الأزمة... في غياب الموضوعية

الأزمة... في غياب الموضوعية
        

          تعقيبًا على ما ورد في المقال المنشور في العدد (550) سبتمبر 2004 للدكتور ناصيف نصار تحت عنوان (حول غياب الحوار الفلسفي في ثقافتنا). أود أن أشير إلى أن (أوجست كون) وهو من تلاميذ (سان سيمون) اعترف بالدور الحضاري الخلاق للإسلام, ولم يتنكر لقدرات العقل والفكر الإسلامي, فقد أعطى الإسلام الحضارة البشرية تراثاً ضخما من الفلسفة والعلم  ساهم مساهمة فعالة في انبعاث الحضارة التي نحياها في مطلع الألفية الميلادية الثالثة.

          ولعل الانطلاقة الفعالة لفلسفة العلوم عند العرب, قد بدأت من انطلاقة العصر العباسي الأول الذي امتاز بمبادئه القائمة على المساواة, فكانت العالمية الإسلامية التي احترمت الآخرين وسخرت الكون لمصلحة البشر.

          في أوربا يعد القرنان السابع عشر والثامن عشر, عصر التفكير حيث كانت الأمور تطرح على الشكل التالي: ( أنا أفكر, إذن أنا موجود : ديكارت).

          وتعيش أمتنا في عصر تتأثر فيه أكثر مما تؤثر وقد وقع أغلب الناس تحت تأثير الفلسفة الغربية في جوانب حياتهم المختلفة, حيث فرضت عليهم أفكار تناقض معتقداتهم.

          لقد خلقت ظاهرة العولمة حقائق جديدة لا يمكن إهمالها, إذ ازداد التعامل مع التكنولوجيا المتطورة في شتى مجالات الحياة وازداد أسلوب العلم عن بعد. ومع هذا فإن البحث والحوار الفلسفي لا يمكن أن يتفجر وينمو في ظل الكبت والممنوع والتسلط والاستبداد, والأمة الجائعة لا يطربها صوت العنادل, وأقصى ما تتمناه حلم بالطعام والمسكن والكساء !..

          وأما الاستمتاع بالتقدم العلمي وتذوق الفلسفات فهو من نصيب الشعوب القوية والغنية.

          والإبداع كما يقول جبرا إبراهيم جبرا : ( لا يأتلف مع الخوف, إذ أنت كلما كتبت عبارة خفت وفكرت في شطبها فإنّ كتابتك لا تستحق أن تقرأ, يجب على العربي أن يهيئ لنفسه ذلك المناخ الذي يمنع عنه الخوف فيستطيع أن يقول ما يراه بحرية, و إلاّ فإنّ تفكيرنا سيظل من الدرجة الثانية والثالثة والعاشرة ). (من كتاب : قضايا الشعر الحديث لـ جهاد فاضل, ط1 1984م).

          ألم يقل توفيق الحكيم إن وعيه كان مفقودا طيلة الحكم الناصري, لأنّ وعيه كان مغيبا ومكبوتا, والإفراج عنه سيؤهله لضيافة المعتقلات أو محاربته في لقمة عيشه.

          فالمواطن والمفكر في ظل الحكومات العربية المتعاقبة يجب أن يكون تابعا وليس حرا, أو أن يصبح بلا سمع ولا بصر ولا بصيرة ولا حتى ذاكرة, فقد ألغت الأنظمة الديكتاتورية الحريات الفردية كما ألغت الوعي الفردي والجماعي  مما أدى إلى انهيار الفكر وتراجعه وتقوقعه, وألغى بالتالي إلى حد بعيد النشاط الفلسفي.

          إنّ اعتماد بعض الأنظمة السياسية على القمع وتكميم الأفواه وتهميش قطاعات واسعة من المجتمع رافضة الاعتراف بالآخر ومحاولة إزالته من الوجود, وكل ذلك تحت شعار عدم منح العدو فرصة للاستفادة من خلافاتنا  حتى ولو كانت هذه الخلافات علمية أو فقهية أو اجتماعية ..الخ. تفكير مريض هدف إلى مسخ الفرد والمجتمع وسعى إلى لي عنق الحقائق..

          إن الخوف من إغضاب أهل الحول والطول  أزمّ الثقة بين الحاكم والمحكوم, مما دفع بالمتثاقفين والمتفلسفين إلى سدة الفكر والثقافة ليقوموا بدورهم كأبواق تسبح بحمد أسيادهم موهمة الناس بأنها أبواق ذات أبعاد وثقل,  ولعّل هذه الفكرة أبرز مسببات أزمة الفكر العربي المعاصر!

          وإذا كان (لكل شخص حقيقته الخاصة به) كما يقول المثل الإيطالي, فإنّ سياسة إعدام الآخر والتنكيل به التي سادت وطغت, قد عانى بسببها أغلب المفكرين ذوي الحقائق المناقضة لأفكار أزلام السلطان, فانتشرت وتضخمت أزمة عدم الاكتراث واللامبالاة بين المثقفين والمفكرين المهمشين خوفا على حياتهم ومصالحهم .

          إنه زمن ضاعت فيه بضاعة العلم وأضاءت فيه شقاوة أهل الجور والظلم.

          يقول باسكال: ((إن ما يعتبر حقيقة في جانب من جبال البرنس, يعتبر خطأ في الجانب الآخر)). وهذا ما كان عليه الحال مع مثقفي السلطة, إذ ليس بالإمكان التحاور معهم, ومناقشتهم على الدوام عقيمة لا ينفع فيها علم ولا فلسفة, إنها أزمة غياب العقلانية والموضوعية, والتي شكلت هي الأخرى عائقا وحاجزا أبعد مفكري الجانب الآخر عن المشاركة مشاركة فعالة بناءة وقادرة على مجاراة روح العصر, وبذلك انعدمت إمكانية وجود فلسفة عربية معاصرة وسارت الأمور من سيئ إلى أسوأ.

          وما لم ترفع الأنظمة المستبدة أيديها عن وسائل الإعلام وتلغي مقص الرقيب ومقصلة الأمن فإنّ الحوار السليم مع الفلاسفة والمشتغلين بالبحث الفلسفي لن يجد النور في أمتنا, في عصرنا, وفي زماننا!!

          ذلك لأن لوسائل الإعلام الحرة دورًا فاعلاً هو في دفع عجلة الحوار وتلاقح الأفكار وتطورها, وذلك من خلال إتاحة المجال لأصحاب الشأن من المهتمين بالعلوم الفلسفية المختلفة أن يتصدروا الصفحات ويتناولوا الشئون الفلسفية المختلفة ويطرحوها على بساط النقاش البّناء والحوار الحر غير المقيد بأغلال الأنظمة وقيود القطرية الضيقة والحزبية المقيتة..

          إنّ أمتنا بأمس الحاجة اليوم إلى طروحات فلسفية تناقش القضايا الفلسفية الحية المعاصرة كي يتسنى لنا المساهمة الفعالة في تطوير مجتمعاتنا وفي تقدمها وتقدم الحضارة الإنسانية بعامة كي تأخذ أمتنا مكانها اللائق بين الأمم.

د. عمر فوزي نجاري
اللاذقية - سورية

 

   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات