسن الجاهل يعزف على ربابته الشهيرة ثم يفسح مكانا لشاب جميل وبديع يعزف على الكمنجة بالموسيقى العربية وبلسان فصيح .. كانت نغمات البيقي والسيكا والنهاوند والصبا تنطلق على الأوتار بلسان عربي ففتنهم الأمر إلى حد أن صاح البعض :

- والنبي ياسي أنطون اعزف لنا على الكمنجة العربية يا ليل يا عين للصبح.

في صالون الهوانم

كان صالون الست نظلة هانم سليلة الأسرة الملكية ملتقى الطرف والنغم ونجوم عصرها من الشعراء والمحلنين والوجهاء وأغنياء الوقت من البشوات والبكوات.

في الصالون لا ضجيج ولا خروج عن حد الأدب، واستغراق في الاستماع الرصين.

قاسم أمين وشوقي بك وفتحي زغلول يستمعون لغناء فلتة الوقت الشيخ المنيلاوي وهو يطلق صوته :

بستان جمـالك من حسنه

أبهى وأجمل من بستان

وإن ماس قوامك على غصنه

يعـلم البلبل الألحان

لمس اللحن قلب الأميرة فجاش قلبها بعشق دفين، وألم بها الطرب، فأسبلت عينيها وجداً ومحبةً والكلمات مع اللحن يسريان في الشرايين مثل الدم.

كانت الجلسة رصينة وفجأة ارتفع صوت شاب مليح الوجه، وسيم التقاطيع بهرج سوقي :

- والنبي كمان يا سي الشيخ ، آه، والنبي كمان.

عصفت بالشاب صيحة استنكار من أفواه الارستقراطية وقال أحدهم بلهجة تركية :

- أداب سماع أفندم.

قال الشاعر :

- هذا الشاب من أولاد البلد.

- طبعا وهو جديد في حاشية الأميرة.

فتبسم شوقي بخبث وقال :

- إذن على مزاجه لا على مزاجنا فعاقبة هذه الليلة للفتى وحده.

وارتفع صوت المنيلاوي بالموال :

هويتك والهوى لا جلك هواني

ولكن كل دا ما كنش يلزم

وحين نظر أحمد شوقي للأميرة وكانت تروح بمروحتها على وجهها وتتأمل الفتى ابن البلد وقد أخذه الغرام والوجد قال مخاطبا قاسم أمين :

- من وجهة نظر الأميرة يا قاسم بك ، أظن أن هذا أقل ما يلزم.

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات